قضية فلسطين

قضية فلسطين

والمسرحيّات

بين سوء الإخراج وفشل التمثيل

د.عدنان علي رضا النحوي

www.alnahwi.com

[email protected]

إن مؤتمر " أنا بوليس " الذي دعا إليه الرئيس الأمريكي بوش ، واستجاب له الكثيرون من دول العالم ، يثير في القلب تاريخاً طويلاً من قضية فلسطين ، وصوراً متتالية لمآسٍ ممتدّة ، وانعطافات كثيرة بين مكر وكيد ، وكذب ونفاق ، وتناقض وتنازل ، سواءً أكان في تاريخ فلسطين أم تاريخ العالم الإسلامي كله !

استعراض هذا التاريخ وتلك الصور والانعطافات توحي بصورة تجمع الأحداث كلها على شكل مسرحيّة كبيرة طويلة ، فشل فيها الممثّلون وانكشف سوء المخرجين ، وهوان آخرين ، مما يذكرني بأبيات من الشعر قلتها في نهاية قصيدة : تلّ الزعتر ، وأُعيدها هنا لدقة وصفها ومناسباتها المتتالية :

مسارحَ الشرقِ ! كم أخرجْتِ دامية
تـحـرَّكَتْ خلفَكِ الأشباح iiصامتة
وحرّكتْ  من دُمىً لانَتْ على iiيَدِها
مـصـفّـقـاً  لـبطولاتٍ iiمُزيّفَةٍ
كـلٌّ  يـقـوم بـدَورٍ كيْ iiيناسبَه




مـن المآسي وكم موَّهْتِ من iiخَبَر
وأطْـلَـقَـتْ  ببغاواتٍ مِنَ iiالبشرِ
ودُوْنَـها الشعب في تيهٍ وفي iiخدرِ
بـكـل  لَـونٍ من الأَلوان iiمُبْتكرِ
فـتـلتقي كلُّها في مسرح iiالصور

مَنِ الذين ذهبوا إلى هذا المؤتمر والمؤتمرات السابقة في تاريخ طويل ، ومَنِ الذين لم يذهبوا ولماذا لم يذهبوا ؟!

الذين ذهبوا إليه يمكن حصرهم بثلاث فئات : الفئة الأولى : إسرائيل وأمريكا ودول أوروبا . والفئة الثانية : منظمة التحرير الفلسطينية ، والفئة الثالثة : الدول العربية والإسلامية ، أما فريق أمريكا وإسرائيل وأوروبا فهو صفٌّ واحد متساند ، لهم موقف محدّد ثابت من قضية فلسطين ، ثبتوا عليه منذ أوائل القرن الماضي حتى اليوم . ولهم خُطتهم المدروسة لسنوات طويلة مقبلة ، خُطة تتجّه إلى هدف محدّد أو أهداف محددة !

أما الفلسطينيون فقد ذهب فريق منهم منسجماً مع خطه الذي أعلنه قبل سنين بعد أن اكتشف أنهم غير قادرين على محو إسرائيل وتحرير فلسطين . وكذلك رأت الدول العربية رأياً شبيهاً لذلك يقوم على السعي إلى السلام مع إسرائيل على أسس يُتفَقُ عليها .

ولم يكن موقف منظمة التحرير موقفها وحدها ، لقد اكتشف الجميع أنهم لا يقوون على إزالة إِسرائيل ولا تحقيق شعارهم السابق : تحرير فلسطين من النهر إلى البحر ، ولا على شعار إلقائها في البحر ، ولا على شعار محوها من الخارطة ، وتنازلوا ليطالبوا بدولة فلسطينية مسخٍ لا تملك أيّ مقومات الحياة . فالماء من اليهود ، والكهرباء من اليهود ، والمال من اليهود وغيرهم . إلا أنّ بعضهم رأى أن يدور حول ذلك ويقول لن نعترف بإسرائيل ، وتحرير فلسطين يؤجل إلى زمن مقبل يعلمه الله . ولكن دخول الانتخابات مع منظمة التحرير وقبولَ مبدأ الدَّولة الفلسطينية ، وتسلم أمر الحكومة أول الأمر ، والدعوة إلى حكومة وحدة وطنية بعد ذلك ، واللجوء إلى روسيا وإلى إيران وغيرهما ، هذا كله يؤكد أن الجميع اعترفوا بإسرائيل بأكثر من وسيلة .

