مفهوم الالتباس عند محمد شاويش
رغداء زيدان/سوريا
[email protected]
تمهيد:
يهتم محمد شاويش بموضوع الالتباس أو
"سوء الفهم" من منطلق اهتمامه بالوعي كضرورة للتعامل مع الواقع كما يجب, وهذا لن
يتم ما لم يكن هناك وعي قائم على معرفة مكونات الواقع ومدلولاته وفهمها فهماً
صحيحاً كما هي, بعيداً عن مؤثرات الاستلاب أو المسلمات المفروضة أو تخيل صواب
الفهم. يقول محمد شاويش: "إن التشكيلات الدلالية في الوعي لها دور عملي أكثر بكثير
مما يخطر على البال للوهلة الأولى ولذلك فإن الالتباس (سوء الفهم) الرفيق الملازم
لهذه التشكيلات، هو أيضا أكثر تواتراً في تجربة الفرد والجماعة مما يخطر لنا"([1]).
"فسوء الفهم" أو الالتباس هو أسوأ
بكثير من "عدم الفهم" لأن من يعرف أنه لم يفهم يحاول البحث عن الفهم, بخلاف "سوء
الفهم", فالإنسان هنا لم يفهم المقصود ولكنه ظن أنه فهمه, وبالتالي فهو لن يبحث عن
الصواب, ولكنه سيركن إلى سوء فهمه, وسيكون مستند وعيه وتعامله مع الواقع.
وقد قدّم محمد شاويش تحليله للالتباس
ونظريته في التفاهم, وقدم تطبيقات عملية على ذلك في كتبه ومقالاته التي سيتم
الإشارة إليها في حينه, وفي هذا المقال أريد أن أقدم عرضاً لمفهوم الالتباس ونظرية
التفاهم عند محمد شاويش وما تبعها من تطبيقات في نقد الوعي والواقع في مجتمعاتنا.
في معنى الالتباس:
للدالات نوعان: دالات مرتبطة بمدلول,
ودالات غير مرتبطة بمدلول. والالتباس أو سوء الفهم كما بيّن محمد شاويش متعلق
بالنوع الأول, حيث تكون الدالة مرتبطة بمدلول.
ويمكن تعريف سوء الفهم أو الالتباس
بأنه: ربط الدالة بمدلول خاطئ, أو توهم وجود رابط بين دال ومدلول([2]).
والشكل اللغوي للالتباس عند محمد شاويش
ينطلق من الظاهرة اللغوية "الاشتراك", حيث يكون أحياناً للفظ الواحد مدلولات
مختلفة, مثل بعض الكلمات التي تحمل معانٍ متعددة مختلفة ككلمة (عين) مثلاً, فهي تدل
على عضو الإبصار في الجسد, وقد تدل على نبع الماء, وغيره. وبما أن الدالات التي هي
الألفاظ محدودة, لأنها تتكون من أصوات محدودة بمحدودية قدرة الإنسان الفيزيولوجية,
فإن ظاهرة "الاشتراك اللغوي" تكون ظاهرة لا بد منها, فالدالات محدودة بينما
المدلولات متغيرة بتغير الزمان والمكان.
وبتعميم إمكانية حدوث ربط خاطئ أو
متوهم بين دالة ومدلول على أنواع "الدوال" غير الدوال اللغوية, سنجد أن ظاهرة
الالتباس توجد في حالة أعم, وهي حالة "أنظمة الإشارات", حيث يقع الالتباس في تفسير
الإشارات التي قد يكون لها مدلولات متنوعة ومختلفة حسب الزمان والمكان, فالبياض
والسواد كإشارة للحزن والفرح يختلف بين بلد وآخر, حيث يعتبر البياض في أحدها رمزاً
للفرح, بينما يكون في بلد آخر رمزاً للحزن, وهكذا بالنسبة للسواد([3]).
وتختلف حالات الالتباس حسب درجة
تعقيدها, فأبسط حالات الالتباس نجدها عندما يوجد الدال ويحصل الاختلاف في المدلول,
ويمكن تصحيح الالتباس بوضع المدلول الصحيح مكان المدلول الخاطئ. ولكن هناك حالة
التباس تكون أكثر تعقيداً وذلك عندما لا نفلح في وضع المدلول الذي نفترض ملاءمته
للدال في سياق مقبول لنا, ينسجم مع القواعد المحددة للعلاقات الداخلية بين التشكيل
الدال والتشكيل المدلول. وهذا النوع يكثر ظهوره حين يتعلق الأمر بمحاولة "ترجمة" أو
"تفسير" ظواهر ثقافية معقدة تميز حضارة معينة إلى مفاهيم حضارة ثانية([4]).
