التعددية السياسية في السياسة الشرعية
التعددية السياسية
في السياسة الشرعية
دندل جبر
ـ 1 ـ
إن التعددية السياسية كما أنها إحدى الآليات التي تعبر عن الديمقراطية المعاصرة ، فهي كذلك إحدى آليات تحقيق مبدأ الشورى في المفهوم الإسلامي لكن يمكن أن نميز في إطار التعددية السياسية في السياسة الشرعية بين اتجاهين ممن قالوا بجواز هذه التعددية :
ـ أصحاب الاتجاه الأول : يرون مشروعية التعددية السياسية في إطار المشروعية الإسلامية العليا ، أي في إطار الالتزام بسيادة الشريعة وعدم الخروج على أصولها الثابتة .
ـ أصحاب الاتجاه الثاني : يرون مشروعية التعددية السياسية بإطلاق ، أي عدم وجود قيود على مجالها السياسي .
وسنبحث في كلا الاتجاهين :
1 ـ أصحاب الاتجاه الأول القائلون بجواز التعددية في إطار الأصول الثابتة في الشريعة الإسلامية .
ويغلب في هذا الاتجاه الباحثون المعاصرون حيث يقول البعض منهم : إنه التجديد في الوسائل والأساليب لاستيعاب متغيرات العصر ..
وتكاد أغلب الكتابات الحديثة في النظام السياسي في الإسلام تنحو هذا المنحى وتتلمس له التخريجات الشرعية التي تدخله في منظومة المفاهيم السياسية الإسلامية ..
ويقول البعض الآخر منهم : " لا مانع أن تتعدد الجماعات العاملة للإسلام مادامت الوحدة متعذرة عليهم بحكم اختلاف أهدافهم واختلاف مناهجهم واختلاف مفاهيمهم ، واختلاف ثقتهم بعضهم ببعض .
على أن يكون هذا التعدد تعدد تنوع وتخصص لا تعدد تعارض وتناقض ، يقف الجميع صفاً واحداً في كل القضايا المصيرية التي تتعلق بالوجود الإسلامي وبالعقيدة الإسلامية ، وبالشريعة الإسلامية ، وبالأمة الإسلامية ...
ومثل هذا التعدد أو الاختلاف ـ اختلاف تنوع ـ لا يؤدي إلى تفرق ولا عداوة . ولا يلبس الأمة شيعاً ، ويذيق بعضها بأس بعض ، بل هو تعدد واختلاف في ظل الأمة الواحدة ذات العقيدة الوشجة ، فلا خوف منه ولا خطر فيه بل هو ظاهرة صحية " (الدكتور يوسف القرضاوي ـ فتاوى معاصرة ـ ط 2 ـ 1414 هـ ـ 1993م ـ ص 959)
" الواقع ينطق بأن في الساحة قوى مختلفة ، وجماعات متعددة تنطلق من الإقرار بالإسلام والانقياد له ، ولكنها مختلفة الرؤى والمفاهيم والبرامج والخطط ، فإذا قدر لبعضها أن يملك زمام السلطة بوسيلة أو بأخرى ، فهل يأذن لسائر الجماعات والقوى بالبقاء والاستمرار أم يقضي عليها بأن تختفي من المسرح وتتوارى إلى الأبد ؟ إن الأرشد والأوفق أن تظل هذه القوى في الساحة داعية موجهة ، آمرة بالمعروف ، ناهية عن المنكر ،ناصحة لله ورسوله ، ولأئمة المسلمين وعامتهم .
وإن كان تعدد الأحزاب والقوى السياسية مشروعاً في ظل الدولة الإسلامية الملتزمة بأحكام الإسلام ، فمن باب أولى أن يكون تعدد الجماعات والأحزاب مشروعاً قبل قيام دولة الإسلام ، فلا مانع أن يوجد في ساحة العمل الإسلامي أكثر من جماعة تسعى لإقامة المجتمع المسلم والدولة المسلمة وتجاهد في سبيل الله بكل وسيلة مشروعة ...
إن العمل الجماعي لنصرة الإسلام ، وتحرير أرضه وتوحيد أمته وإعلاء كلمته فريضة وضرورة ، فريضة يوجبها الدين وضرورة يحتمها الواقع ، والعمل الجماعي يعني تكوين جماعات أو أحزاب تقوم بهذا الواجب " (المصدر السابق ـ ص663)
مرتكزات هذا الاتجاه : (انظر التعددية السياسية في الدولة الإسلامية ـ مركز بحوث تطبيق الشريعة الإسلامية ـ باكستان ـ إسلام آباد ـ ص 46 ـ 61)
نوجز بيان هذه المرتكزات فيما يلي :
أولاً ـ السياسة الشرعية :
السياسة الشرعية هي : تدبير الشؤون العامة للدولة بما يكفل تحقيق المصالح ودفع المضار بما لا يتعدى حدود الشريعة وأصولها الكلية ... فهي متابعة السلف الصالح في مراعاة المصالح ومسايرة الحوادث وفقاً لقاعدة (سلفية المنهج عصرية المواجهة)مادام الأمر لم يخرج عن قوانين الشريعة الكلية ، ولم يصطدم بأصل كلي أو بنص جزئي .
