الخطيئة في التوراة

من كتاب اليهودية في العراء بين الوهم والحقيقة

محسن الخزندار

[email protected]

الخطيئة في التوراة

من العبارات التي تتردّد مرارًا في التوراة، تلك التي تعلن أن الله ذاك الرحيم الحنون الذي يغفر الإثم والمعصية والخطيئة. أجل، الله هو الذي يغفر خطايا شعبه، يغفر خطايا الأمم الوثنيّة، يغفر خطيئة الشعوب كما يغفر خطيئة الأفراد. إنه إله الرحمة ([1]).

1-   الله وخطيئة شعبه:

الخطيئة الكبرى التي عرفها الشعب العبرانيّ في البريّة هي عبادة العجل الذهبيّ. يروي كاتب سفر الخروج أنَّ سيدنا موسى أبطأ على الجبل، فاشتاق الشعب إلى آلهة يرونها بعيونهم، فصنع لهم سيدنا هارون ذاك العجل، أو بالأحرى هو الثور "أبيس" الذي عرفوه في مصر.

كانت ردّة الفعل الأولى لدى الربّ الغضب. قال الرب لسيدنا موسى:"رأيت هذا الشعب وإذا هو شعب صلب الرقبة فالآن اتركني ليحمى غضبى عليهم وأفنيهم ، فأصيرك شعباً عظيماً " .([2])). الله الكليّ القداسة يرفض الخطيئة. هذا هو معنى الغضب. الله الكليّ الأمانة لا يتحمّل خيانة شعبه الذي يرفض "نير" الوصايا. فالنير يوجّه الحيوان في خطّ رسمَه له صاحبُه. والوصايا هي طريق العيش بحسب وصايا الله. ولكنّ الشعب يعاند ويرفض نير الوصايا.

أراد الربّ أن يرذل شعبه ويبدأ مع سيدنا موسى من جديد مغامرة أخرى: أراد أن يختار له شعبًا آخر. فتضرّع سيدنا موسى إلى الربّ وذكّره بالأسباب التي تدعوه إلى عدم التراجع عن مشروعه. الأول: أن أخرجتهم وأظهرت قدرتك العظيمة. الثاني: ماذا سوف يقول المصريون إنّ تراجع الله؟ أخرجهم ليفنيهم! إله خيّر! السبب الثالث: أين وعدُ الله لسيدنا إبراهيم وسيدنا إسحاق وسيدنا يعقوب بنسل كبير وأرض جميلة؟ "ارجع عن حمو غضبك، واندم على الشر بشعبك "([3]). "فاجتاز الرب قدامه ، ونادي الرب:{الرب إله رحيم و رووف ،بطيء الغضب وكثير الإحسان والوفاء وحافظ الإحسان إلي ألوف . غافر الإثم والمعصية والخطيئة."([4])

وستتكرّر عبادة العجل الذهبيّ خلال الدخول إلى كنعان، ولاسيّما مع الملك يربعام الذي فصل الشمال عن الجنوب وصنع لشعبه عجلين،" ووضع واحد في بيت أيل ، وجعل الآخر في دان" ([5]). وستكون نهاية مملكته الدمار على يد الأشوريين سنة 721. وسيقول الكاتب إنّ سبب هذا العقاب هو عبادة الآلهة الأخرى والسلوك في الطرق الرديئة التي رسمها"وكان أن بني إسرائيل أخطا وإلى الرب ألههم الذي أصعدهم من أرض مصر من تحت يد فرعون ملك مصر واتقوا آلهة أخري ، وسلكوا حسب فرائض الأمم الذين طردهم الرب من أمام بني إسرائيل و ملوك إسرائيل الذين أقاموهم" ([6]). "وأشهد الربّ على إسرائيل وعلى إسرائيل وعلى يهوذا عن يد جميع الأنبياء وكل داء قائلا:{ارجعوا عن طرقكم الرديئة  و أحفظوا وصاياي، فرائض،حسب كل الشريعة التى أوصيت بها آباءكم و التي أرسلتها إليكم عن يد عبيدي الأنبياء }فلم يسمعوا ابل صلبوا أقف يتهم كأفقية آبائهم الذين لم يومنوا بالرب إلههم ورفضوا فرائضه وعهد الذي قطعه مع آبائهم وشهاداته التي شهد بها عليهم ،وساروا وراء الباطل وصاروا باطلا وراء الأمم الذين حولهم،الذين أمرهم الرب إن لا يعملوا مثلهم... وفي النهاية كان المنفى. فيا ليت مملكة الجنوب تتعلّم .([7])

