مفهوم البيئة في القرآن الكريم

د. حسن الربابعة

أستاذ أدب عباسي مشارك

قسم اللغة العربية – جامعة مؤتة

[email protected]

البيئة لغةً واصطلاحاً :

 البيئة لغة اسم مشتق من الفعل الماضي " باء " و "بوأ " ومضارعه " يبوء " , وأشهرُ معانيه التي تهمنا يرجع إلى الفعل باء الذي مضارعه " يتبوّأ " بمعنى ينزل ويقيم , , كما هو في أساس البلاغة(1) وفي معاجم اللغة كاللسان(2)، والقاموس المحيط (3) , تحديد معنى البيئة ، بمعنى المنزل , وفي الثاني منهما ، منها بمعنى المنزل الطيِّب , فتقول نزل في مباءتهم بمعنى أناخوا إليهم في المباءة وهي معاطنها .

  وفي لسان العرب بوّأهم منزلاً يعني نزل بهم إلى سند جبل  , وأبأتُ المكان أي أقمتُ فيه . وتبوأا  لقومكما بيوتاً في مصر أي اتخذا، وقيل من معاني تبوّأ بمعنى أصلح المكان وهيّأه ليتخذه الإنسان مكاناً , وتبوأ بمعنى نزل ومباءة الغنم معطنها الذي تنام فيه , وقد أجاز الرسول الكريم الصلاة في مباءة الغنم , وذلك  جوابه  صلى الله عليه وسلم  عن سؤال  رجل  سأله عن  جواز الصلاة فيها .

وقد ورد في الشعر بمعنى التهيئة والإنزال في المكان :

وبوِّئت في صميم معشرِها               وتّم في قومها  متبوؤها

أي: نزلت من الكرم في صميم النسب .

والبيئة : هي اسم , واستباءه اتخذه مباءة , وتبوّأت منزلاً بمعنى نزلته وحللت فيه .

وفي الصحاح للجوهري (4): المباءة منزلُ القوم في كلِّ موضع , ويقال في كل منزل ينزله القوم  قال طرفة بن العبد :

طيِّبوا الباءة سهلٌ ولهم             سبلٌ إنْ شئتَ في وحشٍ وعِرْ

وتطلق البيئة اصطلاحاً على المكان الذي يقيم فيه الإنسان وغيرُه ُ, فالباءة والبيئة ،هي بيت النحل في الجبل , ومتبوّأ الولد هو الرّحم .وهي كناس الثور والموطن , والبيئة في المعجم الوسيط (5)، هي المنزلُ والحالُ , ويقال بيئة طبيعية وبيئة اجتماعية , وبيئة سياسية (المعجم الوسيط ج2/75) .

و في المنجد (6): بوأه منزلاً:هيَّأه له وأنزله فيه ( مادة بوأ الرمح ) .

ويمكن تعريفه اصطلاحا بأنه يعني المنزلَ وما يحيطُ بالفرد أو المجتمع ويؤثر فيهما كما هو في (المجمع الوجيز(7) ) .

  أمّا في النصوص القرآنية  التي هي منشدُنا وعليها يدور البحث، فتضاء مشتقات البيئة من فعلها الثلاثي ( بوأ ) , عشر مرات, في تسع سور هي:

ستٌّ مكية وثلاث مدنية , كما يبرزه الجدول التالي في هذه  الدراسة(8):-

التسلسل

الآية وشاهدها

رقمها

مكية

مدنية

المعنى الذي ذهبت إليه ومرجعه

1.

"وبوأكم في الأرض تتخذون من سهولها قصوراً "

74

الأعراف

 

بوأكم : أسكنكم (تفسير الجلالين : تفسير ص 160.

2.

 "ولقد بوّأنا بني إسرائيل  ُمبوَّأ صدق".

93

يونس 10

 

قبل هي بلاد مصر والشام استقرت بيد موسى النبي (مختصر تفسير ابن كبير

( ج1/206) .

3.

" وإذ بوّأنا لإبراهيم مكان البيت أن لا  تشرك بي شيئا " .

26

 

الحج 22

أرشده إليه وسلمه له , وأذن له في بنائه (مختصر ابن كثير (ج2/539) .

4.

" وإذ غدوت من أهلك تبوّّيْ المؤمنين مقاعد القتال " .

121

 

آل عمران 3

صفوة التفاسير (ج1/227 ) ,ومختصر ابن كثير (ج1/314) .

5.

 "والذين هاجروا في سبيل الله من بعد ما ظلموا لنبوّئنهم في الدنيا حسنة  ".

41

النحل 16

 

لننز لنهم ( تفسير الجلالين ص 271 تفسير الآية .

6.

 "والذين امنوا وعملوا الصالحات لنبوّئنهم من الجنة غرفا " .

58

العنكبوت

29

 

لننزلنَّهم أعالي الجنة (صفوة التفاسير  (ج2/ 466 )

7.

 "والذين تبوؤوا الدار والإيمان " .

9

 

الحشر 59

اتخذوا المدينة منزلاً وسكناً وهم الأنصار ( صفوة التفاسير ج3/351 .