الالتباس ونظرية التفاهم:
يشوب التواصل الإنساني دائماً قدر يزيد
أو ينقص من سوء الفهم, فالإنسان في عملية تأويل مستمرة للإشارات الموجودة حوله, وقد
يصيب أو لا يصيب في تفسير هذه الإشارات, لأن العقل الإنساني يتأثر بما حوله ولا
يتلقاه بصورة آلية محددة ولكنه يتعامل مع هذه الإشارات والمدلولات متأثراً بالحالة
النفسية للإنسان نفسه, وبالمحيط البيئي والثقافي الذي يعيش فيه, والذي يعطي للدالات
مدلولاتها الخاصة. وقد عدّ محمد شاويش حالات مختلفة من الموقف من الإشارات يمكن
تصنيفها كلها تحت بند "الفهم" و"اللافهم"([5]),
وعلى هذا فإن التفاهم أو الاتصال يتم بصورة صحيحة عندما يكون هناك وحدة مدلول عند
الطرفين للدالة المستعملة. يقول محمد شاويش: "التفاهم لا يعني عندنا أكثر من الفهم
المتبادل, وهذا يعني وصول كل من الدالات والمدلولات بصورة صحيحة إلى طرفي عملية
الاتصال....ولما كانت عملية الاتصال تتضمن استعمال هذه الدوال مع افتراض وحدة
المدلول عند الطرفين فإن عدم وجود هذه الوحدة وعدم اكتشاف الطرفين أو أحدهما هذا
الاختلاف يؤدي إلى سوء الفهم (من أحد الطرفين) أو سوء التفاهم (من الطرفين كليهما)"([6]).
تطبيقات على نظرية الالتباس:
ذكرنا في التمهيد أن اهتمام محمد شاويش
بالالتباس كان بسبب اهتمامه بالوعي كضرورة للتعامل مع الواقع كما يجب؛ هذا الاهتمام
برز بسبب تحوله الفكري مع انتقاله للعيش في الغرب([7]),
من موقع المتحمس للحداثة والعلمنة الجذرية للمجتمع إلى موقع "التأصيلية" المدافعة
عن الهوية والتركيبة الفكرية والثقافية للمجتمع العربي, ثم انتقاله بعد ذلك إلى
"التأصيلية الفاعلة" والتي تدعو إلى نشر "السلوك النهضوي", الذي سينطلق من وعي لا
يعتبره محمد شاويش "أسلوب معرفة جديد" بل "نمط حياة جديد", وعي يضع مهمة
التغيير
على
عاتق
المجتمع،
وتقوم
بنشره مجموعة
تكبر
بالتدريج من
فاعلين متحمسين
قادرين
على
تجاوز
العطالة
الذاتية
وخلق
نمط
جديد
من السلوك الذي سيمكّن الأمة من مواجهة تحديات الوجود المصيرية
([8]).
ولتحقيق هذا لا بد بداية من فهم ذاتنا وما يدور حولنا وبيننا وما يؤثر فينا على
حقيقته لا كما نتوهمه نتخيله ونظنه مطابقاً للواقع وهو غير ذلك.
