السكند لايف..
سحر المصري
طرابلس - لبنان
ما زلت أذكر يوم دعتني أخت داعية لنا منذ أشهر إلى الولوج في عالم السكند لايف للقيام بواجب الدعوة هناك وكانت أول ردّة فعل لي بعدما قرأت عنه سلبية للغاية. ثم نسيت الموضوع تماماً ولكن لم تمضِ أشهر على هذا الكلام حتى تفاجأت بموقع اسلام أون لاين ينشئ خيمة رمضانية ويعِد بإنشاء جزيرة في الحياة الثانية ما جعلني أعود للتعمق في القراءة أكثر وجمع أكبر كَم من المعلومات عن هذه الحياة ومحاولة تحليل هذا الوضع القائم الذي فرض نفسه في عالم الانترنت.
بدايةً ما هي "السكند لايف" أو "الحياة الثانية"؟
هي عالم افتراضي ثلاثي الأبعاد على الانترنت كامل متكامل فالأشخاص المتواجدون والبيوت والمعامل والمصانع وصالات العرض والجامعات والمتجار والملاهي والمؤتمرات الصحفية والتجارة هي حقيقية تابعة لأشخاص حقيقيون.
هذا العالم أطلقه فيليب ليندن عام 2003 من مختبره في مدينة سان فرانسيسكو الأمريكية وقامت بتطوير هذا المشروع شركة صن مايكروسيستمز.
يبلغ عدد المسجلين فيه حوالي التسعة ملايين بينما عدد سكانه الفعليين هو تقريباً 1.3 مليون ويتواصل من خلاله ثلاثة ملايين تواصلا تفاعلياً.
وكل ما على راغب الولوج في هذا العالم فعله هو تحميل البرنامج من موقع السكند لايف على الجهاز وهو يعمل على نظام التشغيل التابع لمايكروسوفت أو "أبل" أو "لاينكس" المفتوح المصدر (عبر النسخة ألفا). وهذا البرنامج لا يدعم اللغة العربية ولكن بعد أن بات كود المصدر الخاص ببرنامج الحياة الثانية متوفر للمطورين الراغبين في تعزيز خصائصه وآليات عمله فسيكون بالإمكان إدخال لغات جديدة كما تؤكّد كاترين سميث مديرة إدارة التسويق في مشروع "الحياة الثانية" الافتراضي.
الآن بعد التنصيب وإتمام معلومات التسجيل المجاني تظهر شخصية يُقال لها "أفاتار" Avatar وهي كلمة هندية معناها التجسد ويكون باستطاعة هذا الأفاتار التجول والتعرف على الأصدقاء والتسوق والتفاعل مع هذا العالم الافتراضي من خلال الصوت والفيديو أو الكتابة مع صعوبة الحركة في بادئ الأمر فكل شيء هناك جديد وغريب.
ويبدو أن هذه الحياة استقطبت العديد من الشخصيات والشركات والجامعات وبات لها طابعها الثقافي والاعلامي والاقتصادي الذي يُنذِر بتوسعة رقعة المشتركين فيها حتى أنه ليُخشى أن تؤثِّر فعلياً في السنوات القابلة على السياسة والاقتصاد العالميَين.
فقد افتتحت كبرى الشركات التجارية فروعاً لها وأهمها أي بي إم التي بدأت تجري أبحاثا حول العوالم الافتراضية وسلوك سكانها، وأسست لذلك جزيرة خاصة بها هناك وكذلك شركات ديل وتويوتا وكوكاكولا وسوني بي إم جي وأديداس وسن للأنظمة الميكروية وغيرها. كما قامت سلسلة فنادق ستاروود بإنشاء سلسلة فنادقها الجديدة والتي تعتزم افتتاحها في العالم الحقيقي في عام 2008.
بالإضافة الى هذا فقد افتتحت وكالات الإعلام العالمية فروعاً لها مثل رويترز التي افتتحت مكتبًا افتراضيًّا لها في الموقع، وعيَّنت مراسلها "آدم باسيك" مسؤولاً عنه يشاركه فريق عمل كامل لإدارة المكتب. وإلى جانب رويترز هناك شبكة سكاي الاعلامية التي أنشأت جزيرتها الافتراضية وأيضاً كانت بي بي سي من المؤسسات الإعلامية التي أبدت اهتماما بالحياة الثانية فقامت بتنظيم المهرجانات وبث البرامج وأعلنت عن نيتها بث برنامج The Money Programme والذي سيركّز على استكشاف فرص كسب الأموال من خلال مشروعات المجتمعات الافتراضية.