وعندما ظهرت الدعوة إلى أنا بوليس ، فدُعي فريق من الفلسطينيين ولم يُدعَ فريق آخر ، ظهر الصراع بين الفلسطينيين وبدأت الاتهامات والتجريح مما أوهن موقف الفلسطينيين كلّية . مع أن الجميع أصبح يدرك حقيقة القوى وحقيقة إمكاناتهم .

إنا لا نرى فرقاً بين المطالب كلها إلا أن منهم من صارح وأعلن ، ومنهم من دار وناور . والنتيجة واحدة . ولكن هذه الحالة تشير إلى أن هناك من يريد أن يثبّت نفسه فقط في الساحة بجميع الوسائل والمناورات والمزايدات ، وتُطْوَى قضية فلسطين إلا من الشعارات التي يضجّ بها بعضهم ليجمع بها حوله الرأي العام والأنصار والمؤيدين والجماهير على شعارات فحسب ، مما ذكّرني بأبيات قلتها في : ملحمة الإسلام من فلسطين إلى لقاء المؤمنين ، أعيد بعضها هنا :

كلٌّ يقول  أنا  " الذي" ينجي  الديا        ر  بوهمه     وشعاره   المتعجّلِ

كلٌّ يقول أنا "الذي"! فإذا "الذي"        ليس "الذي"! يا ويل من لم يعدِلِ!

بعض الدول حرّكت كلّ وسائل إعلامها لتهاجم المؤتمر ، وتحرّك معها كلّ التابعين لها هنا وهناك ! وبرزت مواقع التبعيّة بشكل جليّ !

نعم ! قد يكون المؤتمر فاشلاً . ويجب أن يكون فاشلاً بالنسبة لمن ليس لهم نهج متماسك ، وخطة مدروسة وإمكانات قادرة ، وبالنسبة لمن يحضرون المؤتمر ممزّقين ، ضُعَفاء ، تغلبهم العصبيات الجاهليّة والمصالح الخاصة والأهواء المتضاربة ، كلٌّ ينهش بأخيه ، ويدَّعي الوطنيّة التي لا تتجاوز الشعار والفتن .

إن الذي يملك القوة والنهج والخطة هو الذي يستطيع أن يستفيد من المؤتمرات . ولو أن المسلمين كلهم ، والعرب كلهم ، والفلسطينيين ، كانوا صفّاً واحداً متماسكاً ،ولهم مطالب واحدة ثابتة ، ولهم خطتهم المدروسة ونهجهم الممتد ، لكان من الممكن أن يفرضوا رأيهم ، وأن ينالوا شيئاً يستحق التقدير .

إن تاريخ القضية كان تاريخ تنازلات من جانب المسلمين ، وثبات وطمع متزايد من جانب اليهود و أعوانهم . اعتاد العالم كله أن يرى المسلمين يتنازلون ، فكيف يمكن أن يراهم اليوم لا يتنازلون ؟! وإن الفرقة والتمزّق هو أول أبواب التنازل !

اليهود منذ عشرات السنين يعملون برويّة وهدوء وبخطوات مدروسة على الصعيد السياسي والعسكري والدولي ، دون دويّ شعارات وضجيج مظاهرات . إن لديهم نهجاً طويل المدى يسيرون عليه . ونحن ملأنا الدنيا صراخاً وضجيج شعارات وإفلاساً في الواقع ، دون أي نهج ولا خطة !

اليهود يتعاونون مع دول تؤمن بقضيتهم الكاذبة ودعواهم الباطلة ، مع دول تمدُّهم بالعون في جميع أَشكاله . والمسلمون يبدو أن الكثيرين منهم قد تراجعوا حتى عن شعار فلسطين للمسلمين ، حتى إنّ بعض الفلسطينيين ينادي فلسطين للفلسطينيين ، وآخرون ينادون فلسطين عربية وهي للعرب . وهنا سؤال : لمن هي فلسطين ؟! وأين هم ؟ فليتقدَّم أصحابها ليأخذوها . فلا هؤلاء ، ولا هؤلاء تقدّموا ! وظلَّ كلٌّ في مكانه يُطْلِقُ الشعارات والضجيج ، ويوزِّع الاتهامات كما يشاء !

