ولا تفُتّوا في أعضادِ الناس
د.محمد بسام يوسف*
تميل النفس الإنسانية دوماً إلى تنظيم المعلومات بطريقةٍ تحقق أكبر قدرٍ من الوضوح، والانتظام، والكمال. وعندما يسمع الإنسان خبراً غامضاً، فإنه يميل فوراً إلى تبسيطه ليكون واضحاً، وفي حال عدم توافر معلوماتٍ كافيةٍ لذلك، يميل إلى سدّ هذه الثغرة وتعويض هذا النقص في المعلومات، وإذا لم يستطع تحصيل ذلك من المصادر الموثوقة، يستعين بمصادر أخرى من أوساط الناس والمجتمع، أو من وكالات الأنباء المختلفة وغيرها من وسائل الإعلام المتعدّدة.. وهذه الأوساط قد تكون بؤراً لبثّ الأخبار الملفّقة أو الكاذبة أو المُضَخَّمَة.. وكلّ خبرٍ هامٍ يُشَكُّ في صحته، ويتعذّر التحقّق من أصله.. فهو إشاعة.
من أهداف الإشاعة
محور الأهداف الذي تهدف الإشاعة إلى تحقيقه هو: إضعاف الروح المعنوية للشرائح الاجتماعية المستهدَفَة، تمهيداً لانهيارها، ثم تعريضها لهزيمةٍ وانكسار، أو لخسارةٍ كبيرة.. وهذه الهزيمة هي النتيجة النهائية لجملةٍ من الأهداف تحققها الإشاعة، ومن هذه الأهداف:
1- تفريق الصفوف، وتوسيع الثغرات، وتبديد الإمكانات.
2- التشكيك في كل عملٍ أو حركةٍ يقوم بها المستهدَفون.
3- بثّ عوامل الضعف والوهن، وفي طليعة ذلك: زعزعة الثقة بالنفس.
كيف نتعامل مع الإشاعة ؟!..
انطلاقاً من المفهوم العلميّ النفسيّ الوارد آنفاً، فإنّ مقاومة الإشاعة تعتمد بشكلٍ رئيسيٍ على:
أولاً: نشر الحقيقة أو تصحيح المعلومات الخاطئة، بأسلوبٍ يتّسم بالبساطة أو الوضوح ما أمكن ذلك، وبالانتظام في تزويد الناس بالمعلومات أولاً بأول، وتقديم المعلومات الكاملة حول الموضوع الذي يكون مادة الإشاعة المنتشرة في المجتمع.. سواء أكان هذا المجتمع صغيراً أم كبيراً.
ثانياً: تحليل الإشاعة ودراستها، ثم السعي لكسر حلقة نشرها، وكشف محاولات التخذيل فيها، وتتبّع سيرها للوصول إلى مروّجيها وكشف حقيقتهم، وحقيقة مُطلقيها الأصليين.
ثالثاً: التماسك على صعيد الصف المسلم وعلى الصعيد الاجتماعي، وما ينتج عنه من وعيٍ وإدراكٍ وترابطٍ وثقةٍ متبادلةٍ بين أبناء المجتمع، ما يؤدي لردّ كل إشاعةٍ إلى أولي الأمر، لوضع الحلول المناسبة لها.
ينبغي أن نتعلّم من قرآننا العظيم، ومن رسولنا الكريم صلى الله عليه وسلم، ومن صحابته رضوان الله عليهم.. نتعلّم كيف نقاوم الإشاعة، بدراسة كيفية التعامل معها:
كيف تعامَلَ القرآن الكريم مع الإشاعة ؟!..
1- بالردّ الحاسم السريع الذي يبيّن الحقيقة بكل وضوح:
(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) (يونس:38).
2- بالحثّ على عدم إذاعة أي خبرٍ (أمناً كان أم خوفاً)، بل ردّه إلى أولي الأمر أولاً (أو أهل الرأي والمشورة) لاستنباط ما فيه من خيرٍ أو شرّ، ثم اتّخاذ القرار المناسب بشأنه:
(وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلاً) (النساء:83).
3- بتنمية إيمان المؤمنين، وتقوية روابطهم مع الله عز وجل، وبوضع حدٍّ فاصلٍ واضحٍ بين الحق والباطل:
(إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:175).
4- بالتحذير من المنافقين وأشباههم، الذين يسعون دوماً لبثّ الإشاعات التي تفتّت الصفوف، وتفرّق المؤمنين وتبعدهم عن هدفهم، وتفتّ في عزيمتهم:
(إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هَؤُلاءِ دِينُهُمْ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) (لأنفال:49).
5- بالتحذير من ترديد الإشاعات من غير علمٍ أو وعيٍ لأبعادها وأهدافها:
(إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ * وَلَوْلا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ مَا يَكُونُ لَنَا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهَذَا سُبْحَانَكَ هَذَا بُهْتَانٌ عَظِيمٌ * يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (النور:15-17).
