ما الذي أعاق الفكر الإسلامي في تواصله مع الفكر الغربي؟

ما الذي أعاق الفكر الإسلامي

في تواصله مع الفكر الغربي؟

د. مولود عويمر

أستاذ بجامعة الجزائر

تحاول هذه المقالة الإجابة عن الإشكالية التالية: ما الذي أعاق الفكر الإسلامي في تواصله مع الفكر الغربي؟ وهل الخلل يكمن في المسلمين الذين لم يفهموا حقيقة الغرب، أم الخلل في الفكر الغربي المتحيّز الذي يسعى باستمرار للهيمنة على الآخر؟

في الحقيقة، هنالك أسباب ذاتية وأخرى موضوعية حالت دون فهم المسلمين الغرب فهما عميقا أو معرفته معرفة دقيقة، وأثرت على التواصل معه بشكل دائم ومثمر، نلخصها في النقاط التالية: عامل نفسي داخلي، الرواسب التاريخية، شراسة الحركة التغريبية، الخلط بين التراث الغربي والهيمنة السياسية الغربية الراهنة.

إن الإيمان بالفكر التآمري لدى بعض المفكرين المسلمين، وفهم ناقص لنصوص شرعية ساهما في تحديد علاقات صعبة مع الغرب. ولعل التجربة التاريخية مع الحضارة اليونانية التي أثرت بفلسفتها وأفكارها تأثيرا سلبيا في نظر بعض الفلاسفة والعلماء المسلمين، وحملها البعض منهم سبب تراجع المسلمين، تفسر هذا الخوف المستمر من الغرب. وما زال هذا الفكر سائدا إلى اليوم، بحيث يرى كل فكرة جديدة تأتي من خارج المنظومة الفكرية للثقافة الإسلامية محل شبهة، وخطرا يهدد المسلمين في دينهم وثقافتهم، وانتشر بشكل واسع مصطلح "الغزو الثقافي"، واستعمل في محله، وخارج موضعه.

لقد حدث الاحتكاك بين العالم الإسلامي والعالم الغربي في العصور الحديثة ليس عبر تبادل المصالح والتعارف، وإنما باحتلال الغرب لجزء كبير من العالم الإسلامي، وفرض سياسة قمعية على الشعوب الإسلامية المستعمرة.

فالغرب في نظر العديد من المفكرين والعلماء المسلمين هو مصدر استعباد واستغلال وتكريس الجهل والفقر، ولا يمثل رمزا للحداثة والتنوير (نحن والحضارة الغربية لأبي الأعلى المودودي، الإسلام والحضارة الإنسانية لسيد قطب، ظلام من الغرب لمحمد الغزالي، جاهلية القرن العشرين لمحمد قطب،... ). ورغم استقلال الدول الإسلامية، وتحررها من الاستعمار، بقيت الصورة النمطية للمستعمر راسخة في الأذهان خاصة في الدول التي نالت حريتها بالنضال المسلح. فالإنسان الغربي رسخ في ذاكرة المسلمين كإنسان لا يحمل إلا قيّم السيطرة والهيمنة.

وللتحرر من الاستعمار الأوروبي، وظّف الفكر الإسلامي لصالحه كل الأفكار التي طرحها المفكرون الغربيون الذين عارضوا الفعل الاستعماري، أو انتقدوا بشدة انحرافات حضارتهم، وتحدثوا عن أفولها (شبنغلر، توينبي، شفتزر، كارليل، دوبو...)، أو مدحوا الحضارة الإسلامية (بروكلمان، لوبون...). نعم، يمكن أن نفهم المفكرين والعلماء المسلمين الذين عاشوا في فترة الاستعمار، فكانوا في حاجة إلى تلك الأدبيات لإعادة الثقة في النفوس، وشحذ الهمم لمقاومة المستعمرين، ولكن ما قيمة تلك الأفكار اليوم؟

لقد أثار الإستشراق قضايا حساسة، وشوّه صورا مضيئة في تاريخ الإسلام، وساهم بعض المستشرقين في ترسيخ الظاهرة الاستعمارية في العالم الإسلامي بشكل مباشر أو بشكل غير مباشر. فقد شككوا في يقينيات المسلمين، ووصفوا أبطالهم بأبشع الصور، وقدحوا في إسهامات المسلمين في التطور الحضاري للبشرية، وزوّدوا الحركة الاستعمارية بمعارف تاريخية واجتماعية وانتروبولوجية ساعدتها على تنفيذ مشاريعها الاستيطانية والتوسعية وقد نالت الكتب النقدية للفكر الإستشراقي التي ألفها المفكرون العرب والمسلمون (ادوارد سعيد، محمد البهي، عمر فروخ، أنور الجندي، محمد الغزالي...) رواجا كبيرا.