وسقطت أورشليم هي أيضًا في يد البابليين (587 ق م) عقابًا لها على خطيئتها. ولكنَّ الربّ عاد فرحمها. في هذا المجال نقرأ صلاة عزرا الكاهن باسم شعبه: "وأبوا الاستماع، ولم يذكروا عجائبك التي صنعت معهم وصلبوا رقابهم. وعند تمردهم أقاموا رئيسا ليرجعوا إلي عبوديتهم وأنت اله غفور وحنان ورحيم طويل الروح وكثير الرحمة،فلم تتركهم"([8])). ويتابع صلاته: صنعوا عجلاً... "أنت  بمرحمتك الكثيرة لم تتركهم في البرّية" ([9])

وذكر عزرا حقبة القضاة والملوك، حيث كانت مراحم الله هي التي تخلّص الشعب. ""ولكن لما استراحوا ارجعوا إلي عمل الشر قدامك فتركتهم بيد أعدائهم حسب مراحمك الكثيرة أحيانا كيثرة"([10])). وفي النهاية، وبعد الذهاب إلى المنفى الذي اعتُبر العقاب الأخير بالنسبة إلى شعب الله، قال عزرا: "ولكن لأجل مراحمك الكثيرة لم تقتنهم ولم تتركهم لأنك اله حنان ورحيم" ([11])

رحمة الله حاضرة دومًا، ولكنها تطلب جوابًا من الإنسان في التوبة والعودة عن الشرّ الذي يفعله الإنسان، جوابًا يكون في الإقرار بالخطايا. والخلاص الماديّ الذي يمنحه الله هو صورة عن خلاص آخر. كما أنَّ العقاب الماديّ هو صورة عن عقاب الله الذي هو الموت. ولكنَّ الله ليس إله الموت بل إله الحياة، لهذا أعاد خلق شعبه بعد أن كاد يموت. هذا هو معنى الصورة التي رسمها حزقيال: شعب الله هو مثل العظام اليابسة. "هكذا قال السيّد الربّ لهذه العظام:هأنذا أدخل فيكمم روحًا فتحيون واضع عليكم عصبًا وأكسيكم وأبسط عليكم جلدًا وأجعل فيكم روحًا، فتحيون وتعلمون أني أنا هو الربّ".([12])

مسيرة الشعب هذه مع الله الذي يبقى الإله الأمين، الذي يغفر ويعود إلى شعبه، نقرأها بشكل خاصّ في المزامير. ففي ([13])يبدأ المرنّم فيقابل بين أعمال الله العظيمة وممارسة الشريعة، ويدعو المؤمنين أن لا يتشبّهوا بآبائهم حين عاندوا الربّ. في القسم الأول، يشدّد على خبرة الإقامة في البريّة. "ثم عادوا أيضا ليخطئوا إليه لعصيان العليّ في الأرض الناشفة".([14]) غضبَ الربّ، ولكنَّ غضبه كان يتحوّل عطاء وبركة: المياه والمن والسلوى. "أما هو فَرَؤُوفٌ يغفر الإثم ولا يهلك وكثيرا ما رد غضبه ولم يشعل كل سخطه ذكر أنهم بشر ريح تذهب ولا تعود "([15]). لو أراد الربّ أن يقسو لفَني شعبه. ولكنَّه يعرف ضعفهم، ولا يترك مجالاً لكلّ غضبه وإن كان يعاقب ساعة  العقاب.

وفي القسم الثاني من ([16])نسمع مقاومة الشعب بعد أن أقام في أرض كنعان. لقد نسوا أيضًا أعمال الله العظيمة. نسوا أنّهم امتلكوا الأرض بفعل مجّانيّ من قبل الله. فوجب عليهم أن يردّوا جميله، أن يطيعوه ويخضعوا لوصاياه. فهل تتغلّب خيانتهم على أمانة الله؟ كلا.