كيف تعامَلَ رسول الله صلى الله عليه وسلم مع الإشاعة ؟!..
1- بثّ الثقة والأمل والتفاؤل بنصر الله وتأييده مهما كانت الظروف، كما فعل يوم الخندق ردّاً على الشائعات المرجِفة التي كان يطلقها المنافقون: (وَإِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ مَا وَعَدَنَا اللَّهُ وَرَسُولُهُ إِلَّا غُرُوراً) (الأحزاب:12)، فقد كان ردّ رسول الله صلى الله عليه وسلم على المُرجِفين، بمخاطبة أصحابه رضوان الله عليهم: (أبشِرُوا بفتحِ اللهِ ونصرِه).
2- استنفار الطاقات وتجميع القوى والإمكانات حول هدفٍ واحدٍ محدّد، والسرعة في اتّخاذ الإجراءات بعد أي إشاعة، وقبل أن تفعل فعلها المدمِّر في الصف المسلم، فكان صلى الله عليه وسلم يوجّه حالات الاستفزاز والاحتقان نحو الإيجابية والاستثمار الأمثل، قبل أن تتوجّه بشكلٍ ارتجاليٍ نحو أهدافٍ أخرى غير محسوبة النتائج.. كما حصل يوم الحديبية بعد أن سَرَتْ إشاعة تفيد بأنّ عثمان بن عفّان رضي الله عنه، قد قُتِل في مكة، حيث دعا رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى بيعة الرضوان المشهورة، التي كانت بيعةً على الموت، فوجّه بذلك الطاقات، ورفع من الروح المعنوية للمسلمين، واستثمرها بشكلٍ منظّمٍ وهادف.
3- إشغالُ الناس بأمرٍ مفيدٍ، ريثما تتهيأ الظروف لوضع الحلول المناسبة لبعض الإشاعات، التي قد تَشْغَل الصف المسلم وتحاول تفتيته.. كما حصل بعد غزوة بني المصطلق عندما أطلق زعيم المنافقين عبد الله بن أبيّ بن سلول إشاعته وفِرْيَتَهُ التي بدأت تسري بين المسلمين، إذ قال: (لئِن رجعنا إلى المدينة لَيُخْرِجِنَّ الأعزُّ منها الأذلَّ..)، فقد جاء في السيرة النبوية المطهّرة ما يلي:
(.. فقد مشى رسول الله صلى الله عليه وسلم بالناس يومهم ذلك حتى أمسى، وليلتهم حتى أصبح.. وإنما فعل ذلك رسولُ الله صلى الله عليه وسلم ليَشغَلَ الناسَ عن الحديث الذي كان بالأمس، من حديث عبد الله بن أبيّ..) (السيرة النبوية لابن هشام / ج3 ص229).
4- عدم إطلاق الإشاعات أو المشاركة في نشرها، درءاً لخلخلة الصف المسلم أو التأثير على روحه المعنوية، كما حصل يوم الخندق بعد أن بلغ رسولَ الله صلى الله عليه وسلم أنّ بني قريظة قد نقضوا العهد الذي كان بينهم وبينه صلوات الله وسلامه عليه، فقال: (.. ولا تَفُتّوا في أعضادِ الناس).
كيف تعامَلَ المؤمنون والصحابة رضوان الله عليهم مع الإشاعة ؟!..
1- بالإيمان القويّ الذي لا يمكن زعزعته، وبأنّ العلاقة مع الله عز وجل تفوق كلَّ علاقة، وأنّ التوكّل عليه سبحانه هو الأساس:
(الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزَادَهُمْ إِيمَاناً وَقَالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَنِعْمَ الْوَكِيلُ) (آل عمران:173).
2- بالتماسك والتلاحم والثقة غير المحدودة بإسلامهم، وبإخوانهم، وبالوعي التام لمخططات العدوّ والمرجِفين، وبمحاكمة الإشاعة بموضوعيةٍ وعلميةٍ ومنطقٍ سليم.. فقد ورد في السيرة النبوية بعد خبر الإفك:
(.. إنّ أبا أيوبٍ -خالد بن زيد- رضي الله عنه قالت له امرأته أم أيوب: يا أبا أيوب، ألا تسمع ما يقول الناس عن عائشة؟.. قال: بلى، وذلك الكذِب، أكنتِ يا أم أيوبٍ فاعلة؟.. قالت: لا واللهِ ما كنت لِأفعَلَهُ، قال: فعائشة واللهِ خيرٌ منكِ..)!.. (السيرة النبوية لابن هشام / ج3 ص236).
وبعد :
يقول الله عز وجل في محكم التنـزيل:
(وَلا تَهِنُوا وَلا تَحْزَنُوا وَأَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ) (آل عمران:139).
*عضو مؤسِّس في رابطة أدباء الشام