الإستشراق لم يكن كله في هذه الصورة القاتمة، فقد قدم مستشرقون كثيرون خدمات جليلة للثقافة الإسلامية، خاصة المدرسة الإستشراقية الألمانية، وذلك بفض الغبار عن العديد من كتب التراث الإسلامي، ونشرها بشكل واسع في صورته الأصلية أو مترجما إلى اللغات اللأوروبية المختلفة، وعرّفوا العالم الغربي بالإنجازات الحضارية للمسلمين.

 هذا الوجه المزدوج للإستشراق، شكل صعوبة في فهمه، والفرز بين إيجابياته وسلبياته. فالإستشراق حمل زمنا طويلا مفهوما شائكا، يدعو إلى الريبة، والشكوك أحيانا حتى في نياته الحسنة، والتردد في الاعتراف بفضائله على التراث الإسلامي. فمازال العديد من المفكرين والباحثين المسلمين يتعاملون مع الإستشراق من هذه المنطلقات القديمة.

عرف العالم العربي والإسلامي حركة تغريبية شرسة في النصف الأول من القرن العشرين، أرادت أن تفرض النسق الغربي في التفكير، ونمط عيش الغربيين دون مراعاة للشروط الثقافية والاستعدادات النفسية للمسلمين.

وفي كثير من الأحيان، أساءت هذه الحركة التغريبية إلى الغرب نفسه أكثر من العالم الإسلامي. فقد أساءت في تقديم صورة حقيقية ومشرقة عن الغرب. فطرحت ثنائيات من العلمانية ضد الحاكمة الإسلامية، وسفور المرأة في مواجهة التستر والحجاب، والعامية مقابل اللغة الفصحى، والحداثة في وجه الأصالة.

فقد جعلت الفكر الغربي فكرا مضادا للإسلام، وليس فكرا إنسانيا يتكامل مع الأفكار التي دفعت البشرية نحو مستقبل أفضل. وتكمن هذه الشراسة في القضايا التي أثارتها، والأساليب التي انتهجتها، والحلول المستوردة التي سعت لإلزام العرب والمسلمين بها.

والالتباس الأخر الذي وقع في علاقاتنا بالغرب، هو الزاوية التي اختارها بعض المفكرين والعلماء لنظرة الغرب، فهم ينظرون للغرب من خلال صوره الراهنة التي تطغى عليها الغطرسة والهيمنة، ولا يبصرون صوره الحضارية المشرقة، ولا يعترفون بإسهاماته الكثيرة في تحسين ظروف معيشة البشرية بما أنتجه وما زال ينتجه في مجالات العلم والتكنولوجية والإعلام والاتصالات والطب...الخ.

ولعل أبرز مثال يجسد مسألة عدم معرفة الغرب بشكل دقيق، والتي اهتم بها كثيرا الفكر الإسلامي المعاصر، ووقع فيها التباس كبير، هي قناعة العديد من المفكرين المسلمين بقرب سقوط الحضارة الغربية، أو استعجالهم لزوالها. فمنذ بداية القرن العشرين يصرون على أفول الحضارة الغربية، وانهيار نفوذها، واستبشار بنهاية هيمنتها. فقد تأثر هؤلاء العلماء بظاهرة نقد الحضارة الغربية التي سادت بقوة في أوروبا بعد الحرب العالمية الأولى، وحمل لواءها علماء وفلاسفة غربيون أشرنا إلى بعضهم من قبل.

ونالت كتب هؤلاء المفكرين رواجا كبيرا في العالم الإسلامي (الإنسان ذلك المجهول لألكسيس كاريل أو أفول الغرب لأزوالد شبنغلر، ...) حتى أصبحت مصدرا للخطاب الإسلامي في الرد على الحركة التغريبية، واستبشار العامة من المسلمين بقرب انتصار الإسلام، كأن انهيار الحضارة الغربية هو الشرط الأول أو الوحيد لعودة المسلمين إلى مجدهم الأول!

إننا نؤكد هنا على أن الحضارة لا تقوم بمجرد سقوط حضارة أخرى، فالحضارة هي حصاد تضافر الجهود، وتراكم التجارب عبر الزمن وتواصل الأجيال. نعم خسرنا أشياء كثيرة بسبب هيمنة الغرب وتفوقه علينا، ولكننا سنخسر أيضا في زمننا الراهن لو سقطت الحضارة الغربية قبل أن نجد لها بديلا، لآننا للأسف ربطنا أنفسنا بمظاهرها المادية، وأصبحنا شعوريا ولاشعوريا ملحقين لها في كل مجالات الحياة!