اليهود لهم شعارات واحدة ونهج واحد . والمسلمون لهم شعارات متعدّدة متغيرة من إقليميّة إلى وطنية ، ومن فلسطينية إلى عربية إلى إسلامية ، إلى علمانية ، إلى ديمقراطية ، وماذا بعد ؟! شعارات مختلطة سرعان ما تتبدّل وتختلط ، أو تطوى وتغيب !

والحقيقة المؤلمة أنه لم يعد للمسلمين بالنسبة لقضية فلسطين شعار واحد ، ولا رأي واحد ، ولا قوة حقيقية تُبذل . إن منظمة التحرير التي أقامتها الدول العربيّة وألقت بالقضية كلها عليها ، ثم بدأت الانقسامات فيها ، وبدأت الخلافات التي لا يوجد أيُّ مسوّغ لها . الجميع تنازل ، الجميع شعر بضعفه وقلة حيلته ، وهوانه ، ومع ذلك كلٌّ ينفخ أَوداجه ويتغنّى بالبطولات في أَجواء الهوان المذل ، كأنما يبدو أن اعتياد الذلّ والهوان يجعلهم لا يشعرون به ، يُخفون هوانهم بالشعارات وضجيجها . وتمضي القضية في مراحلها المرسومة .

حيّت حماس والإسلاميون منظمة التحرير وهي علمانية تجهر بعلمانيتها ، وأعلنوا تأييدهم لها ، فلم الخلاف اليوم ؟!

تاريخ فلسطين كله يجتمع في مؤتمر بعد مؤتمر ، ووفود تأتي ووفود تغادر ، ومفاوضات هنا ومفاوضات هناك . تاريخ طويل كانت نتيجته أو محصلته هي أن دولة اليهود تتسع وتقوى وتزداد مساحتها من لا شيء إلى 56% ثم إلى أكثر من 90% ، والمسلمون يزدادون انقساماً وخلافات وضعفاً وضجيجاً وشعارات !

لقد حققت إِسرائيل ومن معها انتصارات كبيرة . أهمها أنها نقلت القضية من كونها قضية إِسلامية ، إلى قضية عربيّة عُزِل العالم الإسلاميّ عنها ، ثم إلى قضية فلسطينية يتولاها الفلسطينيون ، ثم زَرَعتْ الفِتنة بين الفلسطينيين ورضي الفلسطينيون بهذه الفِتنة المشتعلة ، فقتل بعضهم بعضاً ، وتحوّل السلاح إلى صدور الفلسطينيين ! على ماذا الصراع ؟! إنه على دنيا !

كما دوّت تصريحات بأن إسرائيل يجب أن تُزال عن الخارطة ، كما قال بعضهم يجب أن تُلقى في البحر ! إن مثل هذه التصريحات المدوّية تدلُّ على أن صاحبها لا يريد أن يعمل أو أَنه غير قادر على أن يعمل ، فهو يدغدغ عواطف الجماهير لتنطلق حناجرها بالهتافات وتُبَح ،وتمزّق أكفَّها بالتصفيق ، ثم يصحو الناس وإسرائيل مكانها تحوطها دول العالم بالرعاية والمدد ، ونحن في هوان وهزائم !

من يريد أن يعمل يُعِدُّ خُطَّته وعُدّته ثم يمضي على بيّنة وجلاء ، دون دويّ تصريحات وشعارات !

الآن ! وفي أنا بوليس ، يقول بوش إنه ستبدأ المفاوضات الجادّة بين اليهود والفلسطينيين . المفاوضات ممتدة منذ عهد بعيد ، ولم تتوقَّف ! فهل من جديد اليوم ؟! ينادون بالسلام ، فمن قتل السلام :

لا تـقـل لـي سـيـاسة iiوسلام
سل أمِرْكا عن السلام على الأرض
وسـل الـنـاس ! من أراد سلاماً
هـل أراد الـروس الـسلام iiبأفغا
كـلـهـم يـنـظرون للأفق iiالوا
كـلُّ بـضـعٍ مـن السنين iiترانا
وعـدوِّي أَرَاهُ يـقـفِـزُ iiوثْـبـاً
كُـلَّ  يـومٍ نَـرْمي ونُعْلي iiشِعاراً
ولـديـنـا  مـن الـعواطف iiنارٌ
وخُـطـانـا  عَلى الطَّريقِ iiشَتَاتٌ