ويعود المرنّم فيتذكّر من جهة، الله الأمين لميثاقه مع سيدناإبراهيم. نزل شعبه إلى مصر فكان معه. وصعد الشعب من مصر فصعد الله معه، وكلّ ما طلبه هو أن يكون أمينًا لشريعته ([17]). كما يتذكّر من جهة ثانية خطايا الشعب كردّ على عطايا الربّ."وذكر لهم عهده وندم حسب كثيرة رحمته ،وأعطاهم نعمة قدام كل الذين سبوهم". لهذا ينتهي ([18])  بما يلي: "مرات كثيرًا أنقذهم،أما هم فعصوه بمشورتهم وانحطوا بإثمهم ، فنظر إلي ضيقهم إذا سمع صراخهم ،وذكر لهم عهده وندم حسب كثيرة رحمته،وأعطاهم نعمة قدام كل الذين سبوهم"([19]). هذا هو الله بالنسبة إلى شعب إسرائيل: إله الرحمة، إله الرأفة. فماذا يكون بالنسبة إلى الأمم الوثنية؟

2-    الله والأمم الوثنيّة:

اعتبر الشعب العبراني أن الشعوب الوثنيّة تستحقّ عقاب الله، لا رحمته، لأنّها تعبد الأصنام. وأعظم مثال على هذا الوضع هو سفر الحكمة الذي أعاد قراءة سفر الخروج وأظهر أنّ كلّ خير هو للشعب العبراني لأنّه عبدَ الإله الواحد. أمّا المصريون فلا ينالون إلاّ عقاب الله. ""فانك قد جلدت بقوة ذراعك المنافقين الذين جمدوا معرفتك وأطلقت في أثرهم سيولاً وبرَدًا، وأمطارًا غريبة، ونادرًا آكلة"([20]).

ولكنَّ الكتاب المقدَّس سوف يبدّل هذه النظرة، فيطلب من العبرانيّ أن يحترم العمونيّ والموآبيّ بعد أنّ اعتبرهما أولاد زنى. "لا تكره أدوميا لأنه أخوك .لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه.الأولاد الذين يولدون لهم في الجيل الثالث يدخلون في جماعة الربّ"([21]). قال الرب :"من أجل ذنوب موآب الثلاثة و الأربعة لا أرجع عنه ، لأنهم أحرقوا عظام ملك أدوم كلسا" ([22])

وقال"حينما تولدان العبرانيات وتنظر إنهن على الكراسي،وان كان نبتا فتميا" ([23]).: "لا تكره ادوميا لأنه أخوك.لا تكره مصريا لأنك كنت نزيلا في أرضه " ([24]).

ولاشكّ أن المصريين اضطهدوا من قِبَل فرعون مصر  ففي ضربات مصر العشر الشهيرة، كان الربّ يعود مرارًا عن الضربة، علّ الفرعون يعود عن خطأه ويعرف الربّ ، ومثال ذلك ضربة الضفادع ([25])، طلب فرعون من سيدنا موسى وسيدنا هارون أن يتشفّعا إلى الله من أجله. وعدَ سيدنا موسى بذلك "ليعرف أنَّ الربّ الإله لا نظير له" (. ولكن ما إن جاء الفرج وتوقّفت الضربة حتى عاد فرعون "وقسَّى قلبه ولم يسمع لهما"([26]) وأطال الله روحه مع فرعون حتى الضربة العاشرة، قبل أن يترك الشعب يذهب إلى البريّة لعبادة الله ([27])

