قانون نيوتن الثالث

د. بسام داخل

[email protected]

1

كثير منا يتذكر قوانين الحركة، وخاصة قوانين نيوتن, والقانون الثالث منها ينص على أن لكل فعل رد فعل مساو له في القوة  ومعاكس له في الاتجاه، فإذا ضغطنا بيدنا على سطح الطاولة نجد أن للطاولة ضغطا على يدنا، وأن قوة الضغط هذه تزداد كلما ضغطنا أكثر, وهذه الخاصية نستخدمها كثيرا في حياتنا العملية، فمثلا في المسبح عندما نضغط بأرجلنا جدار المسبح أو قاعه، يرد علينا بقوة تدفعنا للأمام أو الأعلى .

و قانون الفعل ورد الفعل، كما يسميه البعض، يساعد في تفسير كثير من القوى التي  نصادفها في حياتنا اليومية عند تعاملنا مع الجوامد. فهل يطبق أيضا في علاقاتنا الإنسانية؟ وإلى أي مدى؟ وكيف يكون رد الفعل تجاه الآخرين؟ هل نرد السيئة بالسيئة والحسنة بالحسنة وبنفس القوة؟

كثيرا ما يرد على ألسنة الناس الرغبة في الانتقام، وتلقين الآخر درسا لن ينساه، حتى لا يظن بنا ضعفا، سواء في ذلك القريب أو البعيد، أو الزوجة أو الصديق، وكثيرا ما ننساق مع الغضب برود أفعال أشد.

كم من خصومات كبرت وصعب على العقلاء إيقافها، وقد تتطور إلى جنايات، ونسمع كثيرا هذه الأيام عن ارتفاع نسبة الطلاق، وعن صداقات انقلبت إلى عداوة، ولو بحثنا عن السبب الأولي نجده تافها, ونستغرب كيف تطورت المشكلة إلى هذا الحد!! إنها نتيجة فعل أو قول غير مناسب، كشعلة صغيرة  فلم يطفئها أي من الطرفين فكبرت حتى صارت حريقا يأكل الأخضر واليابس. وبدأت كرة ثلج صغيرة رماها أحد الطرفين فتدحرجت وكبرت دون مبادرة من أحد لإيقافها حتى وصلت إلى هذه النتيجة المروعة.

 ولو رجعنا إلى هدي نبينا محمد عليه الصلاة والسلام، في أحد المواقف مع أبي بكر الصديق رضي الله عنه، عندما كان يسبه أحدهم وهو ساكت، ورسول الله ينظر إليه ضاحكا، فلما بدأ أبو بكر يرد عليه تغير وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم وقام من مقامه، فما كان من أبي بكر إلا أن لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن السبب، فأفاده أنه عندما كان ساكتا كان هناك ملك يرد عنه فلما رد عليه ذهب الملك ولم يعد يدافع عنه. فهذه إشارة واضحة إلى أن على المؤمن ألا يرد على الإساءة بمثلها. والرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن ينتقم لنفسه, بل ضرب المثل الأعلى في العفو عند المقدرة في كافة المواقف، تجاه أناس لم يدخروا جهدا في الكيد له والسخرية منه إلى محاولة قتله، والأمثلة كثيرة في تحمله للأذى وعفوه، في مكة أو في المدينة، مع القريب أو البعيد، مع كافة شرائح المجتمع، حتى مع المشركين أو اليهود أوالمنافقين أو البدو. وهنا رجل يسأله عن قرابته:

"لي قرابة أصلهم ويقطعونني ، وأحلم عليهم ويسيئون إلي.."

فيجيبه صلى الله عليه وسلم:

"لئن كنت كما تقول فكأنما تسفهم المل..ولا يزال عليك من الله حافظ ما دمت على ذلك.."   تهديد شديد لهم، ومدح وتشجيع له ليستمر على ذلك.

