المدن المصرية المفقودة
المدن المصرية المفقودة
بين التاريخ والأسطورة
د. عمرو عبد العزيز منير
اختلفت آراء العلماء بشأن ظاهرة التعليل باعتبارها سمة للأسطورة، حيث ذهب فريق إلى أن التعليل ليس هو الخاصية المميزة للأسطورة، بينما ذهب فريق آخر ـ يتزعمه "كاسيرر" ـ إلى أن التفكير الأسطوري يتميز عن العالم النظري بفكرته عن السببية. وأياَّ ما كان الأمر، فإنه مما لا شك فيه أن هناك نوعاً من الأساطير يرتكز في أساسه على فكرة التعليل، وهو ما يتمثل في نوع أساطير الأصل، وإن كانت تنتمي إلى نوع آخر من القصص الشعبي يسمى بالحكايات التعليلية أكثر من انتمائها إلى نوع الأسطورة.[1]
وتبرز فكرة التعليل في العديد من الحكايات التعليلية أو أساطير الأصل والتي تؤصل لمدن مصر القديمة التي شُيد بعضها زمن الفراعنة وشُيد بعضها الآخر على امتداد تاريخ مصر الطويل، وحول هذه المدن القديمة دارت موضوعات الموروث الشعبي في إطار خيالي يعكس مدى الانبهار والإعجاب بهذه المدن ـ وإن احتوت على أخطاء معرفية واضحة ـ وقد جمع المؤرخون المسلمون عدداً من الأساطير والروايات الخيالية حول هذه المدن في إطار يجمع بين الأسطورة والتاريخ ، والاقتراب من الخيال الشعبي في وصفهم التفصيلي لمدن مصر؛ التي قد يكون لها وجود فعلي ملموس أو مدن لا وجود لها في عالم الواقع مثل مدينة أمسوس المصرية ـ التي اعتقد الناس والمؤرخون بوجودها قبل الطوفان ـ وكان ذلك وحده كافياً لإطلاق خيال الرواة والقصاصين فنسجوا من وحي خيالهم أسطورة أمسوس المفقودة [2]بفعل الطوفان، مما يفصح لنا عن أفكار كثيرة تبادلت التأثير والتأثر مع حكايات ألف ليلة وليلة.
يقول ابن إياس: "مدينة أمسوس وهي مصر القديمة، وكانت من أعظم المدائن، وبها من العجائب ما لم يسمع بغيرها، ولكن محا الطوفان رسمها ونسى اسمها..".[3] فهي عند المقريزي : "أول مدينة عُرِفَ اسمها في أر ض مصر (مدينة أمسوس). وقد محا الطوفان رسمها ولها أخبار معروفة، وبها كان ملك مصر قبل الطوفان، ثم صارت مدينة مصر بعد الطوفان مدينة منف، وكان بها ملك القبط والفراعنة إلى أن خربها بخت نصر، فلما قدم الاسكندر بن( فيليبش) المقدوني من مملكة الروم, عمَّر مدينة الإسكندرية عمارة جديدة، وصارت دار المملكة بمصر. إلى أن قَدِمَ عمرو بن العاص بجيوش المسلمين, وفتح أرض مصر فاختط الفسطاط، وصارت مدينة مصر إلى أن قدم جوهر القائد بعساكر المعز لدين الله أبي تميم معه وملك مصر واختط القاهرة .. وصارت القاهرة مدينة مصر إلى يومنا هذا.".[4]
