أوراق الزمن المجهول-3

شمس الدين العجلاني

أوراق الزمن المجهول

(3 )

منير العجلاني يقدم نزار قباني للعالم؟

شمس الدين العجلاني*

[email protected]

في يوم من أيام شهر أب من عام 1944 تقدم طالب الحقوق نزار قباني بحياء من أستاذه في كلية الحقوق الدكتور منير العجلاني[1]، ودفع إليه مجموعة قصائد نثرية سماها (( قالت لي السمراء)) وكان نزار قباني آنذاك يبلغ من العمر إحدى وعشرين عاماً، بينما منير العجلاني فيبلغ من العمر ثلاثة وثلاثون عاماً، وترجى قباني أستاذه أن يكتب مقدمة لديوانه الأول (( قالت لي السمراء)) .

تصفح العجلاني هذه الأوراق(( القصائد)) ووضعها تحت إبطه قائلاً للشاعر الشاب دعني أقرؤها قرأ العجلاني هذه القصائد مرة واثنتين وثلاث... وبرغم ما تضمنته من تمرد على القصيدة العربية السائدة آنذاك في الشكل والمضمون، حيث أدخل الشاعر ألفاظاً وصوراً تناول من خلالها المرأة بأسلوب جديد غير مألوف ... وبرغم ذلك فقد رأى العجلاني أن هذا الطالب نزار قباني يحمل بين طيات أحرفه ثورة حقيقية في مفهوم القصيدة العربية، وانه سوف يؤسس لمدرسة جديدة للقصيدة العربية، ويبني إمبراطورية تكتسح جيوشها لغتنا ومفاهيمنا... فأمسك الأستاذ القلم وخط للعالم أجمع ولادة نزار قباني.. فكتب مقدمة ديوان ((قالت لي السمراء)) معلناً عن ولادة))  شيء جديد... مخلوق غريب.. روائح بود لير وفير لين وألبير سامان...))[2]

أمسك نزار قباني بأوراق منير العجلاني وضمها إلى صوره ، وأخذ خياله يسبح في الأفق البعيد... فهذا الأديب والسياسي منير العجلاني أهم أساتذة كلية الحقوق قال في قصائدي ما قال، فلا بد إذا من ميلاد لهذه القصائد، فقصد أم المعتز(( والدته)) طالباً مساعدة الأم الحنون لولدها المدلل فكان له ماكان، فتناولت أم المعتز اسوارتي الذهب من يدها قائلة هذه الأساور هي ثمن لولادة أعظم شاعر دمشقي في العصر الحديث، وركض نزار قباني  وديوانه(( قالت لي السمراء)) ومقدمة الدكتور منير العجلاني لأول مطبعة ودفع أوراقه إليها ودفع ثمن ولادة الشاعر نزار قباني أساور والدته أم المعتز، فولد الشاعر نزار قباني في شهر أيلول من عام 1944، حين ظهر(( قالت لي السمراء)) إلى حيز الوجود متضمناً ما قاله الدكتور منير العجلاني بحقه.

قال العجلاني :

  مقدمة طويلة كتبها لعجلاني للديوان الأول لنزار ، مما جاء فيها : ( لا تقرأ هذا الديوان، فما كتب ليقرأ.... ولكنه كتب ليغني.. ويشم.. ويضم .. وتجد فيه النفس دنيا ملهمة.

    يا نزار !

  لم تولد في مدرسة المتنبي، فما أجدك تعنى بشيء من الرثاء والمديح والحكمة، وما أجدك تعنى بالبيت الواحد من القصيدة يضرب مثلاً، وما أجدك بعد هذا تعنى بالأساليب التي ألفها شعراؤنا وأدباؤنا وإنما أنت ((شيء جديد )) في عالمنا و (( مخلوق غريب)).

وكأني أجد في طبيعتك الشاعرة روائح بود لير وفير لين وألبير سامان وغيرهم من أصحاب الشعر الرمزي والشعر النقي.

  القدر يخبيء لنا فيك شاعراً عالمياً تسبح أشعاره من بلد إلى بلد وتمر من أمة إلى أمة:

كمرور العطور مبتلة الريش

على كل منحنى ومضيق..

كقطيع من المواويل حطّت

في ذرى موطني الأنيق.. الأنيق..

حزمة من توجع الرصد.. رفّ

من سنونو.. يهم بالتحليق..

