من أساليب التربية النبوية (14)
الدعابة
د.عثمان قدري مكانسي
[email protected]
يروي أبو هريرة رضي الله عنه أن أصحاب
النبي صلى الله عليه وسلم قالوا له مرة : يا رسول الله ، إنك تداعبنا .
قال : إني لا أقول إلا حقاً(1)
.
في هذا الحديث نرى أن الصحابة كانوا
يعتقدون :
1 أن الداعية جاد دائماً لا يعرف
الدعابة .
2 أنهم بناء على ذلك تعجبوا إذ رأوا
النبي صلى الله عليه وسلم يداعبهم .
3 وكأن المزاح ولو بمقدار يذهب هيبة
الداعية .
ويرى رسول الله صلى الله عليه وسلم :
1 أن لكل مقام مقالاً : ففي المواضع
التي تحتاج الجد لا ينبغي أن يكون المزاح ، وأن الأمور التي تفيد فيها الملاطفة
ينبغي أن لا تكون كلها جداً .
2 أن المداعبة من الفطرة الإنسانية ،
وأن الترويح عن النفس بين الفينة والأخرى مطلب دعوي .
3 أن قلة المزاح والاعتدال فيه لا
تسقط هيبة الداعية ، بل تحببه إلى النفوس .
4 أن على الداعية في مداعبته أن لا
يتجاوز الحق والصدق .
ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم
يلاطف أصحابه ويداعبهم على القاعدة التي ذكرناها.
ومن الأمثلة على ذلك : ما رواه أنس بن
مالك قال : جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم يستحمله(2)
، فقال صلى الله عليه وسلم : إني حاملك على ولد الناقة .
قال : يا رسول الله ، ما أصنع بولد
الناقة ؟
فقال صلى الله عليه وسلم : وهل تلد
الإبلَ إلا النوقُ(3)
.
فالرجل يطلب ناقة أو جملاً يحمله إلى
قبيلته ، فالطريق طويلة ، والهدف بعيد ، ورجلاه لا تحملانه إليه . ورسول الله قبل
أن يعطيه يتحبب إليه فيداعبه قائلاً : إني حاملك على ولد الناقة.
ولد الناقة؟ الحُوار(4)
؟! . . وما يفعل به أو بما هو أكبر منه ؟ إنه وليد صغير ، وهل يستطيع الوليد أن
يحمل المسافر وسفره ؟! . .
ويبتسم الرسول صلى الله عليه وسلم
ابتسامة المحب الودود : وهل تلد الإبل إلا النوقُ ؟ إنه الجمل المطلوب بعينه .
وكان صلى الله عليه وسلم مرة يزور أم
طلحة ( وهي أم أنس بن مالك رضي الله عنهما ) ، فرأى طفلها الصغير حزيناً لأن عصفوره
الذي كان يلعب به مات ، فيداعبه ويبتسم إليه قائلاً : يا أبا عمير ، ما فعل النغير(5)
؟ نستفيد من هذا الحديث أموراً عدة منها :
1 أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان
يتواضع للصغار ويلاطفهم .
2 أنه صلى الله عليه وسلم كان يتحبب
إليهم فيكنيهم وهم صغار ( يا أبا عمير ) فيشعرهم بأهميتهم لديه .
3 وأنه يهتم بخصوصياتهم ( ما فعل
النغير؟ ) ، وينتظر من الطفل أن يقابله بالبشاشة والابتسام ، وأن يبادله الحب
والاستلطاف .
ولن نفعل ما فعله الإمام الشافعي رضي
الله عنه حيث استنبط من هذا الحديث كما قيل ثماني وعشرين فائدة ، فلن نبلغ شعرة في
مفرقه ، رضي الله عنه .
روى أنس بن مالك رضي الله عنه أن
النبي صلى الله عليه وسلم أخذ بيد الحسن أو الحسين رضي الله عنهما ثم وضع قدميه على
قدميه ، ثم قال : ترَقَّ ( أي اصعد )(6)
.
فهل قلص هذا العمل من مكانة النبي صلى
الله عليه وسلم في نفوس أصحابه ؟ ..
لا ، وألف لا ، فهكذا يكون المسلم :
مع الكبار لطيفاً ، وعلى الصغار عطوفاً .
وهل يجفو الأب ريحانته ؟! . . وهل
يقسو عليه ولا يرحمه ؟! . .
فكيف وهذا الأب سيد البشر الذي صنعه
الله تعالى على عينه صلى الله عليه وسلم ؟!
وانظر معي يارعاك الله إلى مداعبته
أهله . .
إنه الآن مع السيدة الجليلة حِبِّ
رسول الله صلى الله عليه وسلم عائشة الصديقة بنت الصديق رضي الله عنهما فتعال إليها
نسمع ما تقول :
قال لها رسول الله صلى الله عليه وسلم
: إني لأعرف غضبك ورضاك .
قالت : قلت : وكيف تعرف ذلك يا رسول
الله ؟
قال : إنك إذا كنت راضية قلتِ : لا ،
ورب محمد ، وإذا كنت ساخطة قلت : لا ، ورب إبراهيم .
قالت : قلت : أجل ، لست أهاجر إلا
اسمك(7)
. .
لقد بين صلى الله عليه وسلم أنه مهتم
بها ، فقد عرفها في رضاها وسخطها من قَسَمهِا ، وليس أحلى على الإنسان من أن يشعر
أن من يخالطه ويعيش معه مهتم بصغير أمره وكبيره ، فتزداد منزلته عنده ، ويركن إليه
، ويستفيد منه .
أرأيت أخي الحبيب كيف كان رسول الله
صلى الله عليه وسلم في دعابته يدخل إلى قلب محدثه ويمتلكه ؟! . .
والأحاديث في هذا الباب كثيرة ، وعودة
منك إليها تزيدك أخي المؤمن إعجاباً بقدوتك ، وهاديك ، بطرائقه الدعوية السامية إلى
رضوان ربك . . . سيدك وسيدي محمد صلى الله عليه وسلم .
(1)
أخرجه البخاري في الأدب المفرد الحديث / 265 / .
(2)
يستحمله : أي يطلب دابة تحمله .
(3)
الأدب المفرد الحديث / 268 / .
(4)
الحُوار : بضم الحاء : ولد الناقة منذ ولادته إلى فصله وفطامه .
(5)
رواه البخاري في الأدب المفرد الحديث / 269 / .
(6)
رواه البخاري في الأدب المفرد الحديث / 270 / .
(7)
أخرجه الشيخان ، وفي الأدب المفرد الحديث / 403 / .