وبعد أن يُورد المقريزي أسماء عدد من المدن المصرية يُورد حكاية خيالية عن أن "مصر بن بيصر" قسم الأرض بين أولاده، فأعطى ولده أشمون من حد بلده إلى رأس البحر إلى دمياط, وأعطى ولده أنصنا من حد أنصنا إلى الجنادل، وأعطى لولده صا من صا، أسفل الأرض إلى الإسكندرية، وأعطى لولده منوف وسط الأرض السفلى منف و ما حولها، وأعطى لولده قفط غربي الصعيد إلى الجنادل، وأعطى بناته الثلاث شرقي الأرض إلى البرية (يقصد صحراء الشرق)، وأعطى بناته الثلاث وهن الفرما وسريام وبدورة. بقاعاً من أرض مصر محددة فيما بين أخوتهن ..".[5] وتكمل الروايات التاريخية المتأخرة شجرة النسب لباقي المدن المصرية فتقول: "قد خلفه ابنه مصرايم المولود بالعريش فصار ملكاً مستقلا عظيما ينفذ حكمه في إسنا "أسن"، وأسوان (إشوان) والسودان (سودان)، حتى بلاد الفونج (فوبحستار)، وعمد إلى أقاليم مصر، فوزعها على الأخوة الثلاثين (وهو منهم) ثم بنى كل واحد منهم في البلاد التي يحكمها مدينة عظيمة ,لا تزال تسمى بأسماء أولاد بيطر بفضل دعاء سيدنا نوح u مثال ذلك أن أحد أبناء بيطر كان يدعي (رشيد) فبنى المدينة التي هي الآن بهذا الاسم والآخر كان يدعى (دمياط) وثالث كان (اسكندر) وآخر تينبر (تينه)، وكذا (سيفه) الذي بنى مدينة بني سويف وآخر يدعي (مينه) وكذا أشمون وأسيوط وجرجه وتنا (قنا) وقوس (قوص) واسنه وأسوان (أثوان) وابريم وصياني وحلفا (حلفه) وسنارة وسودان وغيره من أمثال هذه الأسماء التي كان يتسمى بها الأمراء الذين بنى كل واحد منهم مدينة لا تزال باقية على الدهر عامرة آهلة بالسكان في شواطئ النيل حتى الآن..".[6] ,وعن نسب مدينة أتريب يقول القلقشندي : " بناها أتريب بن قبطيم بن مصــر ابن بيصر بن حام بن نوح u".[7]
يتضح من هذه الروايات الخيالية مدى تأثر الرواة بالأنساب العربية؛ ذلك أن عدم القدرة على معرفة أسباب تسميات المدن المصرية القديمة جعل الخيال يجنح إلى حد تصور أن هذه المدن قد اكتسبت أسماءها من أبناء "مصر بن بيصر بن حام بن نوح u ـ الذي ينسب إليه اسم مصر ـ الذين قسمت بينهم أرض مصر، بل أنه ينسب بعض الأسماء إلى بنات تلك الشخصية مثل "الفرما" والتي تنازع في نسبها ـ الفرما ـ الاتجاه المصري القبطي مع الاتجاه الإغريقي في المجتمع المصري إذ تقول أحدى الروايات: "كان للإسكندر أخ يسمى الفرما، فلما بنى الاسكندر الإسكندرية ، بنى الفرما ، الفرما على نعت الإسكندرية ولم تزل الفرما مُذ بنيت رثة..."[8]وفي هذا السياق يشير ابن إياس لنسب مدينة تنيس المندثرة بقوله :"قال المسعودي :إن الذي بنى مدينة تنيس كانت أمرأة تسمى تنيس وهى بنت صا بن تدارس أحد ملوك القبط فسميت تلك المدينة بها".[9]
وتكشف الأساطير التي تدور حول الدن المصرية القديمة، بما تحويه من أخبار العجائب والغرائب، عن مدى إعجاب الرواة وانبهارهم بإنجازات الحضارة المصرية القديمة وهو الأمر الذي يبدو واضحاً من خلال تلك القصص الخيالية من الأعمال الإعجازية لملوك مصر القديمة، يقول المقريزي تحت عنوان "ذكر مدينة أمسوس وعجائبها وملوكها".
