لن نسمح بحرية الرأي والتعبير
عبد الرحمن يوسف القرضاوي
قالها رئيس جامعة من الجامعات الحكومية (أي تجمع أو أي بداية مظاهرة سنتعامل معاها بشكل تاني خالص ما تقوليش لا حرية رأي ولا مش حرية رأي .. أنا ما عنديش حرية رأي من النهارده داخل الجامعة ما دام تعدينا مرحلة السلمية)!
وطبعا الأخ رئيس الجامعة قرر أن جميع التظاهرات غير سلمية، كيف قرر ذلك؟ ما أدلته على ذلك؟ الله أعلم، وقرر أيضا أن الشرطة ينبغي أن تدخل حرم الجامعة لفض أي تجمع، (وبشكل حاسم أكثر مما يتوقع أي حد)، هكذا قال الرجل!
لا أريد أن أعطي هذا الرجل درسا في التربية، ولا أريد أن أذكره بنصوص الدستور اياه، ولا أريد أن أذكره بحقيقة أنه موجود في موقعه لأداء دور محدد تقرره أجهزة الأمن، بل أريد أن أوجه خطابي لك أنت عزيزي القارئ.
تخيل عزيزي القارئ أن هذا الرجل القادم من أعماق بيروقراطية الدولة العسكرية القمعية لا يدرك أن ما يقوله ليس أكثر من هراء كامل !
المعلم الفاضل يتهم طلبته بالإرهاب، وينسى أن زوَّار الفجر قد اعتقلوا عشرات الطلبة من منازلهم قبل يوم الدراسة الأول، وينسى إلغاء وتجميد الأسر الطلابية والنشاط الطلابي قبل أن تبدأ الدراسة أصلا !
هذا النوع من البشر يتباهى أعوانه ومرؤوسوه بأن لهم عيونا وجواسيس وسط الطلاب، يتباهى بمخبريه (بلدياته)، هذا النوع من البشر يؤيد إصدار قوانين تجعل من حق إدارات الجامعات فصل الأساتذة بدون أي تحقيق أو حكم قضائي، هذا النوع من البشر لا يستحي وهو يطالب بإغلاق المدن الجامعية أمام الطلاب المغتربين الفقراء !
تخيل أن هذا الشخص وأمثاله يظن أن بإمكانه منع حرية الرأي والتعبير؟ ويظن أن الطلبة سوف يخافون من تهديداته العنترية، وسوف يدخلون إلى الجحور، ويمشون "جنب الحيط"؟ ويحسب أن تهديداته وربما بعض الإجراءات (مثل فصل عدة طلبة) سوف تحوِّل "السائب" خائفا بعد أن ضُرِبَ "المربوط" !؟
يا إلهي ... في أي كوكب يعيش هؤلاء ؟!؟!
مساكين ... يظنون أن جيل ثورة يناير مثل جيلهم !
هل تدري ما حدث لجيلهم؟
سأذكرك ... في عام 1954 قام السيد البكباشي جمال عبدالناصر بانقلاب عسكري على الرئيس محمد نجيب، واعتقل ما يقرب من عشرين ألفا من المعارضين، ورماهم في السجن في ليلة واحدة، نعم ... هكذا فعل، أمسك بهم جميعا من كل الاتجاهات، ورماهم كدجاج في عشة.
وسكت هذا الجيل على ما حدث منذ ذلك الحين، سكتوا أكثر من نصف قرن حتى قامت ثورة يناير.
في هذا النصف قرن، وفي هذه الأجواء، وتحت هذه القيم تربى مدراء الجامعات وأشابههم من الإعلاميين والصحفيين الذين يقولون لنا اليوم (أنا ما عنديش حرية رأي من النهارده).
لم يلاحظ هذا الذي يتحدث أن أجهزة الأمن تطلق الرصاص على المتظاهرين منذ عام ونصف بلا رادع، وتعتقل عشرات الآلاف بلا تهم، وتنتهك الأعراض بلا حساب، وتشرد عشرات الآلاف من المطاردين بلا رحمة ... ولكن رغم كل ذلك ما زال حراك الشارع مستمرا، وما زال جيل الثورة يرد بأعلى صوت (يسقط يسقط حكم العسكر) لمن قال (مش حاسمح لك تقول حكم عسكر)، وسنرى كيف يرد هذا الجيل على من يقول (مش حاسمح بحرية الرأي والتعبير).
لم يلاحظ هذا الذي يتحدث وكأن حرية الرأي والتعبير منحة منه، أو كأن حرية الرأي والتعبير لها شفرة محفوظة في جيب بنطاله، أن حرية الرأي والتعبير قد اكتسبها الناس بالدم، ولن يستطيع أحد أن يسلبها منهم.
مساكين ... يظنون أن هذا الجيل سيقبل أن يعيش في "عشة الفراخ" مثل جيلهم.
لست محتاجا لأن أقول (للمرة الألف) إن وصم جيل كامل بهذه الصفات ليس مقصودي، فهناك أحرار وشرفاء وعظماء في جيل الكبار، وهناك عبيد وجبناء في جيل الشباب، ولكني أتحدث عن سمات عامة، جو عام، مكتسبات شعبية، أحداث كبرى لا يمكن تجاوزها، بهذا المنطق أستطيع أن أقول للسيد رئيس الجامعة (قل ما تشاء، وتوعد كما تشاء ... ولكن نصيحتي لك ... تمهل قبل كل حرف تنطقه، لأن هذا الجيل سيحاسبك على كل كلمة تتلفظ بها قريبا).
أما كلمتي للطلبة... فليست أكثر من أن أقول لهم إياكم أن تكونوا مثل رؤساء جامعاتكم الذين عينتهم أجهزة الأمن ليكونوا مخبرين، وليكونوا عونا للمرتزقة عليكم.
أنتم المستقبل، وأنتم وقود الثورة، وأنتم حكام هذا البلد في غد قريب.
في النهاية تبقى كلمة واحدة لمن يسأل السؤال المحترم (كيف نحافظ على العملية التعليمية؟)
والجواب : البعض يرى أن ذلك يتحقق بالأمن المركزي، أو بشركة أمن !
والرد على هؤلاء كان ردا عمليا خلال الأيام الأولى من الدراسة.
وبعض المخابيل يقول فلنوقف الدراسة لمدة عامين !
ولست أدري أي مجنون ذاك الذي يريد أن يضيع عامين دراسيين من حياة جيل كامل لكي يوطد ملك جنرال منقلب.
وإذا افترضنا أن ذلك حدث فكيف سيكون شكل الدفعات التالية؟ سيتضاعف عدد الداخلين للمدارس ثلاث مرات في جميع المحافظات فكيف ستستوعب المدارس ذلك؟ ما الذي سيحدث في سوق العمل حين يتوقف تخريج جميع التخصصات لمدة عامين؟ عشرات الأسئلة بلا إجابة !
(ملحوظة: صاحب هذا الاقتراح يزعم أنه مثقف كبير ... والله العظيم!!!)
الجواب الحقيقي: الحفاظ على العملية التعليمية يكون باستقلال الجامعات عن كل أجهزة السلطة.
في يوم من الأيام كان لدينا حركة اسمها 9 مارس، وكان هدفها استقلال الجامعات المصرية، ولكن للأسف... ألقى غالبية مؤسسيها مصداقيتهم تحت جنازير الدبابات، فسحقتها، وبات استقلال الجامعات مطلبا لا ينادي به إلا جموع الطلبة، وقلة من الأساتذة، وبهؤلاء سيتحقق النصر بإذن الله.