وعلى صعيد الجامعات فقد بنت أكثر من سبعين جامعة حرماً لها في هذا الموقع تطرح فيها أنظمتها ومناهجها ومقرراتها التعليمية أشهرها جامعة هارفارد ويستعد المركز الثقافي البريطاني لإنشاء ثلاث جزر لتعليم اللغة الإنكليزية وهناك دورات مستمرة في كافة الميادين.
ولم يتوقف الأمر عند هؤلاء بل تعدّاه إلى الجهات الرسمية حيث افتتحت كلّ من السويد والمالديف سفارات في السكند لايف. وأصبحت الحياة الثانية بمثابة هايد بارك افتراضية حيث انتشرت فيها المنابر السياسية وكانت جبهة ساخنة خلال الإنتخابات الفرنسية الأخيرة بين أنصار نيكولا ساركوزي وسيجولين رويال. كما افتتحت السيناتور هيلاري كلينتون التي تسعى للفوز في انتخابات الرئاسة الأمريكية مركزاً انتخابياً هناك.
أما عن الاقتصاد في الحياة الثانية فتقول كاترين سميث: "يعتمد اقتصاد "الحياة الثانية" على قدرة سكانها على إنشاء وامتلاك وبيع منتجات افتراضية. حيث يمتلك السكان حقوق الملكية الفكرية للأشياء والأمور التي يقومون بصنعها". وتتمتع الحياة الثانية باقتصاد قوي ويتم انفاق ملايين الدولارات الأميركية في عملية الشراء والبيع بين سكان هذه الحياة كما في أرض الواقع ويبلغ إجمالي إنفاق اللاعبين نحو 350 ألف دولار في اليوم كمعدل وسطي، ما يعادل 130 مليون دولار في السنة، ويتضاعف الاستخدام بمعدلات كبيرة كل شهر. ويتعامل السكان بعملة اسمها "ليندن دولار" (270 دولارا من هذه العملة الافتراضية تساوي دولاراً أمريكياً واحداً). كما توجد هنالك بورصة للأوراق المالية الافتراضية أطلق عليها اسم "لينديكس" يتم فيها المتاجرة بالدولارات الأمريكية واللنيدنية ويحرص المختبر في سان فرنسيسكوعلى ثبات أسعار تحويل العملة قدر الإمكان.
ويحق للسكان شراء الأراضي وتقسيمها وتأجيرها والمتاجرة بها ويشكِّل هذا العمل مصدر دخل حقيقي للكثير من مستخدمي السكند لايف وقد حصد رجل الأعمال الصيني ايلين غريف ملايين الدولارات عبر مشاريعه؛ كما وتقوم المؤسسات الكبرى بشراء جزر وتشييد الأبنية عليها لخدمة أهدافها التوعوية أو التسويقية والإعلامية. والجدير بالذكر أن الناتج القومي للحياة الثانية بلغ عام 2006 حوالي 64 مليون دولار أمريكي.
وثقافياً تصدر في الحياة الثانية مجلة "بريم برفكت" ويُقام حفلات متعددة الأهداف كحفل ترويج كتاب "الثقافة الحرة" الذي قام به لاري لاسنغ ووزّع منه نسخاً الكترونية وقام بالتوقيع افتراضياً على الكتاب.
ولا تختلف حياة سكان السكند لايف عن الواقع فهم يحتفلون ويتعارفون ويكوِّنون الصداقات ويمارسون ما يريدون وكما يريدون ثقافياً وفنياً وتعليمياً وسياسياً. وكما على الأرض فيوجد هناك أناس بريئون وآخرون مجرمون ومدمني مخدرات وارهابيون وقد اعتقلت الشرطة اليابانية رجلاً كان يبيع مسروقات افتراضية بأموال حقيقية كما فتحت الشرطة البلجيكية تحقيقاً في جريمة اغتصاب افتراضية.
أما دينياً فهناك مساجد وكنائس ومعابد يهودية أيضاً ويبقى نسبة العرب الذين يدخلون للسكند لايف ضئيلة جداً مقارنةً مع غيرهم.