فـحـديـث الـسـلام شيءٌ بعيدُ
وسـل  روسـيـا وسل من iiتريدُ
قـبـل أن يـفرض السلام iiالحديدُ
ن  وهـل يـبـتغي السلامَ اليهودُ
سـع أطـمـاعُـهـم هناك iiتزيدُ
ألـفَ  مـيـلٍ إلـى الوراء نَعُودُ
لـمـزيـدٍ  ومَـا كَـفـاهُ iiالمزيدُ
وعَـدُوِّي لَـهُ شِـعـارٌ iiوحـيـدُ
أَكَـلَـتْـنـا ومِـنْ هَـوَانا iiوَقُودُ
كَـلُّ  حِـزْبٍ بـمـا لَدَيهِ iiسَعيدُ1

إن الغرب واليهود يعملون ليل نهار ، بخطأ ثابتة وأهداف محدّدة ، قد تخفى علينا حيناً ، ولكنها مع التاريخ الطويل انكشف أهدافهم كلها ، إلا أن منا من لا يزال يقول إنه ليس هناك كيد ولا مكر ولا مؤامرات ! سقوط الخلافة ليس في رأيهم مؤامرات ، تمزيق العالم الإسلامي ليس في رأيهم مؤامرات ، تسليم فلسطين لليهود وطرد أهلها منها ليس في رأيهم مؤامرات ، كل هذا وغيره ليس مؤامرات !

إِن أعداء الإسلام يمضون على نهج واضح لديهم إلى أهداف واضحة لديهم يمضون إليها بكيد ومكر ومؤامرات ، ونحن غفاة غافلون نائمون ! نحن ضعفاء جرّدنا أنفسنا من جميع أسباب القوة : فلا سلاح يجدي ويدوّي في الميدان ، ولا أمة واحدة وصفّ واحد غير ممزّق ، ولا نهج أو خطة ، ولا أهداف ثابتة محددة رسمت الطريق إلى بلوغها وتحقيقها . ولا شيء من هذا ! بل تمزّق ، وشعارات في الهواء لا رصيد لها في الواقع إلا إثبات الوجود وحشد الأنصار على شعارات لا على نهج .

بهذا الضعف كيف نفاوض ؟! وكيف نطالب بحقوق ؟! ومن سيسمعنا في العالم ؟! قرابة قرن مضى على قضية فلسطين ، ونحن نزداد ضعفاً وهواناً ، وديارنا تتساقط ، ولم نُعِدَّ عدتنا خلال هذا القرن . وخلال هذا القرن كان اليهود صفراً وأصبحوا قوّة حقيقية بسلاحها وبعلمها وباطلها ! ونحن لا عدة مجدية من سلاح ، ولا علم ، ولا نصرة لإيمان وحق !

لماذا لا نكون صادقين صرحاء ، نطوي التكتيك الكاذب ، والمناورات المضحكة ، والمزايدات المكشوفة ، ونعرض الواقع بصدق ، والإمكانات بصدق ، ليلتقي الجميع على صدق ، دون محاولات المزايدات والشعارات المدوّية التي لم تُغنِ شيئاً في الدنيا ، ولا أظن أنها تغني شيئاً في الآخرة .

الغرب له رأي واضح قديم جديد في مفهومهم للسلم والسلام ، لخَّصه " نيكسون " في كتابه " نصر بلا حرب " بقوله (ما معناه) : " لا نعني بالسلم والسلام حلّ المشكلات ، ولكن نعني التعايش معها " . وأفضل مثال على نظريتهم هذه قضية فلسطين ! إنهم لا يريدون لها حلاً ، ولكن يريدون أن تبقى المشكلة لينتقلوا بواسطتها من طمع إلى طمع أكبر ، ومن حجم إلى حجم أكبر ! إنها قضيّة السياسة الدوليّة ولعبتها الماكرة .