"... وأول من ملك مصر نقراوش الجبار بن مصرايم. ومعنى نقراوش ملك قومه ونقراوش هو الذي بنى مدينة أمسوس وعمل بها عجائب كثيرة؛ منها طائر يصفر كل يوم عند طلوع الشمس مرتين, وعند غروبها مرتين, فيستدلون بصفيره على ما يكون من الحوادث حتى يتهيأون لها، ومنها صنم من حجر أسود في وسط المدينة تجاهه صنم مثله إذا دخل سارق المدينة لا يقدر أن يزول حتى يسلك بينهما؛ فإذا دخل بينهما أطبقا عليه فيؤخذ .. وعمل صورة من نحاس على منار عال لا يزال عليها سحاب يطلع فكل من استمطرها أمطرت عليه ما شاء. وعمل على حد البلاد أصناماً من نحاس مجوفة وملأها كبريتاً، ووكل بها روحانية النار. فكانت إذا قصدهم قاصد أرسلت تلك الأصنام من أفواهها ناراً أحرقته، وعمل فوق جبل بطرس مناراً يفور بالماء ويسقى ما حوله من المزارع، ولم تزل هذه الآثار حتى أزالها الطوفان ...".[10]
رواية ابن إياس عن مدينة أمسوس "جاءت على نحو مشابه لرواية المقريزي مع بسط في التفاصيل عن دور ملوك مصر القديمة في تطوير "أمسوس" بقوله : "... مصرايم وهو الذي بنى مدينة مصر, وإليه تنسب وكان عالماً بعلم الكهانة والطلسمات .. كتب على أبواب مصر، أنا مصرام بن تبليل قد بنيت هذه المدينة، وأودعت بها الطلسمات الصادقة والصور الناطقة، أما ابنه عرياق كان عالماً بعلم الطلسمات وله أعمال عجيبة، وكان قد عمل قبة عظيمة في وسط مدينة أمسوس وعمل فوقها كالسحابة تمطر مطراً خفيفاً شتاء وصيفاً، وعمل تحت تلك القبة مطهرة فيها ماء أخضر يتحصل من ذلك المطر، فإذا استعمله من به عاهة برئ من وقته ولما هلك تولى من بعده ابنه لوجيم، وكان عالما بعلوم الطلسمات والسحر وله أعمال عجيبة؛ منها كانت الغربان قد كثرت في أيامه، وصارت تفسد الزروع والغلال، فعمل أربع منارات في جوانب مدينة أمسوس، وجعل على كل منارة صورة غراب، وعليه صورة حيَّة قد التوت، فلما عاين الغربان ذلك نفروا عن المدينة ولم يدخلوها بعد ذلك في مدة أيامه، ومنها أنه عمل طلسماً للريح، فكانت المراكب المقلعة إذا وصلت إليه تقف ولا تسير حتى يجعلوا له على كل مركب ضريبة معلومة، حتى يطلق لهم الريح من الجو، واستمر في الملك حتى هلك ...".[11]
وعن ملوك أمسوس المزعومين يتحدث أولياﭽلبي عن أحدهم بقوله: "خلفه أخوه مصرايم بن نقراوش في الملك وكان هذا حاكماً ماهراً وكاهناً ساحراً، ؛ إذ سخر بقوة علمه جميع السباع والحيوانات المفترسة والمرعبة لأمره، بل أنه جعل الشياطين والعفاريت تخضع له وتحمل له عرشه".[12] ويقول ابن إياس عن إنجازات ملوك أمسوس المزعومة: "بنى أحدهم قلعة وكانت الجن والشياطين تحمل سريره على أعناقهم ويطوفون به في سائر أقاليم الدنيا، ثم يرجعون إلى قلعته التي بناها وسط البحر، فاستمر على ذلك حتى هلك".[13]
المتتبع لتاريخ وسيرة "مدينة أمسوس" سيجد أنها كانت مرتعاً لخيالات الرواة وأخبارهم. إذ حملت تلك الأخبار ثمة رائحة من التاريخ في الوقت الذي يصطبغ فيه بصبغة أسطورية، فقد حرصت أخبار أمسوس على تضمين نصوصها بشراً من نوع الملوك المحيطين بعلوم الطلسمات والسحر والأعمال العجيبة والخارقة، التي ساعدت على عمران مدينة أمسوس بعجائب وغرائب تحَّير في وصفها الإنسان إذا رآها بالعيان على حد قول المؤرخين رغم عدم رؤيتهم لها.