8.

 " وأورثنا الأرض نتبوّأ من الجنة حيث نشاء " .

74

الزمر 39

 

نتصرَّف فيها تصرف المالك , وننزل فيها حيث نشاء , صفوة التفاسير  ج2/ 89 .

9.

" وكذلك كمنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء " .

56

يوسف 12

 

يتخذ منها منزلاً حيث يشاء , ويتصرف في المملكة كما يريد ( صفوة التفاسير  ج2/ 57 .

10.

" وأوحينا إلى موسى وأخيه أن تبوّأ لقومكما بمصر بيوتاً " .

87

يونس 10

 

اتخذ لهم بيوتاً للصلاة وللعبادة ( صفوة التفاسير ج1/ 594 .

 

 

 

6

3

 

   ومن أهم ما يفاد من مادة بوأ , هي السكن بنوعيه ؛ الضيِّق حيناً والمتَّسع أحياناً , إذ بدأ بدائرة البيت الحرام " وإذ بوَّأنا لإبراهيم مكان البيت " ( الحج مدنية آية 26) , فأرشده إليه , وسلّمه له , وأذن له في إقامة قواعده لتوحيد الله والدعاء إليه بالحج , فنادى , والله ـ عزَّ وجلَّ ـ  بلغ عنه .

   وتلاه النبي يوسف عليه السلام , في التدرج الزمني – إذ مكّنه الله في أرض مصر من باب إطلاق الجزء على الكلِّ , فاتخذ فيها منزلاً , حيث شاء , فتصرَّف في مملكة مصر كما  أراد بدليل قوله عز وجل " وكذلك   مكّنا ليوسف في الأرض يتبوّأ منها حيث يشاء " ( يوسف آية 56 ) .

   وجاء بعده موسى النبي وأخوه هارون عليهما وعلى نبيِّنا  الصلاة والسلام  , فاتخذا لبني  إسرائيل بيوتاً في مصر للصلاة والعبادة بدليل قوله " وأوحينا الى موسى وأخيه أن تبوّأا لقومكما بمصر بيوتاً " ( يونس 10 آية 87 ).

   ثم تتَّسع دائرةُ المكان لبني إسرائيل فتمتدُّ من مصرَ إلى الشام، فيستقرُّ حكمهم  بين يدي موسى عليه السلام , بدليل قوله تعالى " ولقد بوّأنا بني إسرائيل مبوّأ صدق " , فتصرَّفَ فيها  تصرُّف المالك لمملكته , وكان في سكنه صالحاً مرضيًّا .

 لقد ضربَ الله تعالى أمثلة تطبيقية لرسولهِ محمَّد صلى الله عليه وسلم , ليتخذها عبرة ممن سلفه من سير الأنبياء , الذين اتخذوا من عبادة الله مثلا يحتذى , بدءاً في إنشاء المعابد لله كالكعبة خاصة , وبيوت بني اسرائيل في مصر عامة , فتملك الصالحون من بني اسرائيل مصر والشام في زمن موسى و أخيه هارون عليهما السلام , مما يُفهَمُ من ذلك أنَّ البيئة الإيمانية تعدّ أساساً للفتح , والنصر المبين .

   أمّا البيئة الإيمانية في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم , فعلى ثلاث مراحل هي : هجرة المؤمنين من مكة  أولاً , وتبوؤهم  المدينة المنورة ثانياً , وتهيئة الجند المسلم لاتخاذ مواقع للقتال يوم أحد ،ثالثا.

أمَّا الهجرةُ  في المرحلة  الأولى  فعامَّة ؛ إلى الحبشة والمدينة المنورة , هروباً بدينهم , ولضعفهم في العدة والعدد،ريثما  يتمُّ  الإعداد لمواجهة أعدائهم , وقد وعدهم الله تعالى حسنة في الدنيا بدليل قوله " والذين هاجروا في الله من  بعد ما ظلموا , لنبؤنَّهم في الدنيا حسنة " ( النحل 16 الآية 41 ) .

  أمَّا تبوؤهم المدينة منزلاً , واتخاذهم إياها سكناً مع أخوتهم الأنصار , فكانت المرحلة الثانية لتأسيس بيئة إيمانية تدافعُ عن نفسها ضدّ المشركين .

بدليل قوله عزَّ وجلَّ " والذين تبوؤوا الدار والإيمان " ( الحشر 59 آية 9 ) .

  فالبيئة المؤمنة هي أساسُ نشرِ دين الله في مكانين , ثابتٍ في المدينة ومتحرِّكٍ  في هجرتين؛ الى الحبشة فراراً بدينهم , والمدينة المنورة لاتخاذهم إياها عاصمة لهم يُذادُ عنها بالغالي والرخيص .

  أمّا المرحلة الثالثة ، فمرحلة تهيئةِ الجندِ المسلم , لاتخاذِ مواقعَ للقتال ضدّ المشركين، شأنُهم يومَ أحد ،كما هو في قوله عزَّ وجلَّ "وإذ غدوتَ من أهلك تبؤّيءُ المؤمنين مقاعد للقتال" ( آل عمران آية 121 ) .