وفي كتاب معين الحكام نقلاً عن الإمام القرافي " واعلم أن التوسعة على الحكام في الأحكام السياسية ليس مخالفاً للشرع بل تشهد له القواعد الشرعية من وجوه :
أحدها : أن الفساد قد كثروانتشر بخلاف العصر الأول ، ومقتضى ذلك اختلاف الأحكام بحيث لا تخرج عن الشرع بالكلية لقوله صلى الله عليه وسلم " لاضرر ولا ضرار" وترك هذه القوانين يؤدي إلى الضرر ، ويؤكد ذلك جميع النصوص الواردة بنفي الحرج .
وثانيها : أن المصلحة المرسلة قال لها جمع من العلماء وهي : المصلحة التي لم يشهد الشارع باعتبارها ولا بإلغائها . ويؤكد العمل بالمصالح المرسلة أن الصحابة رضوان الله عليهم عملوا أموراً لمطلق المصلحة لا لتقدم شاهد بالاعتبار نحو كتابة المصحف ، وولاية العهد من أبي بكر لعمر ، وتدوين الدواوين ، وعمل السكة ،واتخاذ السجن ، وغير ذلك من كثير لم يتقدم فيه أمر أو نظير ، وغنما فعل لمطلق المصلحة . (انظر السياسة الشرعية لعبدالوهاب خلاف ـ ص17 ـ 18)
إن تدبير شؤون الحكم وعقد السلطات العامة في الدولة ، وتنظيم العلاقات بينها وتمكين الأمة من ممارسة حقها في السلطة وتدبير أنظمة الشورى والحسبة ونحوه كل ذلك من مسائل السياسة الشرعية التي لا يشترط فيها أن تكون على مثال سابق ، بل الذي يشترط هو ألا تخرج عن قوانين الشريعة الكلية وحدودها العامة ، وأن تتحقق بها المصلحة ويرفع بها الحرج .
فإذا كان الواقع أنه قد دق دين الحكام وضعف الوازع الداخلي الذي يحملهم على الإنصاف وإقامة العدل وحماية الحقوق والسهر على كفالة المصالح ، ومست الحاجة إلى رقابة شعبية منظمة تأطر هؤلاء الحكام على الحق أطراً ، وتردهم إلى الجادة إذا شردوا وتتبنى مطالب الأمة وتضع البرامج السياسية القادرة على استصلاح الأحوال والنهوض بالبلاد والعباد وتدفع بها إلى التنفيذ من خلال إطار سلمي مشروع يتفق عليه الكافة ،فإن هذا مما يندرج في باب السياسة الشرعية ، ويكون الواجب في هذه الحالة هو إحكام صياغة هذا النظام حتى لا يهدم اصلاً قطعياً في الشريعة أويعارض حكماً من أحكامها الثابتة .
ثانياً ـ الأصل في العقود والمعاملات الإباحة حتى يأتي ما يدل على التحريم .
ثالثاً ـ ما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب :
إن الشريعة تأمرنا بجملة من المبادئ الكلية يتوقف وجودها أو من القيام بها في واقعنا المعاصر على التعددية السياسية ذلك على النحو التالي :
آ ـ الشورى : سبق أن الشورى من عزائم الأحكام وقواعد الشريعة الكلية ، والسبيل الأصلي لتحقيقها أو حسن تطبيقها في باب السياسة والحكم في واقعنا المعاصر هو التعددية السياسية . فمجال عمل الشورى في باب السياسة والحكم يتمثل في عملية انتقال السلطة والرقابة عليها وفي كلا الأمرين تلعب التعددية السياسية دوراً هاماً في حسن القيام بهذه الأمور على وجهها المنشود ...
وإذا كانت الشورى لا تتحقق في أرشد تطبيقاتها وأكثرها فعالية في واقعنا المعاصر إلا من خلال التعددية السياسية فقد امتهد القول بشرعية هذه التعددية بل بوجوبها بناء على قاعدة ما لايتم الواجب إلا به فهو واجب ، إذ الوسائل تأخذ حكم المقاصد حلاً وحرمة .