كما أن الزعم القائل بمحو الطوفان للمدينة شكَّلَ خلفية تتحرك عليها (موتيفات) وأفكار أسطورية مثل؛ الطلسمات الصادقة، الصور الناطقة، والكنوز المرصودة، وانفتاح العوالم المرئية واللامرئية على بعضها، ومن ثم فلا بد من اصطباغ تاريخ وأخبار المدينة بنفس الصبغة الأسطورية بالتبعية، أضف لذلك؛ أن تلك الروايات والأخبار الخاصة بمدينة أمسوس وغيرها من مدن مصر، في جانب هام منها تؤصل لنشأة مصر أرضاً وشعباً وعمراناً، وذلك الحدث في ذاته إن شئنا التأريخ له فإنه ـ بلا أدنى شك ـ سيصبح خارج إطار العصور التاريخية وينتمي بشدة إلى عصور الأسطورة، مما يجعله يتخطى حدود الزمن الذي انتمت إليه بدايات نشأة وعمران مدن مصر، هذا علاوة على أن فكرة النشأة والتكوين تعد أحدى الموتيفات الأسطورية البارزة والتي يلزمها إطار زمني أسطوري خالص أوجده الرواة في زمن ما قبل الطوفان.
جدير بالذكر أن أخبار مدينة أمسوس وبعض المدن المصرية أضفت على جزء من تاريخها سمات خاصة بها ,عند ارتباطها بكائنات لعبت دوراً في حياتها ونشأتها مثل: الجن والعفاريت والشياطين الذين كانوا القاسم المشترك مع ملوك أمسوس في بناء وتشييد المدينة.
يضيف المقريزي أن هذه المدينة ـ منف ـ كانت في غربي النيل على مسافة اثنى عشر ميلا من مدينة الفسطاط ثم يقول : ".. وهي أول مدينة عمرت بمصر بعد الطوفان، وصارت دار المملكة بعد مدينة أمسوس التي تقدم ذكرها إلى أن أخربها بخت نصر".[14] ويضيف (ابن محشرة) أنه كان بمنف: "فرعون موسى u وكان اتخذ لها سبعين باباً من حديد وفصل حيطان المدينة بالحديد والصفر، وفيها كانت الأنهار تجري من تحت سريره وكانت أربعة أنهار ... رأيت بمنف دار فرعون، وكنت أمشي في شوارعها ومجالسها وغرفها وجميع سقائفها وحجورها فإذا ذلك كله حجر واحد منقور، فإن كان بناء قد أحكم حتى صار في الاستواء كحجر واحد لا يستبان فيه جمع حجرين ولا ملتقى صخرتين فلذلك عجب، وإن كان جبلا واحدا فنقر الرجال فيه بالمناقير حتى خرقت فيه تلك المخارق فهو أعجب وأعجب".[15]
يصفها ابن زولاق بقوله: "أبنيتها ـ منف ـ وعجائبها وأصنامها، ودفائنها وكنوزها التي لا تحصى .. وفيها بيت فرعون قطعة واحدة، سقفة وفرشه وحيطانه حجراً أخضر .. وبها آثار الأنبياء والحكماء، وهي منزل يوسف u، ومن كان قبله، ومنزل فرعون موسى .. وكان بمنف قبة فيها صور ملوك الأرض متى تحرك منهم ملك يريد مصر بعج الموكل بالقبة بطنه بحربة فيتلف ذلك الملك في موضعه...".[16]