إذن كيف يكون رد فعلنا على من أساء؟

قال الله تعالى: "ولا تستوي الحسنة ولا السيئة، ادفع بالتي هي أحسن، فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم"

إننا لا نستطيع أن نغير تصرفات الآخرين وأفعالهم، ولكننا مسؤولون عن تصرفاتنا وردود أفعالنا تجاههم، والمطلوب من المسلم أن يملك نفسه ويتحكم فيها، ويختار بنفسه ردة الفعل المناسبة، فلا يرد السيئة بالسيئة، ولا يدع الآخرين أو الظروف تملي عليه التصرفات. وقد وصف رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم من يتحلى بهذا الخلق بالقوي والشديد ، فقال:" ليس الشديد بالصرعة إنما الشديد الذي يملك نفسه عند الغضب"، وقديما قالت العرب: إذا أردت أن تخاوي إنسانا فأغضبه، فإن حلم فصاحبه.

إن الرسول صلى الله عليه وسلم لا يريد لكرة الثلج أن تكبر ويعم خطرها, وكل عنصر في المجتمع هو مسؤول إن مرت أمامه أن يوقفها كيلا تصيب الآخرين، ولا ينبغي للغضب أو أي خلاف أن يتطور، ومثال السفينة أبلغ، يبين مسؤولية الجميع عن سلامة المجتمع المسلم. فأي مشكلة إن تداركها الطرفان أو أحدهما بالإصلاح أو الإغضاء أو تخفيف آثارها انطفأت وزال أثرها. وهنا نذكر كيف حصلت مشكلة في المدينة، حاول يهود أن يثيروها عنصرية، فتداركها الرسول ص فرجعوا متحابين متآخين.

وكذا مشكلة أبي ذر وبلال التي انتهت بأن وضع أبو ذر خده على الأرض لا يقوم حتى يطأها بلال.

إنه منهج رباني يؤصل لنا تصرفاتنا ويرسم معالم المجتمع المتحاب المتآخي المتراحم المتماسك، فكان ذلك الجيل فريدا، حقق في سنوات قليلة مالم تحققه أي أمة أخرى في قرون

فلنختر يا أخي ردود أفعالنا بأنفسنا ولا نترك الآخرين يدفعوننا لتصرفات غير لائقة. ولنتذكر دوما الآية السابقة، لنحول العدو إلى صديق حميم. 

قانون نيوتن الثالث 2

رأينا أثر قانون نيوتن الثالث في حياة الناس.  وللأسف أننا نجد البعض يريد أن يرد على السيئة بمثلها وأكبر. فيحول الكلمة إلى كلمات وأفعال، فترتفع حرارة الخلاف، وينقلب إلى عداوات، وتتحول الشعلة الصغيرة بسرعة إلى حريق هائل. فما الحل لتلافي هذه النتائج الوخيمة؟

قلنا إن الحل في تطبيق الآية الكريمة " ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ادفع بالتي هي أحسن.." ففي أي موقف مع الآخر فيه نوع من المجابهة أو الاحتكاك، علي أن أكون أنا الذي يقرر كيف أتصرف ولا أترك الآخرين يقررون. وقد ذكرنا بعض المواقف للرسول صلى الله عليه وسلم وكيف أنه كان في القمة في التعامل رغم جهالة الشخص الآخر وحماقته، فما كان يرد إلا بالحسنى. فكم مرة يأتيه إنسان جاهل أو معاند فيحلم عليه ويتحمله ويقابله بالحسنى فيتحول الأعداء إلى أصدقاء، مصداقا للآية الكريمة " فإذا الذي بينك وبينه عداوة كأنه ولي حميم". وكم يذكر التاريخ الإسلامي مواقف لأناس ضبطوا أعصابهم وتصرفوا بذكاء وتعقل، فخلدت أسماؤهم ومواقفهم, ومنها مثلا موقف الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز، إذ مر بالمسجد ليلا فاصطدم برجل، فقال للخليفة أحمار أنت قال:لا. فاغتاظ المرافق له وأراد أن يعاقبه، فما كان من عمر إلا أن أخذ الأمر بكل هدوء: سألني فأجبته .

وعندما نطرح هذا الحل على البعض، يجيب بأن ذلك صعب، فهناك مواقف تشعر فيها أنك إن سكتت فهذا يدل على ضعف وجبن منك، لذلك قد تضطر إلى رد غير لائق.