والمسلمون إذا كانوا يريدون الحرب وتحرير البلاد والعباد ، وإذا كانوا قد أعدّوا العدة للنزول إِلى الميدان ، فليتقدّموا ولينزلوا الميدان ! وإذا كانوا لا يريدون الحرب ، ولا يملكون القدرة عليها ، ولا العدة ولا الخطة ، فليوقفوا المهازل والتهريج والمزايدات على حساب الناس المستضعفين الذين يميلون هنا تارة ، وهناك تارة ، ولم يعوا حقيقة اللعبة ولا حقيقة المناورات ، فهم ضحيّة ذلك كله ، بقضاء حق عادل من الله ، فالله يقضي بالحق ، ولا يظلم أبداً ! ولا يظلم أحداً !

[ وَبَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقَالَ الضُّعَفَاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذَابِ اللَّهِ مِنْ شَيْءٍ قَالُوا لَوْ هَدَانَا اللَّهُ لَهَدَيْنَاكُمْ سَوَاءٌ عَلَيْنَا أَجَزِعْنَا أَمْ صَبَرْنَا مَا لَنَا مِنْ مَحِيصٍ ]   [ إبراهيم : 21]

إن الخلل في المسلمين خلل واضح لا يسمح بنصر ولا بسلام ! والسلام كما قلنا لا يُعطى ، وإنما يفرضه القوي الشديد إذا أراد !

لقد مارس بعضهم الكذب على الأمة والخداع والتهريج ، كذبٌ بعده كذب ، فكيف يُنزل الله رحمته ونصره على قوم عصوه : حين اختلفوا وتمزّقوا ، وحين كذبوا ، وحين خدعوا ، والله يعلم ما تُكِنُّ الصدور .

ولم تقتصرْ المخالفات على مخالفة الكتاب والسنة فحسب ، بل امتدت إلى مخالفة أسس العقل ، وحسن التصرُّف ، وسلامة التفكير . كيف يستقيم الأمر والتصريحات متناقضة يضرب بعضها بعضاً في الفريق الواحد . فمنهم من يقول إننا يجب أن نعترف بأَن إسرائيل حقيقة واقعية ، ومنهم من يقول لن نعترف بإسرائيل ، ومنهم من يقول الحل هو المقاومة ، المقاومة قدمت لإسرائيل مساحة أوسع مما كانت عليه ! والمقاومة لم تقدّم أيّ حلّ إلا الشعارات !

كيف يستقيم الأمر حين يدعو بعضهم إِلى الحوار للخروج من الأزمة الحالية ، ثم يكيلون الاتهامات تلو الاتهامات لمن يريدون محاورته ؟! إذا كان الطرف الآخر كما يَصِفونه فلِمَ يُحاورونه ! فلينطلقوا بنهجهم ويحرّروا البلاد والعباد ، ولْيَدَعوا الشعارات ، وليضعوا النهج العمليّ ، إن كانوا قادرين حقّاً ، إن كان لهم نهجٌ يحقِّق شعاراتهم .

يجب أن نقرَّ بأن الغرب وإسرائيل استطاعوا أن يديروا الأمور حتى أوقعوا الفتنة بين المسلمين في كل مكان ، وخاصة في فلسطين ، فحرّكوا الخيوط ، وتحرّكت الدمى والأشباح والمهرّجون ! وأصبح المنتمي للإسلام يقتل المنتمي للإسلام ، في فتن هائجة مائجة ، يقتله ، ويعاديه ، ويكرهه .

ومن أروع المكائد التي نجح فيها الغرب وإِسرائيل أن استدرجوا إلى الساحة قوى جديدة لتشترك في مسرحيّة العمل السياسي ، ولتُدِير القتال والصراع بين الفلسطينيين ، ويظل اليهود فرحين على نجاح خطتهم ، دون أن يشعر احد بأصابعهم في هذه اللعبة الماكرة .

الذين يريدون المقاومة فَلْيَبْقَوا فيها ، وليطوِّروها ليجتمع المؤمنون الصادقون عليها ، دون أن ينزلوا إلى وحول المسرحية السياسية . أما وقد نزلوا إلينا فإن معنى المقاومة اضطراب ، وأصبح الاعتراف بإسرائيل واضحاً ، وأصبح الصراع على الدنيا ، والتنافس عليها ، ومن يبرز في الفضائيات ، حتى إن بعضهم طلب أن تجرى المفاوضات معه لا مع غيره ، وكلٌّ يستعرض عضلاته ليثبت أنه هو الأقوى ! ولكن السؤال الواجب هنا هو : لمن يثبت أنه الأقوى ؟!! فالله يعلم ما تخفى الصدور ، وما تعلن وقوة كلِّ بميزان حق !