وهناك نصّ ثوريّ يبدّل الأمور كليًّا، لا بالنسبة إلى مصر فقط، بل بالنسبة إلى أشور أيضًا. والمرحلة التي مرّ فيها الشعب العبرانيّ سيمرُّ فيها الشعب المصريّ. قال أشعيا ([28]): "في ذلك اليوم يرتعد المصريون ويرتجفون من يد الربّ المرفوعة عليهم"فأجاب جميع الشعب معا وقالوا "كل ما تكلم به الرب تفعل "فرد سيدنا موسي كلام الشعب إلي الرب "([29]). فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ مَذْبَحٌ لِلرَّبِّ فِي وَسَطِ أَرْضِ مِصْرَ، وَعَمُودٌ لِلرَّبِّ عِنْدَ تُخْمِهَا. فَيَكُونُ عَلاَمَةً وَشَهَادَةً لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي أَرْضِ مِصْرَ. لأَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ بِسَبَبِ الْمُضَايِقِينَ، فَيُرْسِلُ لَهُمْ مُخَلِّصًا وَمُحَامِيًا وَيُنْقِذُهُمْ.فَيُعْرَفُ الرَّبُّ فِي مِصْرَ، وَيَعْرِفُ الْمِصْرِيُّونَ الرَّبَّ فِي ذلِكَ الْيَوْمِ، وَيُقَدِّمُونَ ذَبِيحَةً وَتَقْدِمَةً، وَيَنْذُرُونَ لِلرَّبِّ نَذْرًا وَيُوفُونَ بِهِ. وَيَضْرِبُ الرَّبُّ مِصْرَ ضَارِبًا فَشَافِيًا، فَيَرْجِعُونَ إِلَى الرَّبِّ فَيَسْتَجِيبُ لَهُمْ وَيَشْفِيهِمْ.فِي ذلِكَ الْيَوْمِ تَكُونُ سِكَّةٌ مِنْ مِصْرَ إِلَى أَشُّورَ، فَيَجِيءُ الأَشُّورِيُّونَ إِلَى مِصْرَ وَالْمِصْرِيُّونَ إِلَى أَشُّورَ، وَيَعْبُدُ الْمِصْرِيُّونَ مَعَ الأَشُّورِيِّينَ. فِي ذلِكَ الْيَوْمِ يَكُونُ إِسْرَائِيلُ ثُلُثًا لِمِصْرَ وَلأَشُّورَ، بَرَكَةً فِي الأَرْضِ، بِهَا يُبَارِكُ رَبُّ الْجُنُودِ قَائِلاً: «مُبَارَكٌ شَعْبِي مِصْرُ، وَعَمَلُ يَدَيَّ أَشُّورُ، وَمِيرَاثِي إِسْرَائِيلُ».

 ([30]). "الربّ يشفي المصريّيِن حين يرجعون إليه ويستجيب لهم". يكفي أن تظهر التوبة، لكي تسطع مفاعيل رحمة الله تجاه المصريّين، بل تجاه الأشوريّين الذين عُرفوا بشرورهم في الشرق. لهذا يقول أش "بها يبارك رب الجنود قائلا:"مبارك شعبي مصر،وعمل يدي أشور،و ميراثي إسرائيل") ([31]). أشور صنعة يدي (الله كوّن أشور بيديه بمحبّة كما جبل الإنسان في بدء الخليقة). وبنو إسرائيل ميراثي". فَيَكُونُ عَلاَمَةً وَشَهَادَةً لِرَبِّ الْجُنُودِ فِي أَرْضِ مِصْرَ. لأَنَّهُمْ يَصْرُخُونَ إِلَى الرَّبِّ بِسَبَبِ الْمُضَايِقِينَ، فَيُرْسِلُ لَهُمْ مُخَلِّصًا وَمُحَامِيًا وَيُنْقِذُهُمْ. ".([32]) كما أنّ الله هو أبو إسرائيل، فهو أيضًا أبو مصر وأشور وسائر الشعوب، وهو يدافع عن كلّ ضعيف تجاه الأقوياء الظالمين.

غير أنّ التعليم الأعمق نجده في سفر يونان تلك القصة التي تصف ساعة انغلاق العبرانيون على أنفسهم واعتبروا أنَّهم وحدهم الشعب المقدَّس. وحدهم الذين أرسل الله إليهم أنبياء. فكانت قصّة يونان ذاك النبيّ المتزمّت الذي أرسله الله إلى شعب وثنيّ وشرّير، فرفض وتوجَّه في الجهة المعاكسة. ذهب إلى أقصى الغرب، إلى ترشيش. ولكنَّ الربّ أعاده وأرسله إلى الشرق. هو ما أراد أن يذهب، لأنّه علم أنَّ الله يغفر. فلماذا يُتعب نفسه؟ هذا ما قاله للربّ بعد أن صفح عن نينوى، المدينة الخاطئة. " فَقُلْتُ: قَدْ طُرِدْتُ مِنْ أَمَامِ عَيْنَيْكَ. وَلكِنَّنِي أَعُودُ أَنْظُرُ إِلَى هَيْكَلِ قُدْسِكَ."([33]).

تأكّد يونان أنَّ الله كثير الرحمة ولكنّه تردّد: ربّما سيعاقب هذه المدينة التي زرعت الأرض قتلاً ودمارًا! ولكنّ الله لم يتبدَّل: هو الإله "الحنون والرحوم والطويل البال". هدّد يونان بأن المدينة ستدمَّر، واعتبر أنّ عليه أن ينتظر فقط أربعين يومًا. ولكن مضت الأربعون يومًا، ولم يحدث شيء لنينوى، والسبب هو أنّ سكان المدينة تابوا إلى الربّ: نادوا بصوم، ولبسوا مسوحًا، وصرخوا إلى الله بشدّة. وترجّوا أن يرجع الله عن عقابه فرجع الربّ ولم يفعل، لم يدمِّر المدينة. فيا ليت أورشليم تعلّمت من نينوى وتابت. لو فعلت لما كان لحقها الدمار الذي لحقها سنة 587 ق م.