  ويفهمُ مما سبق أنَّ القلب هو بيئة الإيمان الأولى , فإذا ترعرعَ فيه الإيمانُ  سعى الى نشره، متحركاً في هجرته , أو ثابتاً في بيئة مكانية  , يذود عنها للضرورة بقوة سلاحه في سبيل الله , شانُ  منهجِ الرسول الكريم وصحبه , منتهجا  نهج الأنبياء من قبله .

  وتتَّسع دائرة البيئة مكاناً , فتشمل غُرَفَ الجنّة , جزاء وفاقا، لمن  كان عمل صالحاً في دنياه , بدليل قوله عزَّ وجلَّ " والذين آمنوا وعملوا الصالحات لنبؤنَّهم من الجنة غرفا " ( العنكبوت 29 آية 58 ) .

  ونخلص الى القول : بأن معنى مادة ( بوأ ) هو أسكن , فالبيئة هي المنزل والسكن ولا يستقيم أمرُ السكن للفرد والجماعة إلاّ بإيمان القلب بالله عزّ وجل , ونشرِ رسالة التوحيد الخيِّر، التي دعا إليها الرُّسل جميعاً عليهم السلام , من جهة , وتنفيذ الجوارح لأمر الله , بحركتهم في هجرة , أوثباتهم  في بيئة صالحة , بحيثُ  يعبدون الله ولا يشركون به شيئاً ، من جهة أخرى ،ثمَّ يذودون عن أنفسهم ودينهم بسلاحهم ؛ إذا هاجمهم أعداؤهم شأن المراحل التي نفذّها الرسول الكريم بأمر الله كما ورد في النصوص القرآنية ،ويفهم أيضا ، أنَّ مصطلح البيئة مصطلح إسلامي،وإنها ليست تعريبا لاسمها المتداول في الغرب (ENVIROMENT ((9)كما هي عند بعض البحثة, والله تعالى هو الهادي الى سواء السبيل.

               

. الحواشي :

1. (الزَّمخشري، محمود بن عمر: أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، 1982، ص33 مادة "بوأ") 0

2. (ابن منظور: لسان العرب المحيط، إعداد وتصنيف يوسف الخياط، دار لسان العرب، بيروت، مادة "بوأ" ص284.

3. الفيروز أبادي: القاموس المحيط، عالم الكتب، بيروت، ج1/8 مادة "باء".

4.الجوهري : الصحاح , مادة بوأ .

5. المنجد : في اللغة , دار المشرق بيروت , ط27 , مادة "بوأ " .

6. المعجم الوسيط, قام بإخراجه , إبراهيم مصطفى , وأحمد حسن الزيات , وحامد عبد القادر , ومحمد علي النجار , المكتبة الإسلامية , أستنبول , تركيا , ج1 / 75 " باء " .

7. المجمع الوجيز , مجمع اللغة العربية , القاهرة , 1990 م .

8. المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، الشيخ محمد فؤاد عبد الباقي، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401- 1981 مادة "بوأ" ص139.

9. راتب السعود , (الدكتور ) : الإنسان والبيئة , دراسة في التربية البيئة , دار الحامد للنشر والتوزيع , عمّان , الأردن , ط1 , 2004 م , ص 17 .

. المصادر والمراجع :

·  القرآن الكريم .

·  الزمخشري ؛ محمود بن عمر: أساس البلاغة، تحقيق عبد الرحيم محمود، دار المعرفة، بيروت، 1982 0

·  السُّعود ؛ راتب ( الدكتور) : الإنسان والبيئة- دراسة في التربية البيئيَّة، دار الحامد للنشر والتوزيع، عمان، 2004م .

·  الصابوني ،محمد علي الصابوني (الشيخ):صفوة التفاسير ،دار القرآن الكريم ،بيروت،ط4،  1402 هـ 1981م .

·  عبد الباقي ؛ الشيخ محمد فؤاد : المعجم المفهرس لألفاظ القرآن الكريم، دار الفكر للطباعة والنشر والتوزيع، 1401- 1981م .

·  الفيروزأبادي ؛ مجد الدين : القاموس المحيط ، عالم الكتب، بيروت , (د.ت) .

·  المعجم الوسيط ؛ قام بإخراجه إبراهيم مصطفى , وأحمد حسن الزَّيات , وحامد عبد القادر , ومحمد علي النجار ,المكتبة الإسلامية للطباعة والنشر والتوزيع , استانبول ,تركيا, مقدمة الطبعة الثانية , (د.ت) .

·  المجمع الوجيز , مجمع اللغة العربية , القاهرة , 1990 م .

·  المنجد ؛ في اللغة والإعلام، باب المشرق، بيروت، ط 27 .

·  ابن منظور ؛ العلاّمة محمد بن أبي الكرم : لسان العرب المحيط ، إعداد وتصنيف يوسف الخياط ، دار لسان العرب ، بيروت .