العطاء غير المنظور

حسام مقلد *

[email protected]

يحتاج كل منا خلال مسيرة الحياة إلى دعم ومساندة الآخرين من حوله، ويظن الكثيرون أن الإنسان يحتاج إلى الدعم المادي فقط، ويحصر أغلب الناس صور وأشكال هذا الدعم في عدة أمور القاسم المشترك بينها أنها كلها عطاء مادي منظور معروف يمارسه الباذلون والمنفقون، لكن في الواقع يمتلك الدين الإسلامي منظومة راقية متكاملة من المبادئ السامية والقيم الرفيعة تحقق الإشباع الإنساني الكامل لكافة جوانب الحياة، ومن سمو هذا الدين الخالد أنه يطرق أبوابا كثيرة للبذل والسخاء قد لا يلتفت إليها الكثيرون، وربما تكون صور العطاء المعنوي غير المرئي أكثر إلحاحا وأهمية بالنسبة  لفئات معينة من شرائح المجتمع؛ فعلى سبيل المثال قد ترى شيخاً مسناً في الشارع ـ أو في أية وسيلة مواصلات ... ـ يتطلع إليك في صمت، وترمقُك نظراتُه خلسةً في سكون وتسلل، وأول ما يتبادر إلى الذهن في هذه الحال أنه شيخ عجوز يحتاج إلى تقديم المساعدة أو إعطائه بعض المال ، لكن ربما تكون حاجته الأهم ليست المال بل الحاجة إلى الحب والتقدير والاحترام، وإشعاره بقيمته ودوره في الحياة، وإشعاره بالعرفان بالجميل، وأهمية ما أسداه لمن تلاه من أجيال لاحقة، والإعراب عن استمرارية الحياة في الترحيب به لأنه صانع لها وليس عبئا عليها!! وغالبا ما ينتظر منك تقديم أي مظهر من مظاهر هذا الترحيب كإلقاء السلام، والابتسامة في وجهه، أو السؤال عن صحته، ناهيك عن إجلاسه على مقعدك إن كنتما في وسيلة مواصلات مزدحمة، أو حمْل شيء ثقيل عنه ...، وغير ذلك من صور الاحترام والتقدير والمؤازرة!!  

وعلى هذا المثال فقِسْ، والحقيقة نحن بحاجة ماسة إلى  تأمل حياتنا الاجتماعية والأسرية في تأنٍّ وعمق شديد؛ لأن المجتمع بكافة شرائحه يحتاج ( وينتظر) المزيد والمزيد من صور العطاء والسخاء والبذل ... لاسيما عطاء المشاعر والأحاسيس والعواطف الإنسانية النبيلة التي تؤازرنا وقت الشدة وتربت على أكتافنا برفقٍ وتؤدة، وتشعرنا بالتعاطف والمواساة، وهذه دعوة وهمسة في أعماق كلٍّ منا لاستنهاض الهمة عسى أن تتفتق الأذهان وتتسابق السواعد لمسح دمعة حزينة، ورسم بسمة مشرقة: على وجه طفل يتيم، أو أرملة مسكينة، أو شيخ عجوز، أو إنسان موجوع، أو عابر سبيل أعوزته الحاجة، أو طالب علم أعياه الفقر وكاد يصرفه عن طلبه، أو مدين أعياه الدَّين ونغَّص عليه حياته، أو صاحب عيال يئن تحت وطأة أعباء الحياة ...، فإذا كنا لا نستطيع تقديم الشيء المادي الكبير فلا أقل من بذل البسمة والكلمة الطيبة، وتقديم كافة أشكال الدعم المعنوي والمؤازرة النفسية، ولنخفف من الفردية والأنانية التي تغلف الآن حياتنا في كل شيء، فكلنا نؤجل القيام بدورنا الاجتماعي، وكلنا نتهرب منه، وكلنا نفكر بطريقة فردية ذاتية بحتة، بمعنى أن كل واحد منا مهموم بشؤونه الخاصة، شؤونه هو وحده، ويفكر في مصلحته هو فقط؛ وبسبب ضعف الحالة الاقتصادية فالكل مطحون ومسحوق تحت وطأة الحياة ولا نقدم شيئا للمجتمع، ونكتفي جميعا بالنقد والصراخ، وإظهار كافة مشاعر الضجر والضيق والتبرم، وهذا الوضع القاتم أثَّر سلبيا على الصحة النفيسة للمجتمع كله بشكل عام؛ فانتشرت الكآبة وعم الحزن وساد اليأس قطاعات عريضة وشرائح واسعة من الناس...، ونحن أحوج ما نكون الآن لتغيير كل هذه السلبيات والتعاطي بإيجابية وأمل وتفاؤل مع واقعنا المرير بالفعل؛ إذ لن تجدي الفردية والذاتية والأنانية نفعا، ولن نجني من اليأس والضجر والتشكِّي أية فائدة، ولابد من التعاون والتساند والترابط فيما بيننا، فالجزر المنعزلة المنغلقة على أحزانها وأوجاعها، أو المنكفئة على نفسها والتي تعمل لنفسها فقط لن تشعر بأية سعادة حقيقية ولن تعرف أية بهجة صادقة؛ فلا بد من انتشار روح الجماعة فيما بيننا، والإحساس بالآخرين ومشاكلهم وأوجاعهم وآلامهم وأحزانهم، وتقديم كافة أشكال العطاء المنظور وغير المنظورلهم؛ كي يحيا مجتمعنا في تكافل ورحمة ومواساة، وإذا كان العطاء المادي المنظور مشهورا ومعروفا بيننا فلنذكر بعض صور العطاء غير المنظور التي نفتقدها ويحتاجها مجتمعنا بشدة هذه الأيام:

·        إفشاء السلام:

ماذا؟!! هل إفشاء السلام نوع من العطاء؟!! نعم، بالطبع  إفشاء السلام لون من ألوان العطاء غير المنظور، وما أجمله من عطاء!! إن إلقاء السلام يشيع روح المودة والألفة والمحبة بين أبناء المجتمع؛ مما يضفي على الحياة بهاءً وبهجة، وحتى ندرك أهمية إفشاء السلام علينا أن نتدبر هذه الأحاديث الشريفة:

عن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ  قال : قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ــ : "لا تدخلون الجنة حتى تؤمنوا ولا تؤمنوا حتى تحابوا أو لا أدلكم على شيء إذا فعلمتموه تحاببتم؟ أفشوا السلام بينكم" (رواه مسلم).

وعن أبي يوسف عبد الله بن سلام ـ رضي الله عنه ـ  قال سمعت رسول الله  ـ صلى الله عليه وسلم  ـ يقول: " يا أيها الناس أفشوا السلام، وأطعموا الطعام، وصلوا بالليل والناس نيام، تدخلوا الجنة بسلام" ( رواه الترمذي).

وعن عبد الله بن عمرو بن العاص ـ رضي الله عنهما ـ  أن رجلا سأل رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : أي الإسلام خير؟ فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ :" تطعم الطعام، وتقرأ السلام، على من عرفت ومن لم تعرف

1.     يجعل الرسول الكريم ـ صلى الله عليه وسلم ـ إفشاء السلام بين الناس مفتاح المحبة بينهم، ويجعل المحبة بين الناس باباً للإيمان الذي لا يدخل العبد الجنة دونه!!! فما أعظم هذا المفتاح (إفشاء السلام) الذي يوصل إلى الجنة، وقد أكد هذا المعنى الحديث الثاني، فإفشاء السلام من الأعمال التي تدخل المسلم الجنة بسلام.

2.     يحدد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ أكثر أعمال الإسلام ثواباً، ويجعل إفشاء السلام

3.     تأكيد أهمية إلقاء السلام على من نعرف ومن لا نعرف ممن نقابلهم في الطريق.

4.     إفشاء السلام من ألوان العطاء غير المنظور، وهو عطاء جليل النفع عظيم الأثر في الفرد وفي المجتمع، وهو سهل ميسورفي كل وقت وكل مكان، ومع ذلك نرى هذه الأيام كثرة من الناس لا تدرك أهمية هذا اللون من العطاء، وبالتالي لا تحافظ على بذله رغم أنه لن يكلفها شيئا!!

5..     إفشاء السلام بين الناس دليل على الرقي والتحضر، إضافة إلى كونه يوطد أواصر المحبة والألفة بين أبناء المجتمع، وهو سلوك سوي يعبر عن نضج الشخصية التي تمارسه، وقدرتها على تكوين علاقات اجتماعية صحية مع الآخرين، ونشر الخير والتراحم في محيطها.

··        سلامة القلب:

وفي الحديث الشريف الذي رواه أنس بن مالك ـ رضي الله عنه ـ قال: كنا جلوسا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنة!!" فطلع رجل من الأنصار تنطف لحيته من وضوئه، قد تعلق نعليه في يده الشمال، فلما كان الغد قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ مثل ذلك فطلع الرجل مثل المرة الأولى، فلما كان اليوم الثالث قال النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  مثل مقالته أيضا!! فطلع ذلك الرجل مثل حاله الأولى فلما قام النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ  تبعه عبد الله بن عمرو بن العاص فقال: إني لاحيت أبي (أي تجادلت وتخاصمت مع أبي) فأقسمت لا أدخل عليه ثلاثاً، فإن رأيتَ أن تؤويني إليك حتى تمضي ( وفي رواية حتى تحل يميني ) فعلتُ، قال الرجل: نعم!! قال أنس: وكان عبد الله يحدث أنه بات معه تلك الليالي الثلاث، فلم يره يقوم من الليل شيئا، غير أنه إذا تعار (أي تكشف غطاؤه) وتقلَّب على فراشه ذكر الله عز و جل وكبَّر حتى يقوم لصلاة الفجر ( فيسبغ الوضوء ) قال عبد الله بن عمرو بن العاص: غير أني لم أسمعه يقول إلا خيرا، فلما مضت الثلاث ليال وكدت أن أحتقر عمله (أي أعده بسيطا قليلا) قلت: يا عبد الله إني لم يكن بيني وبين أبي غضبٌ، ولا هجْرٌ ثَمَّ!! ولكن سمعت رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  يقول ثلاث مرات: "يطلع عليكم الآن رجل من أهل الجنةة" فطلعت أنت الثلاث مرات، فأردتُ أن آوي إليك لأنظرَ ما عملُك فأقتدي بك، فلم أرك  تعمل كثير عمل، فما الذي بلغ بك ما قال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ  فقال الرجل: ما هو إلا ما رأيت!! يقول عبد الله بن عمرو بن العاص فانصرفت عنه، فلما ولَّيْتُ، دعاني فقال: ما هو إلا ما رأيت، غير أني لا أجد في نفسي لأحد من المسلمين غشا ( وفي رواية غلا ) ولا أحسد أحدا على خير أعطاه الله إياه فقال عبد الله بن عمرو بن العاص: هذه التي بلغت بك، وهي التي لا نطيق!!

·        إدخال السرور على الناس:

يتقابل الناس مع بعضهم البعض يوميا ويتعاملون معا في شتى مناحي الحياة، ومع ذلك يحترف البعض العبوس الدائم في وجوه الآخرين، ويتفنن هؤلاء في إضفاء الكآبة والحزن على الحياة، ونسوا أن إدخال السرور على الناس من أفضل الأعمال، بل هو من القربات والصدقات، فعن أبي ذر قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ: " تبسمك في وجه أخيك لك صدقة، وأمرك بالمعروف ونهيك عن المنكر صدقة، وإرشادك الرجل في أرض الضلال لك صدقة، وبصرك الرجل الرديء البصر لك صدقة، وإماطتك الحجر والشوكة والعظم عن الطريق لك صدقة وإفراغك من دلوك في دلو أخيك لك صدقة " (رواه البخاري في الأدب المفرد).

وعن عبد الله بن عمر بن الخطاب ـ رضي الله عنهما ـ أن رجلا جاء إلى النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ فقال: يا رسول الله أيُّ الناس أحب إلى الله؟ وأيُّ الأعمال أحب إلى الله؟ فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : " أحب الناس إلى الله تعالى أنفعهم للناس، وأحب الأعمال إلى الله عز وجل: سرور تدخله على مسلم، أو تكشف عنه كربة، أو تقضي عنه ديْنا، أو تطرد عنه جوعا، و لأن أمشي مع أخٍ في حاجة أحب إلي من أن أعتكف في هذا المسجد، ( يعني مسجد المدينة ) شهرا، ومن كفَّ غضبه ستر الله عورته، ومن كظم غيظه ولو شاء أن يمضيه أمضاه ملأ الله قلبه رجاء يوم القيامة، ومن مشى مع أخيه في حاجة حتى تتهيأ له أثبت الله قدمه يوم تزول الأقدام ( وزاد في رواية: وإن سوء الخلق يفسد العمل كما يفسد الخل العسل ) " (أخرجه الطبراني وحسنه الألباني).

لقد أراد الله تعالى أن يتفاوت الناس في قدراتهم وإمكانياتهم الجسدية والذهنية، ومهاراتهم العملية، وأيضا في مواهبهم وظروفهم وأرزاقهم من المال والصحة والجاه والسلطة والعلم والأولاد والسعادة ...، وأراد الله تعالى أن يجتمع الناس ليتعاونوا على تعمير الكون وبناء الحياة والحضارة وصناعة العمران، وحتى يتم ذلك جعل بعضهم يفتقر إلى بعض ويحتاج إليه.. وليس هذا في الاحتياجات المادية الحسية وحسب، بل وأيضا في المشاعر والأحاسيس والمطالب النفسية؛ فالإنسان يحتاج إلى الشعور بالدفء والحنان والحب والاحترام والاهتمام من الآخرين؛ ولذلك شرع العطاء ليكمل النقص ويحقق التكامل والتكافل والتراحم وينشر المودة والترابط بين الناس... إن ابتسامة رقيقة في وجوه الآخرين تحقق الكثير، وزيارة لمريض قد تفعل ما لا تفعله الأدوية والعقاقير، وكلمة حانية صادقة تخرج من القلب يكون لها وقع عجيب على نفوس السامعين، قال تعالى: "ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ " [فصلت : 34].

              

 * كاتب إسلامي مصري