وقد كان لإسلام أون لاين السبق في دخول هذ العالم واستغلاله لنشر الدعوة الإسلامية من بين الوسائل الاعلامية العربية والاسلامية. فقد تم انشاء خيمة رمضانية بجانب مسجد الشيبي chebi الافتراضي. أطلق الموقع الخيمة في أول رمضان بغية بث صلاة الترويح من الحرم المكي مباشرة وبث المحاضرات لعدد من العلماء والشيوخ وإقامة الأمسيات الفنية إلى جانب التعرف على أصدقاء من عالم السكند لايف. ويقول أحمد فتحي مراسل إسلام أون لاين.نت والمعروف في الحياة الثانية بإسم "ديجي ميليز": "إن إسلام أون لاين.نت تسعى من خلال الخيمة الرمضانية إلى استثمار شهرة هذا العالم لتقديم رمضان والإسلام لغير المسلمين، إضافة إلى إضفاء أجواء ونفحات الشهر الكريم الإيمانية على المسلمين في هذا العالم، وفي الوقت ذاته تهدف إلى تعريف غير المسلمين بشهر الصوم وأحكامه وفضله". وتقدم إسلام أون لاين.نت لزوار "الخيمة" هدايا مجانية، منها "شال" عليه شعار الموقع، ومباخر، وفوانيس رمضان. وقد حاول أفاتار تخريب الخيمة في منتصف أيلول الجاري وكان يسب ويشتم مردداً "سنقتل المسلمين جميعاً! ارهابيون!" وتصدّى له من كان هناك وأحبطوا محاولاته التخريبية.
ومع قدوم موسم الحج ولتعليم الوافدين الى الحياة الثانية المناسك قام موقع اسلام أون لاين بتصميم الحرم المكي وفي وسطه الكعبة الشريفة ومجسّم للحجر الأسود ووضع علامات لكيفية الطواف وغيرها من الأمور التي يجب أن يعرفها الحاج فيطبقها كما لو أنه في الحرم فعلياً.
أما مسجد chebi فيستقبل شهرياً أكثر من ألفَي زائر يريدون التعرف على الإسلام وقد أشهر ثلاث مسيحيون اسلامهم هناك كثمرة لجهود الدعاة في المسجد بعيداً عن الإعلام الغربي الذي عادة ما يشوِّه الاسلام. ويدير المسجد الطبيب النفسي السعودي محمد يوسف الذي يسكن في السويد والذي صرّح قائلاً: " تم تشكيل مجموعة إسلامية للدعوة إلى الله بالحكمة والموعظة الحسنة والترغيب، والتعظيم من شأن ديننا قولا وفعلا، وذلك منذ نوفمبر 2006 على فضاء (سكند لايف)؛ كما نسعى إلى إقامة شعائر صلاة الجمعة وعقد محاضرات عامة وفعاليات خيرية".
ولفت يوسف إلى أن مسجد شيبي "الافتراضي" يتيح فرصة التطبيق العملي -على سبيل التعليم- لبعض أركان الإسلام كالصلاة والوضوء وسماع القرآن الكريم من خلال مصاحف تتميز بالتفاعلية من يلمسها تنقله فورًا لروابط مقاطع قراءات وترجمة للقرآن من الموقع الإلكتروني "طريق الإسلام".
وهناك أيضاً مركز اسلامي آخر اسمه تسنيم لا يقل هدوءاً وسكينة عن مسجد شيبي وهو يُعرف بأنه مكان للتصوف والعبادة.
حقيقةً لم يكن سهلاً عليّ الحكم على السكند لايف من مجرد معلومات منشورة فقررت اقتحامها من بابها العريض لاكتشافها واسكات الفضول الذي اجتاحني حين قراءتي عنها. وفعلاً حين دخلت استغربت وأسرعت الى المسجد لأصلي وكم تتملّك الإنسان راحة حين يدخل مسجداً حتى الافتراضي منه!! ثم دخلت خيمة اسلام أون لاين لأجد الدكتور محمد يوسف وبعد حديث معه عن هذه الحياة والدعوة الاسلامية فيها تركت هذا العالم لأعود اليه مراراً وألتقي بفتيات من مختلف الجنسيات وأغلبهنّ لسن مسلمات؛ قابلتهنّ واسترعى انتباهي أمر مهم جداً وهو أن الخطاب الموجّه لهنّ مختلف تماماً عما تعوّدناه في الدعوة فالكثيرات منهنّ لا يعرفن من الاسلام الا اسمه ولكن رغبتهنّ للتعرف الى الاسلام قوية فدخلت في نقاشات معهنّ ولفتني حرصهنّ على السؤال عن كل شيء حتى أن احداهنّ كانت تسألني عن معاني كلمات اعتدنا تردادها بعفوية كالحمد لله وسبحان الله وصلى الله عليه وسلم. والنقطة الأهم التي يجب الوقوف عندها هي أنه يجب تتبّع الأسلوب الدعوي المناسِب مع هؤلاء الوافدين الى الحياة الثانية فالفراغ الروحي الذي يتخبطون فيه كبير والداعية هناك يتكلم بإسم الاسلام وأي تلكؤ سيُحسَب على الاسلام للأسف وليس على الشخص الذي يدعو؛ لذلك يجب أن يكون لدى الداعية الحجّة القوية والذكاء ويجب صقله بالمعلومات وبطرق دعوة غير المسلمين لمعرفة كيفية الاقناع وادارة الحوار وتوصيل المعلومة.