قد يكون هذا واقعا يحصل مع كثير منا، وقد تغلبنا أنفسنا أحيانا ولا نستطيع أن نصل في تصرفاتنا إلى القمة السامية بلحظة واحدة، ولكن لنضع في مخيلتنا أن علينا دائما أن نحاول إصلاح الموقف وإيقاف الحريق، أو على الأقل محاولة تخفيف أثره، وعدم الانصياع معه إلى الكارثة. فبقاؤنا متذكرين واجبنا يجعلنا نتصرف بتعقل. ولا نيأس من المحاولة ولا نمل ولنذكر من حولنا وخاصة أبناءنا بهذه الأخلاق، لتصبح بالتدريج ثقافة و خلقا وتؤدي بالتالي إلى مواقف أكثر تعقلا.

وهنا ترد فكرة أخرى في قانون الفعل ورد الفعل أن نكون المبادرين أفضل من أن تكون أعمالنا ردود أفعال للآخرين!! فكيف تكون هذه المبادرة؟؟ وبأي اتجاه؟

البعض يقول إنني أبادر بالسوء إذا توقعت شرا. على مبدأ نتغداه قبل أن يتعشانا، أو مبدأ الهجوم هو أحسن  طريقة للدفاع، أو اتق شر من أحسنت إليه، ونظهر للزوجة العين الحمراء من أول يوم حتى لا تتجاوز حدودها، ونقطع رأس القط من ليلة العرس. إلى غير ذلك من التراث الشعبي. فما هو الرأي في المبادرة السلبية توجسا من الآخر؟ وهل هي الحل؟

قد يكون استخدام العنف حلا مؤقتا، يمكن أن يريح الإنسان لفترة إن استخدمه مع الضعفاء من حوله مثل زوجته وأولاده. والحل القائم على الكره قد يعطي حلا مؤقتا. فأي علاقة قائمة على الإجبار والخوف قد تكون حلا مؤقتا. ولكن الملاحظ أنه عندما تزول القوى القسرية فيها، تجد أنها أصبحت سيئة ومضطربة لحد كبير. كما يحصل عندما يستقل الولد عن أبيه، بعد أن كبر مثلا ، فكثيرا ما تجده قد تغير سلوكه أو قناعاته أو أصبحت علاقته بوالديه ضعيفة. فالعلاقة القهرية لا تنشئ إنسانا سويا أو علاقة سوية.

ولو عدنا إلى سيرة المصطفى صلى الله عليه وسلم، نجده دوما إلى الخير مبادرا، فقد كان صلى الله عليه وسلم يقابل الآخرين بالبشر والابتسامة، وينتهز أي فرصة للمبادرة بالحسنة. ونذكر كيف أنه عاد جاره اليهودي، مع أنه كان يسيء إليه.

فهذا أولا يريح الإنسان ويبعده عن القلق، ومن كثير من أمراض العصر الناتجة عنه. إضافة إلى أنه يشجع الآخرين على ردة الفعل الحسنة، ويصفي كثيرا من العداوات والمشاحنات. والآية الكريمة تحض على الخير مطلقا، "ادفع بالتي هي أحسن"، سواء كان ردا على مبادرة من الآخر أو مبادرة منك، فهي عامة وتشمل كل الحالات، فهذا إعجاز قرآني، يدعو إلى المعروف مطلقا

من يفعل الخير لا يعدم جوازيه                   لا يذهب العرف بين الله والناس

فلنقتد برسولنا الأعظم صلى الله عليه وسلم، فنرفع شعار المبادرة الايجابية، والرد الايجابي، وحب الآخرين وإسداء المعروف لهم، فهذه أخلاق سبق بها الإسلام وطبقها قرونا متطاولة، والآن وصل إليها العلم الحديث، وإن كان تطبيق كثير من الغربيين لها على أنه مصلحة  شخصية، بينما الهدف في الإسلام هو مرضاة الله تعالى بالإحسان إلى عباده. إنها أخلاق دعا إليها صلى الله عليه وسلم وطبقها في مجتمع يعج بالعصبيات والأخذ بالثأر، وعدم السكوت على الضيم. بل إن حروبا متطاولة جرت بسبب هذه القيم والعادات. فأصبح التسامح والإحسان والخير هو الشعار المطبق وهو سيد الموقف.

فلنقتد بهدي رسولنا الأعظم في المبادرات الخيرة، ولنبق على ملاحظة دائمة لتصرفاتنا وردود أفعالنا، لنحاول تعديلها. والرسول الأعظم يريدنا أن نكون دوما في حالة ترقي، فيقول ص :" من تساوى يوماه فهو مغبون"