ومن التطبيقات التي قدمها محمد شاويش
لنظرية الالتباس:
1 ـ الالتباس والتراث:
في مقاله " إذا سرق الشريف ـ نصوص أسيء فهمها" تناول محمد شاويش مجموعة من الألفاظ
كالشرف, والعرض, واللؤم, والكرم, والعجز, والحزم, والمروءة, وغيرها, وبيّن كيف أن
هذه الكلمات في نصوص التراث قد فُهمت في عصرنا الحاضر فهماً خاطئاً بعيداً عن
معناها الحقيقي الذي استعمله أجدادنا, واستخدمت في عصرنا استخداماً جاهلاً شوّه
النصوص التراثية والدينية, وجعل تعاملنا مع تراثنا ليس واقعياً وسليماً. ونبّه محمد
شاويش إلى خطورة ذلك بقوله: " حين أكتب هذه السطور أكتبها على كره مني فكل هذه
المعلومات هي بديهية للجيل السابق من قراء التراث العربي غير أني وجدت نفسي ملزماً
بذكرها ليس فقط لكثرة الاستعمال الجاهل للنصوص القديمة الشعرية والدينية أيضاً في
عصرنا, بل لسبب هو بعد أسوأ وهو انتشار مدعي معرفة التراث وتجارة تحقيق كتب التراث
على أرضية جاهلة تشوه النصوص, وانتشار "المسلسلات التاريخية" في التلفزيون التي
يخطئ فيها أبو الطيب وامرؤ القيس في القواعد ويكسران الأوزان بلا حسيب ولا رقيب,
وأخيراً للسبب الهام الذي هو علاقة الموضوع بالنظرية العامة للتفاهم".
2 ـ الإنسانوية الزائفة:
يتجاوز الالتباس أو سوء الفهم علاقاتنا الداخلية إلى العالم بأسره، فالعصر الحديث
الذي شهد تعميم الثقافة الغربية وسيطرتها أوقع الكثيرين في وهم "الإنسانوية
الزائفة" كما أسماها محمد شاويش,
"فحين يتحدث المثقف الحداثي العربي عن أن "العالم قرية صغيرة" ويستنتج من ذلك أن
القيم يجب أن تكون موحدة في العالم، وهو من قبل ذلك كان يتعامل مع النتاجات العقلية
والروحية البشرية على أنها متشابهة وقابلة تماماً للترجمة المكافئة
equivalent
translation
فإنه كان في الحقيقة لا يتعامل مع "إنسانية واحدة عالمية" وإنما كان يتعامل مع
تجربة ثقافية واحدة هي الأوروبية, من عشرات أو مئات التجارب الممكنة"([9]).
فكما يرى محمد شاويش فإن المثقف
الحداثي وقع في التباس سببه أنه غفل عن وجود اختلاف ثقافي بيننا وبين الغرب, وذلك
بسبب سيطرة الثقافة الغربية. وكذلك فإن الغربي وقع في التباس أيضاً, لأنه وإن كان
"يدرك ظاهرة الاختلاف الثقافي بينه وبيننا، ولكنه يفسرها بطريقة مستندة إلى النظرة
الخطية في التاريخ التي تتكلم عن مراحل التطور في الحياة البشرية يقف الغرب على
رأسها ويمثل نموذجاً لمستقبل الشعوب الأخرى كما تمثل هي ماضيه! (هي نظرة شعبية
صاغتها الوضعية ثم الماركسية). لهذا تجدهم يعلقون على استهجانك لظاهرة تفكك الأسرة
في الغرب بأن ما تراه في مجتمعك من متانة نسبية لنظام العائلة كان موجوداً في
أوروبا منذ ستين عاماً!"([10])
3 ـ التمييز بين مصطلح "الإسلامي"
و"الإسلاماني":
كلمة "إسلامي" عند محمد شاويش تشمل كل ما يخص الثقافة الإسلامية عبر التاريخ وإلى
الآن, وبرأيه يمكننا أن نسمي جميع التيارات الفكرية التي تنطلق من احترام للإسلام
على تنوعها "تيارات إسلامية"، ولا يجوز أن تحجب هذه الصفة إلا عن التيار المعادي
للهوية التاريخية لمجتمعنا والداعي لنسفها ذلك أن الإسلام ليس ديناً فقط بل هو
أيضاً ثقافة وحضارة. واقترح إطلاق اسم "التيار الإسلاماني" على التيار "الذي أساسه
فكر الإخوان المسلمين المصريين الذي تبلور بصورته النهائية في منتصف الثلاثينات،
هذا التيار على مستوى قواعده الشعبية يتحول بصورة متزايدة إلى شكل "الوهابية
الشعبية"، وهي الرؤى الناشئة أصلاً في الجزيرة العربية وتخترق الآن في مظاهرها
الأضيق أفقاً أوساطاً شعبية واسعة في كل بلدان الوطن العربي، ........هؤلاء الذين
يطلقون على أنفسهم هذا الاسم التعميمي الطموح "الإسلاميون" الذي يخشى أن يحمل معنى
مصادرة الإسلام كله هم في الحقيقة جزء من تيارات أهل الإسلام في عصرنا، ليس أكثر
ولكن ليس أقل أيضاً"([11]).
