بريطانيا تعترف بالحق ولا تنكر الوعد
د. مصطفى يوسف اللداوي
بأغلبيةٍ ساحقةٍ تنكر أعضاء مجلس العموم البريطاني لحكوماتهم القديمة، وسياساتها العنصرية التي وقفت في مواجهة الحق الفلسطيني، تناوئه وتعاديه، وتضع العقبات والعراقيل أمامه، وتتحدى إرادة أهله وشعبه، وتؤازر عدوه وخصمه، وتؤيد الباطل وجمعه، وتناصر الوافدين الغرباء، والمستوطنين الأجانب، الذين جاؤوا بعلمها، وبتسهيلاتٍ منها، للاستيطان في الأرض الفلسطينية، وطرد أهلها منها، والحلول مكانهم، بعد أن منحتهم وعداً مشؤوماً بإقامة كيانٍ لهم في فلسطين المحتلة، بغيرِ حقٍ شرعي، ودون سندٍ قانوني، إلا أنهم كانوا دولة انتدابٍ واحتلالٍ، فأرادوا في خلال فترة وصايتهم الأممية، أن يمنحوا اليهود في الأرض الفلسطينية وطناً، ولو كان على حساب شعبٍ أصيل، وأمةٍ قديمة، وسكانٍ كانوا في أرضهم قديماً، يعمرونها ويقيمون فيها، فشردتهم ومزقتهم، وشتتهم في آفاق الأرض وأفقدتهم حلمهم وحقهم، في أن يكون لهم كبقية الشعوب دولةً ووطناً حراً سيداً ومستقلاً.
بريطانيا اليوم فيما يبدو لنا أنها تؤيد الفلسطينيين في إعلان دولتهم، وفي الاستقلال بوطنهم، وتساندهم في نيل حقوقهم، واستعادة بعض ما فقدوا وخسروا، وتقف معارضةً للسياسة الإسرائيلية التي تريد أن تحرم الفلسطينيين من أي سيادةٍ على أرضهم، وتريد أن تسلبهم ما بقي لهم فيها من حقوقٍ، وتجردهم مما أبقت لهم من أراضٍ وممتلكات.
ولكن الصوت الإنجليزي الذي ارتفع عالياً قبل مائة عامٍ، وتتابع ضجيجه وتعالت صيحاته لعقودٍ بعد ذلك، يخفت اليوم ويهدأ، ويراجع نفسه ويفكر، ويقف أمام تاريخه متأملاً ناقداً، وربما رافضاً ومستنكراً، وهو الذي كان أساس المرحلة السابقة، والمؤسس الحقيقي لهذه الأزمة.
فهو المسؤول عن هذا الصراع العميق، ولعله وحده يتحمل المسؤولية السياسية والقانونية والإنسانية والأخلاقية عن تشريد شعبٍ، وضياع حق، وشتات أمةٍ، وهو الذي يتحمل المسؤولية عن سفك الدماء، وهدر الطاقات، وتعطل المشاريع، إذ قتل بسبب وعدهم المشؤوم، ورعايتهم للكيان اللقيط على أرض فلسطين، مئات آلاف الرجال، وشرد وطرد وسجن واعتقل مثلهم وأكثر، وما زالت الأزمة على حالها، والحروب توقد أوارها، وتشتعل من حينٍ إلى آخر، وتتسبب في قتل المزيد، وخراب الكثير، وتعكس ظلالها السيئة والمقيتة على العالم كله، الذي يتأثر بالأزمة، ويعيش تداعياتها، ويتضرر من آثارها.
فهل أن بريطانيا بموقفها المؤيد للدولة الفلسطينية، والمساند لمساعي وجهود الإعلان عنها، تكفر عن ماضيها، وتغتسل بتصويتها من أدرانها، وتتخلص من المسؤولية التي تحملها، وتطهر نفسها مما علق بها وبساستها عبر العقود الماضية، وهي سياسة سيئة، أضرت بنا ودمرت مستقبلنا، وأسست لهذا الضياع الذي نعيشه، وقدمت لهذه المعاناة التي نكابدها ونواجهها كل يومٍ.
فهل يشكرها الفلسطينيون على موقفها، ويشيدون بقرارها، ويبرؤون ساحاتها، ويعفون عنها، ويشطبون عن أجيالها إرثهم المقيت، وتاريخهم الأسود، وسياستهم العنصرية، رغم أن جريمتهم كبيرة، ومعصيتهم أكبر من أن يغفرها إنسان، أو يتجاوزها شعب، فضلاً عن أن أحداً من الفلسطينيين لا يستطيع أن يدعي أنه يملك الحق في العفو والسماح، وفي منح الغفران وتأكيد المغفرة.