ب ـ الرقابة على السلطة :
الرقابة على السلطة حق أصيل للأمة ، وهو مبني على أنها صاحبة الحق في السلطة ابتداءً ، وقد فوضت أئمتها في القيام بتبعاتها في إطار (ما كان لله طاعة وللمسلمين مصلحة) ويبقى لها حق بل عليها واجب الرقابة ، فإن استقام أئمتها استقامت لهم وإلا كانت عياراً عليهم فإما أن تعدل بهم إلى الحق أو أن تعدل عنهم إلى غيرهم .
رابعاً ـ قاعدة الذرائع والنظر إلى المآلات :
اعتبار الذرائع أصل من الأصول المعتبرة في تقرير الأحكام . والذرائع ما يكون طريقاً لمحلل أو لمحرم فيأخذ حكمه ، فالطريق إلى الحرام حرام والطريق إلى المباح مباح ، وما لا يتم الواجب إلا به فهو واجب ، فموارد الأحكام قسمان :
ـ مقاصد : وهي الأمور المكونة للمصالح والمفاسد في أنفسها، أي التي تعد في ذاتها مصالح أو مفاسد .
ـ وسائل : وهي الطريق المفضية إليها ، وحكمها حكم ما أفضت إليه من تحليل أو تحريم .
والأصل في اعتبار الذرائع هو النظر إلى مآلات الأفعال ، ولا غنى للفقيه من النظر في مآلات الأقوال والأعمال قبل إجراء الأحكام ، فقد يكون الشيء مشروعاً ، ولكن يمنع باعتبار مآله ، وقد يكون غير مشروع ويترخص فيه باعتبار مآله .
فإذا استصحبنا هذه القاعدة في قضية التعددية السياسية فإنها تقودنا إلى القول بمشروعية هذه التعددية ، رغم ما قد يشوبها من بعض التجاوزات التي يمكن أن تغتفر اعتباراً لقاعدة اعتبار المآل ، وقاعدة الموازنة بين المصالح والمفاسد وبيان ذلك ما يلي :
إذا كان الخلاف حقيقة واقعة والتعددية أمراً قائماً في الواقع سواء علينا شئنا أم أبينا ، وأمكن للفكر الإسلامي أن يستنبط صيغة من صيغ التعامل مع المعارضة تكفل استيعابها داخل إطار مشروع يتيح لها مشروعية التعبير ومشروعية العمل في الضوء بعيداً عن التواري داخل السراديب المظلمة ، ويتيح لها فرصة المشاركة في الحكم إذا قدمت عطاءً مميزاً يحوز ثقة الأغلبية ، فتوقى الأمة بذلك فوائد الخروج المسلح وحركات التمرد الهوجاء التي تبث القلاقل في دار الإسلام ، وقد تغرقها جميعاً في بحر من الدماء !!
وعليه إذا أمكن التوصل إلى صيغة تتيح للمعارضة شرعية الوجود وشرعية العمل ، وشرعية المشاركة في الحكم على وجه من الوجوه ، أليس هذا من جنس تحقيق مقصود الشارع في قطع الذريعة إلى الفتن وإشاعة الاستقرار في دار الإسلام ؟!.
خامساً ـ صيانة الحقوق والحريات العامة :
للحقوق والحريات في شريعة الإسلام منزلة عالية وصيانتها من آكد مهام الدولة الإسلامية والمجتمع الإسلامي ...
ولا يتأتى تحقيق مقصود الشارع في صيانة هذه الحريات إلا بإنشاء هذه التكتلات الشعبية التي تحمي الفرد من عسف السلطة وجور الحكام ..
ولا قبل للفرد الأعزل بالوقوف منفرداً أمام استبداد السلطة ، ولا يتسنى له ممارسة حقه في النقد والحسبة إلا من خلال إطار سياسي يكتسب من خلاله قوة الاجتماع .
سادساً ـ السوابق التاريخية :
يستشهد بعض الذين يقولون بمشروعية التعددية السياسية بأن التاريخ الإسلامي قد شهد هذه التعددية في صورة الفرق الإسلامية كالخوارج والمعتزلة والشيعة والمرجئة ونحوهم ، فهي تكتلات سياسية في الأصل تحزبت حول اختيارات وبرامج سياسية ، وإن كانت قد كست تحزبها السياسي لبوس الاختلاف العقدي والمواقف الدينية .
سابعاً ـ البدائل المعاصرة : الحزب الواحد والاستبداد :
يقول أنصار التعددية السياسية إن البدائل المعاصرة هي هذه الأنظمة التسلطية التي أذلت الأمة وأطاحت بها في وهاد الفساد والتخلف فصادرت الحريات وكممت الأفواه وغيبت الوعي ، ولم تجنِ الأمة من ورائها إلا رصيداً ضخماً من النكبات والويلات " (انظر : التعددية السياسية في الدولة الإسلامية ـ مركز بحوث تطبيق الشريعة الإسلامية ـ باكستان ـ إسلام آباد ص46 ـ 66)