ويسرد (ابن زولاق) رواية تكشف عن ظلال حقيقية تاريخية عن وجود علاقات بين مصر القديمة وبلاد ما بين النهرين[17] في سياق حديثة عن عجائب مدينة منف بقوله: " لما أراد بخت نصر، مصر أرسل رجلا يثق به، أعطاه مائة ألف درهم صلة فاحتال حتى صاهر امرأة من الموكلات بحفظ القبة .. داخل القبة وسأل عن الصور ورأى صورة بخت نصر، فقال للمرأة التي تزوجها: ما هذه الصورة؟ فعرَّفته، فقال لها في خلوة: فمتى ينجو صاحب هذه الصورة؟ قالت: يُدهن صدره بدم خنزير، فأخذ دم خنزير وطلا صورة بخت نصر، وهرب وعاد إلى بخت نصر، فأخبره. فسار إلى مصر وكان من أمره ما كان...".[18]
وعند المقريزي تستمر الحكايات لتستعرض ملوك منف حتى تصل إلى من تسميه الرواية "شدات بن عديم" فيقول: "وهو الذي تسميه العامة شداد بن عاد، وكان عالماً كاهناً ساحرا، يقال أنه هو الذي بنى الأهرام الدهشورية، وعمل أعمالاً عظيمة و طلسمات عجيبة، وبنى في الجانب الشرقي مدائن وفي أيامه بنيت قوص .. وغزا الحبشة وسباهم [19]، وأقام ملكاً تسعين سنة، وهو أول من اتخذ الجوارح، وصاد بها، وولد الكلاب السلوقية، وعمل في بركة أسيوط تماسيح منصوبة تنصب إليها التماسيح من النيل انصبابا فيقتلها، ويعلق جلودها في السفن...".[20]
بيد أن أهم ما يسترعي الانتباه في الروايات الخاصة بـ (منف) أنها أقل إغرابا وخيالاً من الحكايات الخاصة بـ "أمسوس" ، كما أنها من ناحية أخرى تتحدث عن أولئك الملوك الذين استحدثوا ممارسات حضارية جديدة، فالملك شداد بن عديم "أول من اتخذ الجوارح في الصيد وصاد بها، وولَّد الكلاب السلوقية" والملك أشمون بن قبطيم أول من لعب بالكرة والصولجان، وأول من عمل النيروز في مصر "عيد شم النسيم ـ أو عيد الربيع.[21]، والملك "مرقورة أول من ذلل السباع وركبها".[22]
كذلك نجد أن بعض الحكايات عن ملوك منف تحمل نواة من الحقيقة التاريخية؛ ففي أخبار من تسمية الروايات "الملك تدارس" وجدنا أنه حارب بعض عماليق الشام ودخل فلسطين، وغزا السودان من الزنج والحبش، ومن المعلوم تاريخياً أن حروباً قد نشأت بين مصر القديمة والحيثيين في بلاد الشام، كما كان يوجد حروب بين مصر ضد القادمين من الجنوب[23]، كما أشار المقريزي إلى أن الملك قاليقي بن تدراس: "كان موحداً خالف أهل مصر في عبادة الكواكب والبقر".[24] وهو ما قد يشير إلى أخناتون محاولات التوحيد في عبادة آتون، أو ربما كانت امتدادا لتوحيد إدريس u، وعلى أية حال فإن حجم الخيال في روايات منف التي بنيت بعد الطوفان على حد زعمهم، كان أقل كثيراً من حجم الخيال في الأساطير المتعلقة بمدينة أمسوس التي كانت قائمة حتى دمرها الطوفان، والتي تبدو أن وجودها نفسه كان ضرباً من الخيال.