فإذا كانت مشكلة التمييز بين المصطلحين محلولة في اللغات الأجنبية التي تميز عادة
بين نوعين من الصفات islamic
و
islamist.
فإن "الالتباس في صفة "إسلامي" كما بيّن محمد شاويش يكون في "استعمالها بمعنيين
مختلفين: الأول: وصف الشيء المنسوب للإسلام بمجموعه وللمسلمين بمجموعهم ولبلادهم
وثقافتهم كلها كما نقول "البلاد الإسلامية"، "التاريخ الإسلامي"، الثاني: وصف الشيء
المنسوب للحركات الإسلامانية في قولهم مثلاً: "المد الإسلامي" لوصف انتشار نفوذ
الحركات الإسلامانية، و"الزي الإسلامي" لوصف نوع محدد موحد من الثياب
.........و"الكتب الإسلامية" لوصف الكتب الأيديولوجية السياسية لهذه الحركات. وهذا
التباس يستعمل أحياناً عن قصد، فالإسلامانيون لا تخلو بعض تياراتهم من "نزعة
مصادرة" تجعلها تقصر صفة الإسلام على رؤاها وأعمالها، وأعداء الإسلام أيضاً يرغبون
في أن ينسبوا للإسلام كله وللمسلمين وللثقافة الإسلامية بأسرها أقوال وأعمال ورؤى
جزء صغير من هذا الفضاء البشري الثقافي لتشويهه والتحريض عليه"([12]).
وللخروج من هذا الالتباس اقترح محمد شاويش إدخال تعبير "إسلاماني" لوصف ذلك التيار
الخاص "الذي يزيد نفوذه وينقص دون أن تزيد وتنقص إسلامية المجتمع! (وإن لم نقبل
بذلك لجاز أن نعد هزيمة حزب إسلاماني في انتخابات حرة دلالة على نقص في إسلامية
المجتمع المعني) ومن جهة أخرى بنسبة كلمة "إسلامي" لمجمل ما ينتسب إلى ديار الإسلام
والثقافة الإسلامية من بشر ومنتجات ثقافية وحضارية وسياسية، دون تفريق في المذهب أو
حتى الدين"([13]).
4 ـ الالتباس في المعسكرات الفكرية العربية:
"
تتألف الحياة الفكرية العربية الحالية من معسكرات منعزلة عن بعضها ولا تتبادل
عملياً إلا العداء ومعلوماتها عن بعضها هي أقرب إلى الشائعات منها إلى المعلومات.
وحتى حين يحاول واحد من الفرقاء قراءة ما يقوله الآخر أو ما يفعله فإن سوء الظن من
جهة وعدم التمرس بقراءة مصطلحات الآخر والإشكاليات التي يبحثها وطبيعة الجدالات
والصراعات التي يخوضها ضمن حقله الفكري-الاجتماعي الخاص تحول دون فهم السياقات
ومضمون الكلام المقروء"([14])
ولذلك فإننا نرى صراعات فكرية مستمرة بين هذه التيارات, وغياب الرؤية السليمة
والتقييم السليم للأفكار المطروحة. وقد ضرب محمد شاويش مثلاً على "سوء التقييم" هذا
أو بالأحرى "سوء الفهم" من خلال تعامل التيارات الفكرية مع أصحاب "التيار التأصيلي"
المدافع عن هوية المجتمع والداعي إلى تفعيل السلوك النهضوي, فقد صنفه دعاة "غربنة"
المجتمع مع "الإسلامانيين", بينما يعتبره الإسلامانيون أنه تيار متغربن أو علماني,
وقد حصل هذا مع كتّاب كثيرين, حيث تمّ تصنيفهم بطريقة خاطئة نتيجة "سوء فهم"
أفكارهم, وعدم فهم الأسلوب الذي يكتبون به([15]).