الله يرحم شعبه ويرحم الأمم الوثنيّة. خلقَ الأكوان والشعوب، وهو يهتمّ بالجميع ويهمّه أمر الجميع. ولكن أتراه لا يهتمّ بالأفراد أيضًا؟ بلى. إذا كان قد جبل الإنسان، كلّ إنسان بيديه، فهو يريد حياة كلّ إنسان. وإذا كان يونان تأسّف على موت يقطينة لم يتعب فيها ولا ربّاها، أترى الله لا يهتمّ بسكان نينوى الكثيرين، أتراه لا يهتمّ حتى بالبهائم؟ بل هو يهتمّ بكلِّ إنسان ويعامله برحمته وحنانه.

3-    رحمة الله تجاه الأفراد:

في فصل مهمّ من سفر حزقيال، يشدّد النبيّ على أنّ كلّ واحد مسئول عن أعماله. البارّ يستحقّ الحياة، والخاطئ يستحقّ الموت. هنا نشير أنّنا على مستوى الموت الجسديّ، لا على مستوى الهلاك الأبديّ المحفوظ للخاطئين. ولكن هذه القاعدة تشذّ إذا تاب الإنسان إلى ربِّه "رَأَى فَرَجَعَ عَنْ كُلِّ مَعَاصِيهِ الَّتِي عَمِلَهَا فَحَيَاةً يَحْيَا. لاَ يَمُوتُ." ([34]). وينتهي الفصل بهذا الكلام المشجّع: "أنبذوا جميع معاصيكم واتَّخذوا قلبًا جديدًا وروحًا جديدًا. فلماذا تريدون الموت، يا شعب إسرائيل؟ " لأَنِّي لاَ أُسَرُّ بِمَوْتِ مَنْ يَمُوتُ، يَقُولُ السَّيِّدُ الرَّبُّ، فَارْجِعُوا وَاحْيَوْا. "([35])ويتابع ملاخي  "مِنْ أَيَّامِ آبَائِكُمْ حِدْتُمْ عَنْ فَرَائِضِي وَلَمْ تَحْفَظُوهَا. ارْجِعُوا إِلَيَّ أَرْجعْ إِلَيْكُمْ، قَالَ رَبُّ الْجُنُودِ. فَقُلْتُمْ: بِمَاذَا نَرْجعُ؟ "([36]): "إرجعوا إليَّ فأرجع إليكم".

في الماضي، كان الإنسان عضوًا في المجتمع ولا دور خاصًا به. إنّ جاء عقاب (مرضَ، مات، لم يكن له أولاد، افتقر) وَكَانَ إِلَيَّ كَلاَمُ الرَّبِّ قَائِلاً: «مَا لَكُمْ أَنْتُمْ تَضْرِبُونَ هذَا الْمَثَلَ عَلَى أَرْضِ إِسْرَائِيلَ، قَائِلِينَ: الآبَاءُ أَكَلُوا الْحِصْرِمَ وَأَسْنَانُ الأَبْنَاءِ ضَرِسَتْ؟ ([37]) (. ولكن مع إرميا وحزقيال تبدّل الوضع، وعرف الإنسان أنّه يستطيع أن يعود إلى الربّ إذا شاء، وهو يجد لدى الربّ أذنًا حنونةً وقلبًا رحيمًا.

هذا ما وجده سيدنا داود بعد خطيئته المضاعفة وهي  قتل أوريا الحثّي، أحد ضبّاط جيشه، وأخذ امرأته بعد أن زنى بها.