والحكايات الخيالية حول مدينة منف كثيرة ومتنوعة ولكنها تدور حول سلسلة أخبار الملوك الذين تصورت هذه الحكايات أنهم حكموا مصر حتى الاسكندر.[25] ويعلق المقريزي على ذلك بعبارة تكشف عن مدى الارتباك الناجم عن وصول إشارات من تاريخ البطالمة في ثنايا الروايات كالتي ذكرها المقريزي في ذكره اسم "نافاطانيوش" وهو اسم يبدو محرفا عن اسم بطليموس في لفظه اليوناني "يتوليمايوس" وقد عبَّر المقريزي عن هذه الحيرة بعبارة نصها: "..وهذه أسماء رومية "أي يونانية" ولعل بعضها متداخل فيما تقدم ...".[26]
وقد يحسن بنا الوقوف مع الكم الهائل من الأساطير التي ساقها المؤرخون عن منف وأمسوس وغيرهما .. فنلاحظ أنها لم تتكون دفعة واحدة؛ إنما استمر كل جيل يضيف إليها من خياله ما يوائم تصورات عهده، وما يزيد من تأثيرها في أذهان محبيها، لذلك فإن الروايات والأفكار التي راجت وتكونت عن منف والمدن المصرية، قد تباينت فيما بين الكتابات التاريخية، ووفقا للزمان ووفقا للمكان أحياناً، في تناول للأساطير جملة واحدة دون تفاصيل محددة متتابعة، فكأنهم بدأوا بالنهاية فاختلط الأول بالأخر دون اعتبار للمراحل التطورية ,التي يمكن أن تكون المدن المصرية قد مرت بها ودون حساب للعوامل والظروف الموضوعية التي كان محتملاً وجودها وراء كل خطوة انتقالية.
[1] -أرنست كاسيرر: الدولة والأسطورة ( ترجمة:أحمد محمود، الهيئة المصرية العامة للكتاب، القاهرة، 1975م)، صفحات متنوعة ؛ كارم محمود: الأسطورة فجر الإبداع الإنساني،( سلسلة الدراسات الشعبية، العدد 66، القاهرة, 2002م )، ص 422.
[2] - فكرة المدينة المفقودة تعد من الأفكار الشائعة في ثقافات العديد من الشعوب.
[3] -ابن إياس: كتاب تاريخ مصر المسمى بدائع الزهور في وقائع الدهور، (الجزء الأول، الطبعة الأولى، المطبعة الأميرية الكبرى ببولاق، مصر المحمية، القاهرة 1311هـ )، ج1، ص 9
[4] -المقريزي: الخطط المقريزية المواعظ والاعتبار بذكر الخطط والآثار(،أربعة أجزاء , طبعة سلسلة الذخائر من طبعة بولاق ,الأعداد51-54 , القاهرة 1999م )ج1، ص 128؛ القلقشندي : صبح الأعشى في صناعة الإنشا،( 14 جزء، القاهرة 1913م), ج3 ,ص315.
[5] - المقريزي: الخطط، ج1 ، ص 129؛ ابن عبد الحكم: فتوح مصر، ص29؛ السيوطي: حسن المحاضرة، ج1، ص 14، ص 15.
[6] -أولياﭽلبي: سياحتنا مه مصر،( ترجمة محمد على عونه، تحقيق: عبد الوهاب عزام، وأحمد السعيد سليمان، مراجعة: أحمد فؤاد متولي ، الطبعة الأولى، دار الكتب والوثائق القومية، القاهرة 2005م )، ص 36.
[7] - القلقشندي : صبــــح الأعشى , ج3 , ص381.
[8] -السيوطي: حسن المحاضرة في أخبار مصر والقاهرة،( الجزء الأول، تحقيق: محمد أبو الفضل إبراهيم، الطبعة الأولى، دار عيسى البابي الحلبي، القاهرة 1967)، ج1، ص 41.
[9] - ابن إياس: بدائع الزهور في وقائع الدهور , ج1 ,ص50.
[10] -الخطط، ج1، ص 129.
[11] - ابن إياس :بدائع الزهور في وقائع الزهور،ج1، ص 10-11.
[12] - المصدر السابق , ص11؛ سياحتنا مه مصر، ص 30.
[13] - ابن إياس :المصدر السابق ، ص 10.
[14] -الخطط، ج1، ص 134؛ القلقشندى : صبح الأعشى , ج3 , ص315.