5 ـ حقيقة الاختلاف الثقافي بين الحضارات:
تناول محمد شاويش مسألة الاختلاف الثقافي بين الحضارات, وقد وضّحها بقوله: "في العلاقات بين الثقافات
المختلفة تبرز للعيان ظاهرة اشتراك حين تتشابه في الاسم أو الشكل بعض مكونات
ثقافتين مختلفتين وتختلفان في المضمون وينشأ هنا أيضاً سوء فهم أو سوء تفاهم (سوء
التفاهم هو سوء فهم متبادل!). سوء التفاهم الثقافي الناتج عن ظاهرة الاشتراك لا يخص
العلاقة بين ثقافتين مختلفتين كلياً (الغرب والإسلام) أو جزئياً (فلاحينا و أهل
مدننا مثلاً) فقط, بل يخص أيضاً العلاقة مع التاريخ"([16])
وإذا كان محمد شاويش قد شرح الاختلاف
الثقافي بين الحضارات بهذا الشكل, فقد قدّم دراسة مهمة عن محمود شاكر الذي ناضل ضد
هذا الالتباس الثقافي, وبيّن كيف أن العقل الأوروبي يختلف عن العقل العربي,
وبالتالي فإن استعمال الحداثيين لمفردات ومصطلحات غربية لها مستندها ومدلولها في
حضارة الغرب بينما لا يوجد لها مرتكز أو مدلول في حضارتنا لهو دليل برأي محمود شاكر
على مؤامرة تبشيرية يتم فيها إدخال عقائد مسيحية في بلاد المسلمين, بينما وجد محمد
شاويش في هذا "أحد الأمثلة على التفضيلات الجمالية الاستلابية........ ولا يتخيل
أحد أن هذا التفضيل الجمالي يخص المسيحية بحد ذاتها, فما كان المسلمون ليروا هذه
الألفاظ جميلة بحد ذاتها لو لم يكن الإسلام دين أمة في وضع هزيمة, ولو لم تكن
المسيحية دين الغالبين. وقد تنبه إلى ذلك ابن خلدون ولاحظه في مقدمته في جملة
ملاحظاته العبقرية حين تكلم عن "دور الغفلة عن تغير الزمان في أخطاء المؤرخين". إن
التنبه لظاهرة "الاشتراك الثقافي" مقدمة معرفية ضرورية للتيار التأصيلي فبدونها
تضيع الحدود وتتشوه المكونات الثقافية بألوان من النشازات الغريبة"([17]).
ومن
خلال دراسة وضع الجاليات العربية في الغرب, وخصوصاً أولاد المغتربين في أوروبا من
الجيل الثاني والثالث, وجد محمد شاويش أن هؤلاء قد "تأوربوا" تماماً,
وإن ظن كثيرون أنهم ما زالوا محتفظين
بالهوية الثقافية للوالدين. وفي ألمانيا التي يقيم بها وجد أن "أفراد هذا الجيل
الثاني هم في حقيقة تركيبتهم العقلية النفسية اللغوية ألمان بأسماء عربية"([18])
فالتركيبة العقلية النفسية اللغوية
للفرد لا تحددها الأسرة بل المجتمع كما قال, وبالتالي فإن سوء الفهم أو الالتباس
يقع عندما يُعامل هؤلاء على أنهم عرب حقيقيون وهم ليسوا كذلك.
خاتمة:
تبرز أهمية دراسة الالتباس وتحديد
درجاته ومجالاته وأسبابه بصورة متزايدة في وقتنا الحالي, ذلك أن الالتباس, كما ذكر
محمد شاويش, تجاوز علاقاتنا الداخلية إلى العالم بأسره، فالعولمة فرضت أشكال
التنظيم الاجتماعي الغربية في كل مجالات الحياة, السياسية والاقتصادية والتعليمية
وحتى الأخلاقية. وبالرغم من أن التطابق في هذه الأشكال الاجتماعية السائدة لا يخفي
وراءه مضامين موحدة، فما نراه عندنا من هذه الأشكال التنظيمية له مضمونه الخاص فلا
يمكن أن نقول إن وزاراتنا مثلاً كوزاراتهم, ولا مدارسنا كمدارسهم, وهنا أرجو أن لا
يفهم القارئ الكريم أنني أقارن بين ما عندنا وما عندهم بهدف التقييم, ولكنني أذكر
هذا لأنبّه على أن الأمم تُظهر طابعها الخاص حتى في مثل هذه الحالات التعميمة,
وعندها قدرة على تطويع المستجدات وإعطائها طابعها الخاص المميز, فالتنوع هو سنة
كونية لن تتبدل, غير أن كثيرين يقعون ضحية "سوء فهم" و"التباس" نتيجة تعاملهم مع
هذه الأشكال التنظيمية تعاملاً واحداً في كل مكان وُجدت فيه, دون مراعاة للاختلافات
المميزة لكل أمة, مما يسبب مشكلات كثيرة تنعكس آثارها السلبية على العالم أجمع كما
نرى اليوم. لذلك كان من الضرورة بمكان دراسة ظاهرة الالتباس للوصول إلى فهم صحيح
يمكننا من التعامل مع الواقع كما هو لا كما نتوهمه.