جاءه النبي ناتان موبّخًا فقال الملك: "الرجل الذي صنع هذا يستوجب الموت". قال له ناتان: "أنت هو الرجل". فَقَالَ سيدنا دَاوُدُ لِنَاثَانَ:"قَدْ أَخْطَأْتُ إِلَى الرَّبِّ». فَقَالَ نَاثَانُ لسيدنا دَاوُدَ: «الرَّبُّ أَيْضًا قَدْ نَقَلَ عَنْكَ خَطِيَّتَكَ. لاَ تَمُوتُ."([38]). وجاء في خطّ هذا الموقف مزمور شهير يُنسب إلى سيدنا داود: " اِرْحَمْنِي يَا اَللهُ حَسَبَ رَحْمَتِكَ. حَسَبَ كَثْرَةِ رَأْفَتِكَ امْحُ مَعَاصِيَّ. اغْسِلْنِي كَثِيرًا مِنْ إِثْمِي، وَمِنْ خَطِيَّتِي طَهِّرْنِي."([39]). التجأ سيدنا داود إلى الربّ، فوجد ذاك الذي يخلق فيه قلبًا طاهرًا، ويكوّن فيه روحًا جديدًا. ذاك الذي يحمل إليه الخلاص فيردّ له السرور ([40]) .

فرحمة الربّ تصل إلى الجماعات، وتصل أيضًا إلى الأفراد، لأنَّ كلّ إنسان كريم في عينَي الرب وهو يهتمّ به اهتمامه بحدقة عينه. وهذا الإيمان برحمة الله يجعل المؤمن يرفع صلاته حين يحسّ بثقل خطيئته. هذا ما نجده بشكل خاصّ في المزامير. " فِي الضِّيقِ رَحَّبْتَ لِي. تَرَاءَفْ عَلَيَّ وَاسْمَعْ صَلاَتِي. " ([41])"ارْحَمْنِي يَا رَبُّ لأَنِّي ضَعِيفٌ. اشْفِنِي يَا رَبُّ لأَنَّ عِظَامِي قَدْ رَجَفَتْ، "([42]). المرض هو علامة الخطيئة (يا ليت قومي يسمعون) فالربّ يرحم ويغفر، يشفي من الخطايا ومن أوجاع الجسد. " اِرْحَمْنِي يَا رَبُّ. انْظُرْ مَذَلَّتِي مِنْ مُبْغِضِيَّ، يَا رَافِعِي مِنْ أَبْوَابِ الْمَوْتِ، "([43]). إن مات الإنسان (ولاسيّما الشاب، فهذا يعني أنَّ الله يعاقبه على خطاياه. ولكنّه يطلب الحياة لأنّه متأكّد من رحمة الله وحنانه. و يهتف المرتّل:"لأَنَّ رَحْمَتَكَ أَمَامَ عَيْنِي. وَقَدْ سَلَكْتُ بِحَقِّكَ. لَمْ أَجْلِسْ مَعَ أُنَاسِ السُّوءِ، وَمَعَ الْمَاكِرِينَ لاَ أَدْخُلُ. أَبْغَضْتُ جَمَاعَةَ الأَثَمَةِ، وَمَعَ الأَشْرَارِ لاَ أَجْلِسُ. أَغْسِلُ يَدَيَّ فِي النَّقَاوَةِ، فَأَطُوفُ بِمَذْبَحِكَ يَا رَبُّ،لأُسَمِّعَ بِصَوْتِ الْحَمْدِ، وَأُحَدِّثَ بِجَمِيعِ عَجَائِبِكَ. يَا رَبُّ، أَحْبَبْتُ مَحَلَّ بَيْتِكَ وَمَوْضِعَ مَسْكَنِ مَجْدِكَ.لاَ تَجْمَعْ مَعَ الْخُطَاةِ نَفْسِي، وَلاَ مَعَ رِجَالِ الدِّمَاءِ حَيَاتِي. الَّذِينَ فِي أَيْدِيهِمْ رَذِيلَةٌ، وَيَمِينُهُمْ مَلآنَةٌ رِشْوَةً أَمَّا أَنَا فَبِكَمَالِي أَسْلُكُ. افْدِنِي وَارْحَمْنِي."([44])

نستطيع أن نطيل هذه اللائحة من الصلوات التي تتوجّه إلى إله الرحمة. ولكنّنا نتوقّف عند هذا القدر ونتذكّر بعض الحالات. أوّلها أخاب ملك السامرة وعمل الشرّ في عيني الربّ، ولاسيّما على مستوى عبادة البعل، على مستوى العدالة (قتل نابوت وأخذ كرمه). هو لا يستحقّ أن يسمع كلام الله. هكذا يفكّر البشر. ولكنّ أفكار الله غير أفكار البشر. إنّه ينتظر عودة الخاطئ إليه.