[15] -ابن محشرة: الاستبصار في عجائب الأمصار،( نشر وتحقيق: سعد زغلول عبدالحميد، الإسكندرية 1958م )، ص 83؛ قارن. ياقوت: معجم البلدان، ج1، ص 97؛ عبد اللطيف البغدادي: الإفادة والاعتبار، ص 116، الاصطخري: المسالك والممالك، ص 54؛ المقريزي: الخطط، ج1، ص 134.
[16] -ابن زولاق: فضائل مصر وأخبارها وخواصها،( تحقيق: على عمر،س.مكتبة الأسرة، القاهرة 1999م )، ص 67؛ القزويني: آثار البلاد، ص 274؛ ابن ظهيرة: الفضائل الباهرة، ص 69؛ ياقوت الحموي: معجم البلدان، ج5، ص 214.
[17] - الثابت تاريخياً أن مصر تعرضت للعديد من محاولات غزوها من الشرق فقد دخل الآشوريون عن طريق حدودها الشمالية الشرقية ووقعت مصر فريسة، في يد "آشور آخي الدين" 670ق.م ومن بعدهم الفرس سنة 525 ق.م,وقد قدم الآشوريين من شمال العراق إلى مصر غازين : وقد أوضح احتكاك هذا الجنس بالمصريين طبيعة الشخصية المصرية فقد قاومت هذا الغزو حتى طردته , وباسم الدين راح كهان وادي النيل يبشرون , ويشجعون الأمراء المصريين حتى تحقق لهم النصر . انظر :عبد العزيز صالح , تاريخ الشرق الأدنى القديم, الجزء الأول , مصر والعراق ( القاهرة 1973م ), ص 272.
[18] - ابن زولاق: فضائل مصر وأخبارها، ص 61.
[19] - الثابت تاريخياً أن مصر تعرضت للعديد من محاولات غزوها من الجنوب فقد دخل الأثيوبيون مصر من الجنوب وتولوا حكمها خلال الأسرة الخامسة والعشرين ما بين 730ـ665ق.م بعد أن طردوا الليبيين , ولم يعتبر الأثيوبيون أنفسهم دخلاء على مصر, بل رددوا في متونهم أنهم أحلاف طيبة ,وأتباع الدين الصحيح لآلهة آمون . انظر: عبد العزيز صالح , تاريخ الشرق الأدنى القديم, الجزء الأول , مصر والعراق ( القاهرة 1973م), ص 272.
[20] -الخطط، ج1، ص 131،
[21] -عيد النيروز: هو عيد رأس السنة القبطية في أول شهر توت ويغلب على الظن أن عادة الاحتفال بهذا العيد متوارثة من قدماء المصريين على الرغم من اسمه الفارسي (ومعناه اليوم الجديد) فقد كان المصريون في عصر الفراعنة يحتفلون بهذا اليوم أكراما لنهر النيل، وفي عصر سلاطين المماليك كان الاحتفال بعيد النيروز يأخذ شكل (احتفالات العامة)، إذ اعتبر ذلك اليوم بمثابة عطلة عامة، فكانت الأسواق تغلق في ذلك اليوم كما كانت المدارس تعطل، ويذكر السيوطي وابن تغري بردي: أن هذا العيد أُبطل نهائياً منذ سنة 702 هـ، انظر: المقريزي: السلوك، ج2، ص 926؛ السيوطي: حسن الحاضرة، ج2، 2 269؛ ابن تغري بردي: النجوم الزاهرة، ج8، ص 202؛ قاسم عبده قاسم: دراسات في تاريخ مصر الاجتماعي(ط. الثانية، دار المعارف، القاهرة 1983م)، ص 110.
[22] -الخطط، ج1، ص139.
[23] -قاسم عبده قاسم: بين التاريخ والفولكلور، ص 75.
[24] -الخطط, ج1، ص 139
[25] -قاسم عبده قاسم: بين التاريخ والفولكلور، ص 70.
[26] -الخطط، ج1، ص 144.