كما أنه من الضرورة بمكان فهم ظاهرة
الالتباس لتخطي سلبياتها وخصوصاً فيما يتعلق بموضوع التفاهم والتواصل الفعال بين
أبناء الأمة الواحدة من جهة, وبين الأمم والحضارات من جهة أخرى, في عصر صارت السمة
المميزة للمجتمعات والأفراد هي "التمركز حول الذات" و"التشظي" سواء منه الطائفي أم
الإقليمي أم القطري....إلخ, فما تواجهه أمتنا اليوم من خطر حقيقي يهدد بقاءها يحتم
على أبنائها التعاضد والتعاون والتواصل حتى تتوحد الجهود الرامية لإنقاذها من خطر
الفناء, وهذا لن يتم ما لم نعمل على إزالة كل العوائق المانعة من ذلك وعلى رأسها
الالتباس أو سوء الفهم.
(1) محمد شاويش: نحو ثقافة تأصيلية, دمشق, دار نينوى, ط1, 2007م, التشكيلات
الدلالية وتحليل الالتباس.
(2) المرجع نفسه, التشكيلات الدلالية وتحليل الالتباس.
(3) ومن الأمثلة كذلك هز الرأس إلى أسفل وأعلى فهو يعادل في بلغاريا قولك: لا و
عندنا يعادل: نعم، و هز الرأس جانبيا إلى اليمين واليسار يعني عندهم: نعم و
عندنا:لا, فالدال الواحد هنا له مدلولان مختلفان مما يسبب الالتباس بصورة حتمية
لكل فرد من الشعبين يتعامل مع هذه العلامة التي ينفذها واحد من الشعب الآخر
لأول مرة.
(4) الأمثلة على هذا كثيرة نصادفها في حياتنا, وخصوصاً بين أبناء الحضارات
المختلفة الذين يعيشون في بيئات مختلفة, وقد أورد محمد شاويش في مقاله
التشكيلات الدلالية وتحليل الالتباس مثالاً يوضح هذا النوع من الالتباس بحادثة
مصر للطيران حينما سقطت سنة 1999م, وقول الطيار المصري بالعربية " توكلت على
الله" وكيف فهم الأمريكان هذه العبارة فهماً أمريكياً فاعتبروا الطيار قد
انتحر!.
(5) لتوضيح هذه النقطة ضرب محمد شاويش مثلاً عن إشارات المرور
(أحمر أخضر أصفر) فقال: "هي دوال لمدلولات معينة معروفة، ولو فرضنا أن هذه
الدوال (الألوان) بعينها استخدمت لمدلولات أخرى (مثلاً صار مدلول الأخضر
"الوقوف واجب" بينما مدلول الأحمر "السير مسموح به") لصرنا حيال ظاهرة التباس
واضحة تجاه كل من يعرف مدلولات هذه الدوال في النظام الآخر ولا يعرف أنه إزاء
نظام يختلف عن مألوفه، ولنلاحظ هنا الفرق الواضح بين من يجد نفسه حيال إشارات
يظن خطأ أنه يعرف معناها ومن يجد نفسه حيال إشارات مجهولة عنده ليس لها في ذهنه
مدلولات محددة (أي يجهلها)، وسيرى القارئ بلا شك أن حالة هذا تعد أفضل عملياً
ولا سيما حين يكون الشخص يعرف ما يمكن أن نسميه "المجال الدلالي" الذي تتعلق به
هذه الإشارات، ولكنه لا يعرف مدلولاتها المنفردة، فصاحبنا مثلاً الذي يعرف أن
هذه الألوان تتعلق بالسماح بالمرور ومنع المرور لكنه لا يعرف بالضبط ما الذي
يعني منها السماح وما الذي يعني المنع سيقف ولن يسير حتى يفهم، وهذا بخلاف من
يظن أنه يعرف المعنى، فيسير مثلاً عند إشارة تعني في الحقيقة أن عليه الوقوف
فيعرض نفسه لحادث أو غرامة", انظر: محمد شاويش: ملاحظات إضافية في نظرية
الاتصال الفعال, جريدة بانياس الإلكترونية
www.banias.net/nuke/html/modules.php?name=Stories...l...
