شَدْعِي ع القطار
بسام الهلسه
[email protected]
* الحي الذي عشت فيه طفولتي المبكرة في
عمَان، حمل اسم "المحطة" نسبة إلى محطة
توقف القطار القديم الذي ما زلت أذكر صوت صفيره المديد المميز ومرأى قاطرته تجر
خلفها العربات سائرة بتهادٍ وإختيال.
أنا وصديق لي كان يحلو لنا أن نجلس
بجانب طريقه الملتوي عبر "جبل النصر"
المقابل، لنشاهده عن قرب ولنضع قطعاً من المسامير والأسلاك على سكته حتى تمر عليها
عجلاته الحديدية فتحولها إلى شفرات وسيوف صغيرة، حتى نهانا عما نفعل أحد المراقبين!
و"شَدْعِي
ع القطار" (وتعني: "بأي شيء أدعو على القطار) أغنية سمعتها صغيراً من
جنود عراقيين كانت وحداتهم العسكرية مرابطة في الأردن في إطار ما كان يعرف بالجبهة
الشرقية، أيام كان للعرب جبهاتهم: الشرقية والشمالية
والجنوبية ضد إسرائيل. مضت السنون، وانفرطت الجبهات بعد توقيع اتفاقيات
السلام؛ ولم تعد ثمة حاجة للدعاء على القطار بعدما عاد الجنود للديار, بل صار في
حاجة للدعاء له بالعودة لوصل بلاد العرب!
* * *
جاء القطار متأخراً إلى بلادنا
العربية - ما عدا مصر التي جرى بناء سككها
الحديد قرب منتصف القرن التاسع عشر- وقد احتفل مؤخراً
في سورية والأردن بالذكرى المئوية له.
ففي العام (1908م) تم إنجاز المشروع
الذي أقره السلطان العثماني "عبدالحميد الثاني"
وتبرع لتمويله المسلمون في جميع أقطارهم من أموالهم الخاصة وعرف بـ"سكة
حديد الحجاز".
وقد استمر هذا الخط الممتد
من تركية إلى العراق, إلى أقطار بلاد الشام, إلى المدينة
المنورة في الحجاز الشريف، حتى الحرب العالمية الأولى -حيث جرى قطعه في
مواضع مختلفة- فتعطل ولم يعد يصل بين الأقطار التي
جزأتها اتفاقيات سايكس- بيكو وسان ريمو، وحافظت الدول المنبثقة عنها على
هذا الوضع، وصار مذاك خطاً داخلياً خاصاً بكل قطر.
* * *
وكما نذكر، أخذ القطار اسمه الحالي
من "قطار الإبل" (أي قافلة الإبل التي تسير
في خط متتابع موصول) بعد ما كان يطلق عليه في كل قطر عربي اسم خاص..
ففي مصر دعي بـ"الوابور"
وقد كتب فيه وله الشعراء قصائد غناها المغنون كالأغنية المشهورة لـ"محمد
عبدالوهاب" "يا وابور قول لي رايح على فين؟" وفي بلاد الشام
أطلقوا عليه اسم "الترين" ولم يغنوا له
كأهل مصر، ربما لأنه قوَّض مصالح قبائلهم وقبائل
الحجاز التي كانت تنتفع بنقل الحجاج وحراستهم!
وظلوا على عهدهم القديم يحنون لقوافل
الجمال وأيامها الخوالي ويغنون لها بمزاج حزين:
"جْمال محمله.. وجْراس بتْرن
والأيام إل مضت.. ع البال بِتْعِن
حملت بضاعتي عليهن لابيعهن
غريب.. وما حدا مني اشترى!"
أما في العراق الذي كان من نصيب
الاحتلال البريطاني وموظفيه الهنود، فسموه "الريل"
(من الكلمة الإنجليزية "Railway").
وهو الذي خاطبه "مظفر النواب" في قصيدته
الذائعة المغناة "للريل وحمد":
"يا ريل صِيح بقهر!
صيحة عشق يا ريل!"
* * *
عرّب العرب
"أسماء" القطار إذاً, لكنهم تركوا
"المسمى" بلا تعريب! وهو الأمر الضروري
والحيوي والملح، ليس فقط بمعنى مد سككه وخطوطه لتصل
الأقطار العربية كلها ببعضها البعض (مع سائر الخطوط الجوية والبرية
والبحرية)، بل بمعنى تصنيعه عربياً.
والتصنيع –كالتوحيد- مهمتان لا بد
منهما للعرب إذا ما أرادوا تصفية وضْعِيتَيْ التخلف والتبعية الاقتصادية. وهذا يعني
تحرير إرادتهم السياسية وأقطارهم المحتلة
(لنتذكر أن قيام دولة إسرائيل أدى إلى قطع الاتصال البري بين مصر والشام، فانقطع
معه خط سكة الحديد الذي كان موجوداً),
ويعني
إزاحة طبقة الكمبرادور (الوكلاء التجاريين للصناعات والخدمات الأجنبية)
من المواقع الاقتصادية، وتوظيف الخبرات والكفاءات
العربية المعطلة أو المهاجرة، والأموال
الطائلة المبددة والمودعة في البنوك الغربية في بناء تكامل اقتصادي
وسوق عربية مشتركة، يكون فتح الحدود أمام حركة
المواطنين ووصل البلدان العربية ببعضها، مقدمة لها.
وما لم تدرك هذه المهمات ويتم تحقيقها،
فإن حياة العرب ومصايرهم ستظل رهينة للإملاءات
والتقلبات الدولية المهيمنة سياسياً واقتصادياً ومعرفياً..
وإلى أن يغيروا الأوضاع القائمة، فإن
عليهم أن يحاسبوا أنفسهم –و"يدعو عليها"-
لا على القطار (الذي أخذ المحبوب ومضى به كما تقول الأغنية العراقية!) فليس هو
المذنب في كون سككه وخطوطه ليست عربية!