والجدير بالذكر ان الداعية محمد يوسف كان قد دعا المؤسسات الدعوية للدخول الى هذا العالم واستغلاله لنشر الدعوة فيه وإقامة مراكز دينية للتعريف عن الإسلام. وليس المسلمون وحدهم الذين أدركوا أهمية الدعوة في هذه العوالم ففي خبر نقله اسلام أون لاين عن صحيفة تايمز البريطانية مفاده أن بعض القساوسة وعى خصوبة هذه التربة؛ فهناك قسيسٌ يُدعى أنتونيو سبادارو كتب في صحيفة "لا سيفيلتا كاتوليسا" - التي يحررها في روما أعضاء بالنظام الكاثوليكي اليسوعي ويراجعها وزير خارجية الفاتيكان - كتب يدعو "أتباعه الكاثوليك إلى عدم التردد في اقتحام "سكند لايف" معتبرًا أن هذا العالم قد يكون أرضًا خصبة للأرواح التائهة عن موطنها". ويؤكّد مسؤول في لندن لابز أن هناك بعثات تنصير بدأت مهامها منذ انتشار السكند لايف.
والمتتبّع لأخبار هذا العالم يشعر بمدى انتشاره وفي الوقت نفسه نقل معالِم العالم الحقيقي إلى هناك والمسيء منها والمُغرِض قبل الصحيح. فقد نشرت صنداي تايمز ان "إسلاميين متطرفين" يشتبه في استخدامهم موقع "سكند لايف" لإجراء تحويلات نقدية تستخدم في "أعمال إرهابية" على أرض الواقع أو عمليات تخريب في الواقع الافتراضي. وهناك تخوف من استعمال هذا الموقع لتجنيد ارهابيين من قِبَل متطرفين جهاديين.
والملفت للنظر اهتمام الأنظمة الأمنية بسلامة العالم الافتراضي بينما تغوص عوالم المسلمين من أقصاها إلى أقصاها بالقتل والذبح والحصار والتجويع وتشديد الخناق والتفجير والترحيل وغيرها مما يندى له الجبين.. فأي تناقض هذا الذي نعيش فيه؟!
وفي المقابل نجد من ينزع الى هذا العالم لتحقيقه بعض أمان فقده على الأرض كبعض الاسرائليين الذين يعيشون في جزيرة خاصة بهم هرباً من التهاب الأراضي المحتلة وبحثاً عن الحب والسلام. وكذلك الأمر بالنسبة لبعض الجزائريين والمغاربة الذين يعتبرون الحياة الثانية بديلاً أكثر أمناً من الهجرة الى أوروبا في قوارب الموت والغرق على سواحلها.
ولعلّ أكثر من يدخل السكند لايف يهرب من الضغوط النفسية التي يعيشها ومن رفض المجتمع له أو رفضه هو لمحيطه وواقعه وربما فشله العملي، العلمي أوالعاطفي فهنا ملاذ آمن للعيش في أحلام وخيال بعيداً عن تكاليف الحياة ومواجهة الواقع بإصرار وعزيمة. وفي الوقت الذي يخشى فيه بعض الأطباء الاندماج الكامل في هذا العالم والانسلاخ عن الواقع يشجع البعض الآخر على خوض التجربة دون وجل لأن الإنسان حسب زعمهم بحاجة إلى مساحة يتحرك فيها بحرية ويخفّف من المنغصات الحياتية.
ولئن كان أغلب الملايين التي تدخل الحياة الثانية لتهرب من واقع مرير فإن المسلمين الذين يدخلون نسبتهم لا تكاد تُذكَر فالدين والتوكل على الله جل وعلا والرضا بالقضاء والقدر خيره وشره من شأنه أن يخفف من آلام ومعاناة الواقع فالعقيدة الثابتة في القلوب والارتباط بالقرىن الكريم تجعل المسلم أقدر على مواجهة الحياة والصبر على الضرّاء فما ينتظره من نعيم مقيم يجعل قلبه معلّق بالله تعالى والجنان ويعتبر الحياة فترة بسيطة يقضيها كمن استظلّ في ظل شجرة ثم تركها.