(6) محمد شاويش: إذا سرق الشريف ـ نصوص أسيء فهمها, مقال منشور في مواقع عديدة
منها:
http://www.arood.com/vb/showthread.php?t=560
(7) قد يبدو غريباً أن يكون التحول الفكري الكبير لمحمد شاويش قد حصل عند
انتقاله للعيش في الغرب, وهذا حصل مع غيره من المفكرين الذين كانت معرفتهم
"الحقيقة" لا "المتوهمة" بالحضارة الغربية ومثالبها وسلبياتها سبباً في إيمانهم
بإنسانية حضارتنا وأحقيتها بالبقاء وتحولهم لنقد الحضارة الغربية والدفاع عن
حضارتنا وهويتنا. وكان محمد شاويش أول من جمع أفكار هؤلاء في تيار فكري واحد
أسماه التيار التأصيلي؛ لمعرفة المزيد عن التحولات الفكرية لمحمد شاويش انظر:
محمد عثمان: مآلات المثقف في زمن العاصفة, مجلة الكلمة, العدد 9, سبتمبر 2007م؛
وانظر: محمد شاويش: شهادة شغيل ثقافي سوري,
http://mace.cc/?p=1072
(8) ميّز محمد شاويش بين مجموعة من المفاهيم الخاصة بالوعي, من ذلك مثلاً
تمييزه بين ما أسماه "الوعي الإنحطاطي" و"الوعي النهضوي", وبين "الوعي النظري"
و "الوعي الممارس", وتحدث عن "الوعي الملائم" الذي يجب أن
يكون عند
شعبنا "من أجل القيام بالمهمة
المطروحة
على
عاتق
مجتمعنا إلزامياً،
وهي
مهمة
النهضة
الشاملة
لمختلف جوانب
الحياة الكفيلة
بجعل
مجتمعنا
قابلاً
للمنافسة والتحدي
والفوز
في
الكفاح
من
أجل
الوجود (لأن
ما نواجهه
الآن هو
أن
نكون
أو
لا
نكون)"؛ انظر: محمد شاويش: نحو وعي جديد, مجلة الكلمة, العدد 19, يوليو, 2008م؛
وانظر أيضاً: محمد شاويش, ما هو الوعي المطلوب الآن؟: القدس العربي, 6 تشرين
الثاني 2007م.
(9) محمد شاويش: ملاحظة مبدئية عن الإنسانوية الزائفة أو “الالتباس على صعيد
عالمي”,
http://www.banias.net/nuke/html/modules.php?name=News&file=article&sid=6804
(10) المرجع نفسه.
(11) محمد شاويش:
عن موقع "التيار التأصيلي" في الثقافة العربية المعاصرة ومفهوم "الهوية" عنده,
مجلة الكلمة, عدد مايو, 2008م.
(12) المرجع نفسه.
(13) المرجع نفسه.
(14) محمد شاويش: ملاحظات إضافية في نظرية الالتباس, مجلة بانياس,
http://www.banias.net/nuke/html/modules.php?name=News&file=article&sid=6826>
(15)
لقد تم تصنيف كتّاب كثر بطريقة خاطئة حتى أن بعضهم جعل من علي
شريعتي وعبد الوهاب المسيري وغريغوار مرشو يحسبون على مالك بن نبي, بل إن محمد
شاويش نفسه ذكر أن بعضهم جعله شبيهاً من حيث توجهه الفكري بعلي شريعتي! وكما
يعرف المتابع لكتابات هؤلاء أن بينهم اختلافاً كبيراً.
(16) محمد شاويش: نحو ثقافة تأصيلية, محمود محمد شاكر ومقدمات التيار التأصيلي
العربي.
(17) المرجع نفسه.
(18) محمد شاويش: تجربة من الغرب حول الاختلاف الثقافي, مجلة المجتمع الكويتية,
7 / 5 / 2005م.