ما قام به البريطانيون كان لصالحهم قبل أن يكون لصالحنا، فهم وفي عرفهم الديني قبل ذلك، يجب عليهم أن يقفوا بين يدي الله خالقهم، ولو كان أمام راهبٍ أو قسٍ، أو بين يدي أبٍ أو كاهنٍ أو أسقفٍ، فقد اعتادوا أن يعترفوا أمامهم بأخطائهم، ويقروا لهم بمعصيتهم، ويفشوا بين أيديهم أسرارهم، وأن يطلبوا من الله المغفرة والرحمة، لينعموا بالراحة، ويشعروا بالسلامة، ويأمنوا في الحياة من المرض والمصائب، ومن النكبات والنوائب.
فهل قام البريطانيون بالاعتراف حقاً بجريمتهم، وهل أقروا بمعصيتهم، وهل اعترفوا بأنهم أصل النكبة وسببها، وكشفوا للعالم سرهم الذي صنع لليهود دولةً على أرضٍ مغتصبة، وهل بينوا للفلسطينيين أسباب انحيازهم، ودوافع نصرتهم للحركة الصهيونية ومساندتهم لها، فالمعصية لا تموت إلا بالاعتراف، ولا تزول إلا بالمغفرة، ولا تكون إلا بالصدق والمكاشفة، وهي معصيةٌ تورث، وجريمةٌ تتناقلها الأجيال، ويتحمل مسؤوليتها الأبناء، ولا تسقط عن أيٍ منهم بغير الاعتراف بالحق، وبدون القبول به.
وهل يبدي البريطانيون وفقاً لأصول الاعتراف الديني عندهم، استعدادهم لتصحيح الخطأ، وتصويب السياسة، وتغيير المواقف، التي من شأنها إعادة الحقوق، وتطبيق العدل، والانتصار للضعيف، والوقوف في وجه المعتدي، ومواجهته بالقوة حتى يخضع، وبالسلاح حتى يكف عن غيه وظلمه، والتصدي له لمنعه من الاعتداء والقتل والغصب والتدنيس والمصادرة، وإلا فإن الله لن يقبل توبتهم، وكاهن الكنيسة من حقه إن رأى من المخطئ إصراراً على الخطأ، وإمعاناً في الجريمة، وتمسكاً بما اغتصب وسرق، أن يرفض منحه المغفرة، أو قبول التوبة.
وهل على الفلسطينيين أن يتجاوزوا الماضي، ويكتفوا بالحاضر، ويرضوا بما قدمته بريطانيا لهم، ويقبلوا به وإن كان أقل من حقوقهم، فما اقتطعته من أرضهم كان كبيراً، وما منحته من حقوقهم لغيرهم كان على غير رضىً منهم، وبغير مشورةٍ معهم، وفي وقتٍ كانوا فيه ضعافاً تحت الوصاية، ومجردين من السلاح بحكم الانتداب العسكري الذي كان يحرمهم من امتلاك السلاح، ومن حق الدفاع المشروع عن النفس، في الوقت الذي كان يمنح فيه العدو الوافد سلاحاً ويدربه، ويقطعه أراضٍ ومساكن، ويشرع له الهجرة والإقامة.
لا نشكر بريطانيا على جرائمها، ولا نحمدها على قرارها وإن كان نصرةً ومساعدة، بل نطالبها بتصحيح الأوضاع، وبالعودة إلى الأصول، وباستعادة وعدهم المشؤوم والاعتذار عنه، والتراجع عن كل مفاعيله، وإرغام العدو على القبول بما نصت عليه العهود والمواثيق، فلا تؤازره بسلاح، ولا تؤيده في السياسة، ولا تدافع عنه في المحافل، ولا تنصره في الجرائم، ولا تسكت عن عدوانه، ولا تقبل بتعدياته، ولا ترضى عن سياسته، فظلم الكيانِ بيِّنٌ وجلي، وعدوانه دائمٌ ومستمر، وتجاوزاته كثيرةٌ وكبيرة، فلترفع الصوت عالياً ضده، ولتستخدم قوتها ونفوذها ما استطاعت لمنعه، وإلا فإنها ما زالت له نصيرة، وعليه حريصة، ولظلمه مؤيدة وموافقة.