ولقد توجّهتُ ببعض الأسئلة عن السكند لايف إلى فضيلة الشيخ المستشار فيصل مولوي نائب رئيس المجلس الأوروبي للبحوث والإفتاء وهذا نصها مع الردود.
السؤال: برأيكم ما الذي يجعل سكّان السكند لايف يمضون ما بين 4 إلى 10 ساعات يومياً هناك؟ وإن فعلها الملتزم أفلا يكون تضييعاً للوقت ولو كان هناك لدواعي دعوية؟ وهل تعتقد أنّ خوض غمار هذه الحياة هو هروب من الواقع وتحقيق للذات في عالم افتراضي نتيجة عدم التأقلم في الحياة الأرضية وعدم الاستطاعة للتكيّف مع ضغوطاتها؟ أم أنّها مواكبة للتطور التكنولوجي؟
الجواب: إنّ لجوء بعض الناس إلى العالم الافتراضي الذي ذكرت ناشئ عن الشعور بالفراغ والهروب من الحياة الواقعية المليئة عادة بالآلام، فهؤلاء ليس عندهم رسالة في الحياة يعيشون لها، يجاهدون من أجلها، وهم من هذا الباب يشعرون أنّ حياتهم فراغ، وكلّما زادت آلامهم في هذه الحياة، وهو أمر طبيعي بالنسبة للجميع، لم يجدوا طريقاً للتخلّص من هذه الآلام إلاّ الهروب من الواقع إلى عالم الخيال أو إلى مثل هذا العالم الافتراضي، تماماً كما يفعل من يتعاطون الخمر أو الحشيش.
إذا فعل ذلك الملتزمون، بنيّة الهروب من الواقع، والتخلّص من الآلام، فهذا لا ينسجم أبداً مع شعور المسلم أنّه صاحب رسالة، لكن إذا فعله هؤلاء للقيام بالواجب الدعوي تجاه رواد هذا العالم، فهي نيّة صالحة يؤجّرون عليها، ولا بدّ أن يكون ذلك منضبطاً بالأحكام الشرعية، وأهمّها أن لا يؤدّي الدخول في هذا العالم إلى إضاعة فرائض أو واجبات، أو إلى استنزاف أوقات طويلة يضيع أكثرها بالتسلية، فالعمل الدعوي يجب أن ينحصر بالوقت اللازم له، وليس بأكثر من ذلك.
إنّ الدخول إلى هذا العالم هو في الحقيقة استفادة من التطور التكنولوجي من أجل الهروب من الواقع، وليس مواكبة لهذا التطوّر بالمعنى الإيجابي الذي يقتضي الاستفادة من التكنولوجيا لخدمة الإنسان وتحقيق أهدافه العليا في الحياة.
السؤال: هل يا ترى على الدعاة الاستنفار لاستثمار هذه التكنولوجيا للدعوة إلى الله جل وعلا، أم أنّ الأقربون- على الأرض- أولى بالمعروف؟ وهل سيأتي يوم يسألون أحدهم عن مهنته فيقول: داعية إسلامية في السكند لايف؟
الجواب: في هذا العصر الذي انتشر فيه الفساد، وكثرت حاجة الناس إلى من يذكّرهم بالله، ويدعوهم للاستقامة على دينه، يجب على الدعاة أن يكونوا مستنفرين بشكل دائم، لكن الدعوة في السكند لايف قد تكون الأقل أهمية بين أبواب الدعوة المختلفة، ولا شك أنّ الدعوة المباشرة التي يقوم بها الداعية مع أهله وأقربائه وزملائه وأبناء بلده أكثر وجوباً وأطيب أثراً.
السؤال: ما رأيكم في مبادرة إسلام أون لاين ودخولها هذه الحياة من بابها العريض حتى أنّها أقامت في العيد احتفالات وتهاني؟ وهل النتائج التي ستجنيها هي بقدر الطاقة المبذولة؟
الجواب: مؤسسة (إسلام أون لاين) جعلت هدفها منذ إنشائها خدمة الدعوة عن طريق الوسائل التكنولوجية المعاصرة، لذلك فإنّ دخولها في هذا الباب أمر طبيعي ينسجم مع طبيعتها وأهدافها، أمّا النتائج فلا يعلمها إلاّ الله، وقد تكون كثير من برامج (إسلام أون لاين) لا تؤدّي إلى نتائج مباشرة، لكنّها مع بعضها تؤدّي إلى فؤائد كثيرة للدعوة والدعاة.