أمل !.. ولكنه أمل ركزته في نفسي قصيدتك (( اندفاع)). فما أظن أن شاعراً أوروبياً كبيراً يكره أن تنسب هذه القصيدة إليه.

    وبعد .. سألني صاحب هذا الديوان أن أكتب له تقدمة، ولو ملكت الخيار لقلت له : ديوانك كلّه تقدمة، إلى كل نفس تحس وتشعر ..

  أما (( ورقة إلى القارئ)) فتكاد تكون ( برنامجاً شعرياً) أو ( بياناً عاطفياً) لخص فيه الشاعر نزعاته وأساليبه بما يغني عن كل توطئة. فهو رمزي، غريزي، عفوي. وهذه الكلمات كلها تحتاج إلى شيء من التذييل.

  على أن شاعرنا إن لم يكن منحلاً في الشهوة، فقد وفق في وصف الجمال، والحب البكر توفيقاً بعيداً، حتى لتكاد تشعر وأنت تنشد بعض قصائده انك في عرس من أعراس الآلهة، وإنها تتخاطب بلسانه.

  أما جمال حسنائه فقد صنع له صورة لا تختلف عن صورة الرسام إلا بأنها تتكلم .. وإلا بأنها شاعرة وعاشقة .

بهذه الكلمات قدم الأستاذ الجامعي طالبه نزار قباني إلى العالم اجمع ، و تحققت نبوءة الأستاذ و أخذت إشعار  الطالب تسبح (من بلد إلى بلد وتمر من أمة إلى أمة) 

قباني يرد على العجلاني :                      

و بعد عشرات السنوات أراد نزار قباني رد الجميل للدكتور العجلاني لأنه أول من مد يد المساعدة له و قدمه للعالم أجمع فما رأى إلا هذه الكلمات التي تعبر عن علو السمو وأنه فعلا شاعر عظيم : 

( يا صاحب المعالي. .....الآن وقد قدر لهذه الدفقة من الشعر التي جعلتها,  بتقدمك لها,  تورق وتزهر. . أن تمر على أنامل الناس.

االآن..وقد صار شعري ملكا لغيري. . أعود إليك أقول لك بأنك أنبل من ولدته أم, هذا الجميل الذي قدمته يداك لي لا أملك رده,  لأنك على كل حال أشعر مني ولأن كل هذا الشعر الذي تقرؤه الدنيا عني إن هو إلا تقدمة نثرية لتقدمتك الشعرية ).

أول إهداء :

كان نزار قباني أهدى النسخة الأولى من" قالت لي السمراء " لوالده " أبو المعتز " و كتب عليها بخط يده يقول:

 ( سيدي الوالد العظيم. ...

لي كبير الشرف أن أضع بين يديك الرحيمتين أثري الأول في هذه الحياة,  هذا الأثر الذي لولا حنانك وحدبك مع تلك  الأم التي هي صورة الله على الأرض. لولاكما لما كان لهذا الديوان أن يكون في حيز الوجود. . و إنها لتقدمه هزيلة شديدة الهزال. . متواضعة شديدة التواضع. .أمام ما قدمتما لنا منذ أن استنشقنا هواء الدنيا.. من محبة ..و رحمة ... ثقافة. . مما لا يوفيه لسان. .. لا يسده كتاب. ..

7 تشرين الأول 1944 )

كما أهدى هذا الشاعر نسخة أخرى من " قالت لي السمراء " إلى والديه فكتب : 

( إلى والدتي..أم نبيه...وأب شهم ! هما أعطياني الوجود...

 فليكن لهما بعض أثار  هذا الوجود.  )

أما معشوقتة زهراء آق بيق  فقد كتب لها إهداء يقول  :

يتبع

الرجل الذي دفع نزار قباني للاستقالة.؟

 

              

* صصحفي وكاتب

[1] - ولد العجلاني في دمشق عام 1911 ،و توفي في الرياض عام 2004 م ، والده محمد علي ، دخل الوزارة لأول مره عام 1942 وزيرا للدعاية والشباب ، ثم وزيرا للمعارف عام 1947 ، ووزيرا للعدلية عام 1951 .. وأخر وزاره تقلدها عام 1955 وزيرا للعدل ، كما كلف رئيسا للوزاره في نفس العام لفتره قصيره ، كان نائبا في البرلمان وأستاذا في جامعه دمشق ، وله عشرات الكتب التاريخية ، والقانونيه ، والأدبية .