حرقةٌ.. وتوجُّعُ
سحر المصري
طرابلس - لبنان
[email protected]
قالوا ارحل! اثّاقلتُ إلى الأرض وشعرتُ بجذوري تتشبّث بأرضها.. إلا أنهم اقتلعوني
ورموني في مهبّ البلدان وحيث وقعتُ.. بدأت المأساة!
أنا
هنا.. وأبي هناك.. وأهلي هنالك.. نطلُّ على بعضنا عبر أثير لا يروي ظمأ الشوق
للاحتضان!
أفتش عنهم في ذاكرتي التي أتلفتها مشاهد قابعة في عمق الوجدان.. تقتيل تشريد
وحرمان!
قالوا: لاجئ! تجمّدت الدماء في العروق.. هناك في فلسطين كان لي دار وبستان..
وبيّارة.. وجنان من زيتون ورمان.. كل هذا قد اندثر.. وما بقي لي إلا صك امتلاك
يقولون: مزوّر! ومفتاح بيت مجنزر!
وذكريات صمود.. بها أفخر..
وأبكي.. عمري وداري وأرضي.. وبلدي.. أبكي اغتصابها وقد كانت لا تُقهَر.. حين
صلاحُها شمّر.. فطرد الغاصبين وتعالت صيحات: الله أكبر!
وَيْحِي!.. على زمن بخلت نساء العالمين على الإتيان بعمر وسعد وجعفر.. فعربد أبو
جهل وابن سلول وأرعد الباطل وزمجر..
ابن
نكبة شعبٍ متمرّد ثابت صلبٍ أنا.. أعيش بين نكبة ونكبات.. فمنذ ارتحلنا ولم تفارقنا
لحظة الآهات.. وكل يوم يبزغ فجره لنا فيه قصص وحكايات.. من أين أبدأ.. وعند كل
نهاية.. بدايات؟!؟
أنظرُ غزة في الخيام أهلها.. طعامهم فيها خبز مغمّس بالديون والحرمان.. وشرابهم بحر
يحدّ أحلامهم.. ونورهم قرآن فجر وتسبيح ثبات.. وللحق فرقان!
وفي
الضفة كبتٌ وعويل.. وفي القدس تهويد وذبول.. ومقدّسات مدنّسة.. ويح قلبي أما لي
للجنّة من عبور؟!؟
أمّا خارج الوطن فأحلام عودة مطرّزة بالحزن.. وقيود غربة وكثير من الفتن! فإلى
متى؟!؟
قرىً مهجّرة.. مدنٌ ومساجد مدمّرة.. مقابر مجروفة.. آثارٌ مطموسة.. لاجئون
مشرّدون.. قتلى وجرحى مهمّشون.. غلاءٌ.. وحرمان من دواء وماء وكهرباء وغذاء..
وأحياناً حتى من رغيف!
كانت هذه نتائج نكبة تاريخها سنة ثمانٍ وأربعين..
واليوم.. من جديد.. جوعٌ وتقتيل وتشريد وحصار.. وظلم وقهر وخوفٌ ودمار.. عناوين
عريضة للمرحلة! والمذابح متتالية! وحروبٌ متواصلة.. ونكباتٌ متسلسلة!
كثرة مخيمات وقلة خدمات.. وبيوتٌ مكتظّة.. وشوارع متلاصقة.. وطرقات ضيّقة كضيق
الدنيا حين تتوارثنا الأحزان!
فلسطين مهلاً فالمحبُّ مغامرٌ *** بقلبٍ قويٍّ لا ينوءُ بمَحمل
يصبِّرُه وعد الله بالنصر والذُرا *** وقبضةُ مفتاح بكفَّينِ نُحَّلِ
ذاكرتنا.. هي وثيقة العودة.. ولن نفرّط فيها.. لأننا إن فعلنا فحينها لا أرض تقلّنا
ولا سماء تظلنا.. وسيبقى عنواننا التشريد وأمّنا تنتظر أن تلمّنا!
جرح
الحنين.. وألم السنين.. لن يبقى محفوراً في شراييني الشتات.. سأعود!
لم
يعد لدي ما أورثه لأبنائي غير ذاكرة مملوءة بصور قريتنا المسلوبة.. ومفتاح الدار!
والتمسك بحق العودة!
صمود.. وثبات.. وإياب.. ولئن رفعوا بعد كل هذه السنين الأذان في مسجد حطين.. فسنرفع
الأذان في كل فلسطين.. أذان العزّة والإباء.. أذان الوحدة والانتصار.. أذان العودة
وذاتية القرار!
الأرض حق لمن له فيها تاريخ وجذور.. وليس لمن اغتصبها في غفلة من ضمير!
وخيول المجد تضبح من بعيد.. ألا تسمع ذاك الصهيل؟!
لن
أبقى لاجئاً.. وربي.. سأعود!
كل
نكبة.. ونحن إلى العودة.. أقرب!