السؤال: هل هناك شروط معيّنة تعتقد أنّه يجب أن تتوفر في الداعي إلى الله عز وجل وهي خاصة لمن يدخل هذه الحياة- طبعاً بالاضافة إلى ملكه للغة الانكليزية- ليحّصن نفسه ولا ينزلق في متاهاتها؟
الجواب: ليس هناك شروط جديدة للدعاة إلى الله تحصنهم إذا دخلوا هذا العالم حتى لا يضيعوا في متاهاته. فكل جوانب الحياة التي يدخل فيه الدعاة يمكن أن يضيعوا في متاهاتها، والتذكرة الدائمة تشمل أموراً أهمّها:
أ- أن يعلم الداعية الحكم الشرعي في أي عمل قبل الدخول فيه، والدخول إلى عالم السكند لايف حكمه الإباحة من حيث الأصل، وقد يتحوّل إلى الاستحباب إذا كانت الاستفادة الدعوية منه ممكنة، وقد يتحوّل إلى الكراهة والتحريم إذا أدّى إلى الوقوع في حرام، أو إلى إضاعة فرض أو واجب. وحتى لو بقي الأمر في حدود المباح أو المستحب، فينبغي أن يظلّ ضمن وقت محدد ولا يزيد.
ب- أن يصطحب معه دائماً النية التي ترضي الله تعالى، وإنّما الأعمال بالنيات.
ج- أن لا يتورّط في معصية، وأن لا يبرّر مثل هذا التورط إن حصل، وأن يكون شديد الانتباه والحذر، فمن حام حول الحمى أوشك ان يقع فيه.
السؤال: هل تعتقد فضيلة الشيخ أن الأحزاب والحركات السياسية والدينية ستشقّ طريقها إلى تلك العوالم ليُكملوا ما بدأوه في الحياة الدنيا؟ وماذا عن الجماعة الإسلامية في لبنان؟ هل سيكون لها جزيرة هناك يوماً ما؟
الجواب: لا أعتقد أنّ الأحزاب والحركات السياسية والدينية التي تحمل رسالة معيّنة وتعمل من أجلها ستدخل هذا العالم الافتراضي، وفي جميع الأحوال لا أظنّ أنّ الجماعة الإسلامية سيكون لها وجود هناك.
وفي حوار مع الدكتور الشيخ ماجد الدرويش اعتبر فضيلته أن الدعوة الى الله تعالى واجب شرعي في كل مكان وزمان وأن نبيّنا صلى الله عليه وسلّم كان يتحيّن أزمنة تجمّع الناس في أسواق مكة ليُسمِع كلام الله جل وعلا إلى أكبر عدد ممكن وبالتالي فإن هذا التجمع الافتراضي وراءه شخصيات حقيقية تحرّكه وعليه فهي المقصودة بالدعوة. وفي سؤال عمّا إذا كان يعتقد أن لهذا العالم مستقبلاً تدخل في السياسات العالمية أجاب: "أظن أن هذا التصور فيه شيء من المبالغة، وهذا العالم لا يبدو أن له تأثيراً على السياسات العالمية، بل هو أشبه بالعلاقات العامة بين الناس". أما عن انطباعه الشخصي عن هذا العالم فأجاب: "انطباعي الشخصي عنه تبع لميزان المصالح والمفاسد، فإذا زادت مفاسده على مصالحه مال إلى النهي، أما إذا زادت محاسنه على مفاسده فهو إلى الجواز أقرب طالما أن الحدود الشرعية في التعامل مع الآخرين مراعاة".
وفي الختام نتساءل أويكون هذا العالم ملكاً لمن يملك فن الهروب من الواقع ليفتش لنفسه عن هوية فقدها في عالم واقعي وفقد معها الأمان والأحلام والسعادة؟! وهل هو بيت العنكبوت لبعض الحالمين وبيت أموال للتجار والمستثمرين؟ فلكلّ وجهةٌ هو مولّيها هناك.. وهل يا ترى ستنتشر الدعوة الإسلامية لتنشل التائهين من غياهب الظلام والكفر والكبت وتكون أملاً يملأ القلوب الحائرة؟
المستقبل كفيل بأن يجيب عن أسئلة كثيرة.. فلننتظر!