هلَّا اكتشفت نفسك ياعبد الله

فؤاد وجاني

يكاد لاينكر اثنان أن الانسان فريد مكرَّم  لايشبه أخاه الانسان سوى في المادة ، أي في الاطراف والعظام واللحم والشعر والجلد وفي الغرائز والحاجات كالطعام والشراب والجنس والنوم ، أما روح الانسان  فمنفردة بنوعها ، فريدة في جوهرها ، مستقلة بكيانها . وقد تجد أخوين توأمين لايجمع بينهما سوى الشبه في الملامح لكنهما مختلفان أيما اختلاف في الطبائع والميول ، بل إنك لن تجد لصبغيات الإنسان وأحماضه النووية وبصماته الجلدية مثيلا عند إنسان آخر.

إن الاختلاف والتنوع قاعدتان في الطبيعة ، فقد تجد الشجرة من النوع الواحد تختلف عن الشجر من نفس الصنف في أوراقها وظلها وثمارها وطولها وعرضها وانحنائها وعروقها ، وكذلك اختلاف الزهر والنبات والطير والحشرات وسائر الحيوان ، إذ الروح تغلب على المادة . وقد يحدث الشبه في الصنف و الشكل والجسم لكن روح كل مخلوق واحدة لن تجد لها نظيرا سواء بين نفس الصنف أو غيره .

الفطرة إذن تكمن في الاختلاف الذي يحدث التنوع المثمر ، تلكم هي الحكمة الإلهية في استمرار الحياة ورقيها نحو الأفضل . لكن الإنسان كثيرا مايسير عكس اتجاه الطبيعة ، فتراه يتقمص أدوارا حددها له المجتمع ورسمتها له الأعراف وخطتها له التقاليد وشقتها له الضرورات، فيسعى سعيا حثيثا نحو تقليد الآخر ليصبح مثله أو أحسن منه ، ويستسلم لنزوات المجتمع ، فتتكرر النسخ الانسانية المناقضة لطبيعة الاختلاف ،  فكم من طبيب أصبح طبيبا إرضاء لوالديه بينما هو لايطيق بالطب ذرعا ولايرغبه ، وكم من مهندس صار مهندسا ليشار اليه بالبنان بينما هو يكره الهندسة كرها ، وكم من سياسي اعتلى عرش السياسة طمعا في المناصب والحظوة عند أولياء الأمور بينما نفسه تزهق من التملق والتصنع ، وكم من موظف يكره وظيفته ويلعن يومه تلو الآخر فما يكاد يترك مكتبه حتى ينفث في السجائر غله وينفخ في آذان أهله غضبه على مجرى حياته.

و يقضي الواحد منهم جل عمره يعمل عملا يكرهه سواء أكان ذلك في سبيل تأمين القوت أو ضمان الرفاهية  ، وهو في ذلكم يبتعد عن نفسه كل البعد وينأى عن خصوصيته ، ويتمرد على  فطرته التي تميزه عن أقرانه ، وعوض أن يكتشف نفسه يسعى لاكتشاف الآخرين والحذو حذوهم ليعلم في آخر المطاف أنه قد أضاع أثمن مايملك : عمره ، وقضاه بعيدا عنه ،  فيشقى المجتمع بشقاء هكذا أناس  ويتخلف بتخلفهم عن الامتياز .

قبل أسابيع قليلة قرأت خبرا مثيرا  حيث أن أحد رجال الأعمال الأمريكيين الناجحين ماديا البائسين روحيا قضى تسع عشرة سنة يكد ليلا ونهار ا حتى أسس لنفسه شركة ضخمة تبيع أجهزة أمن ومراقبة ، وهو المتخرج من كلية الآداب الإنجليزية ، ليكتشف بعدها أنه ليس سعيدا ، فباع شركته ببضع ملايين من الدولارات وتوجه لممارسة حلمه في  تدريس أدب شكسبير مقابل آلاف قليلة في السنة ، وقد أثرى الآن الخزانة الأدبية بألوان شتى من الكتب والأطروحات.

وفي فرنسا ، قررت أسرة مكونة من فرنسية مسلمة وزوجها المغربي بمعية أولادهما هجرة حياة الترف والنعيم بضواحي باريس الى إحدى القرى جنوب المغرب بعد زيارة سياحية اكتشفوا فيها معاني الحياة الحقيقية ، وما هي إلا شهور معدودة حتى كانت الزوجة الفرنسية المولد تعتني بتربية الدجاج وفتل الكسكس بالسمن البلدي ، وتتكلم اللغة البربرية ، وتتقن فنون الطبخ المغربي، وتتفوق بقدراتها  كفلاحة وربة بيت مغربية على نساء القرية كلهن.

وتعرفت على كهل أمريكي تجاوز الثمانين ، اكتشف في نفسه ميولا شديدا  نحو آلة القيتار ، فقرر تعلم عزفه في أحد المعاهد الموسيقية،  وماهي إلا سنتين أو ثلاث حتى أصبح الرجل نجما يضرب به الناس الأمثال  في سماء الموسيقى .

وشاب إسباني ولد مسيحيا ، درس الديانات فوجد ضالته في  الإسلام ، فتعلم الفصحى والشريعة وأصبح داعية مكرسا حياته لخدمة الدين ، يتنقل بين بلدان أمريكا اللاتينية  ، يلقي دروس العقيدة على مسامع الناطقين بالاسبانية.

وطبيب مصري ترك الطب ومرضاه متفرغا للمقاولات ، فاستخلص من القمامة ذهبا ، وحول النفايات الى طاقة قابلة للاستعمال، وهو الآن يتصدر قائمة شركات إدارة النفايات بفضل الإدارة الحكيمة للنفس واستعمالها فيما حباها الله به من خصوصية.

وقد وعى السلف الصالح أهمية اكتشاف الذات وخصائصها من قوة وضعف ، و قدروها حق قدرها ، فملكوا الدنيا برها وبحرها ، وكان لهم السبق في ميادين الأدب والفلسفة والصناعات والاختراعات والملاحة والفلاحة والطيران وعلوم الدفاع والتسلح وفنون الري والنبات ومعارف الطب وتطبيقات الجراحة ونظريات الفيزياء والكيمياء وحسابات الفلك ومعماريات الهندسة ودراسات التاريخ  ورسومات المسالك والممالك وسائر العلوم والفنون .

إن الحياة قصيرة الأمد ، وليس هنالك ماهو حقيقي مثل حلمك ،  وقد يتغير العالم من حولك لكن أحلامك لن تتغير، ومن لايحب شيئا لن يبدع فيه ، والسعادة كل السعادة في سبر أعماق نفسك واكتشاف محيط ذاتك  وتحقيق أحلامك رغما عن رهان العيش والمسؤوليات .