إن من أوضح الأمور التي نراها في تاريخ قضية فلسطين أن الغرب وإسرائيل لا يريدون السلام أبداً ، ولكن لا يستطيعون أن يجهروا بذلك . فهم يتبعون أسلوباً آخر من الكيد والمكر . فهم يدعون إلى السلام ، ثم يوجدون أحداثاً تعطّل كل سبيل إلى السلام ، حتى يبدو الأمر أننا نحن الذين عطّلنا السلام ! وما يوجدونه من أحداث تعتمد كلها على الفرقة بيننا والتمزّق الذي نحن فيه ، مما يجعل كل طرف أو فريقٍ ضعيفاً يندفع إلى مواقف وخطوات يستفيد منه الغرب وإسرائيل .

وأهم ما يستفيدون منه من هذا التمزّق ، أن كل طرف يصبح حريصاً في الدرجة الأولى أن يثبت نفسه في الساحة ، حتى يظهر أنه هو الأقوى ، وتتحول المحاولات والمواقف إلى صورة من صور التنافس على الدنيا والحرص على زخرفها وزينتها ، فنخسر رضاء الله من ناحية ، ونفتح ثغرات واسعة للأعداء لينفذوا منها ديارنا وساحاتنا وقلوبنا ، فيشترون بعض الضمائر ، ويستفيدون من مواقف من يواليهم ومواقف من يظهر أنه يعاديهم .

الآن وضح الأمر لكل ذي عينين . المعركة في أنفسنا نحن المسلمين ، فإن لم نتبْ إلى الله ويلتقي الجميع على كتاب الله وسنة رسوله إيماناً وعلماً ووعياً للواقع من خلال منهاج الله وردّ الأمور كلها إليه ، لا إلى أهوائنا ومصالحنا الدنيوية المادية ، مع ممارسة إيمانية صادقة ، إن لم يقم المسلمون صفّاً واحداً كما أمر الله ، فلا أعتقد أن هنالك أملاً بتحرير الديار مهما علا ضجيج الشعارات وزخرف المظاهر ، وزينة الاحتفالات والمظاهرات والمزايدات .

أيها المسلمون ! خوضوا المعركة الأولى في أنفسكم ، فإن هذه المعركة هي التي تقرر النصر في سائر المعارك والميادين !

[ ... وَتُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ] [ النور :31]

وإِن التوبة الحقيقية تعني الاستقامة على أمر الله كما أمر وعلى نهجه :

[ فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ وَمَنْ تَابَ مَعَكَ وَلا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ . وَلا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَمَا لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِيَاءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ ]

[ هود : 113،112 ]

وأَتساءل ما هي المقاومة الحالية في فلسطين ؟! هل ستبقى على إِطلاق الصواريخ كالتي نشاهدها وهل ستبقى في حجمها الحالي ؟!

لقد تبين بالأرقام من الواقع أن المراحل الأخيرة والانتفاضتين أكسبت فيهما إسرائيل مساحات جديدة ، واتسعت رقعتها !

ما هي خطة المقاومة لتطوير نفسها حتى تصبح ذات أَثر فعال ، وحتى تصبح قادرة على تحقيق أهدافها ؟!

نعتقد أن فرصة النصر وتحرير البلاد بالإمكانات الحالية ضعيفة ، وأن الواجب أن تتحرك قوى المقاومة كلها لتجتمع فيها أمة مسلمة واحدة صدقت ربها ونزلت ميدان الجهاد الحق باسم الله وفي سبيل الله ! وأول ذلك  إيقاف الخلافات ، ودعوة الفصائل كلها إلى الالتزام بالإسلام ليكون الإسلام هو الشعار والنهج والانتماء ، وليس الإقليمية ولا القومية ولا الديمقراطية ولا العلمانية ولا الفلسطينية !

إذا لم يتحقّق هذا في الواقع ، فعلى أي أساس نرجو النصر من عند الله ؟! وهل هناك نصر من عند غير الله !

              

(1) ملحمة الأقصى ( ص : 142).