إلى أمي
في "عيد الأم" الذي لم، ولا يجيء ..
جلال/ عقاب يحيى
هي المرة الأولى التي أكنب لك وعنك ـ علنياً ـ ولا أملك سبباً محدداً(جديداً).. لعله وجع السنين . ألم المرض والندم النادم أن يكون ولا يكون . صوّر رفاق وأحبة وأخوة يغادرون بلا شفقة أو وداع . حالنا .. حال الأمة، وكنتِ رمزاً أثقلناه كثيراً بأعبائنا وما عرفنا يوماً أن نحتفل بعيد الأم الذي لامَسَنا عابساً، مكتئبا، معاتبا، كأنه نهاية الخريف وليس بوابة الربيع..مثله مثل الكثير من الواجبات المسحوقة، والأعياد التي عبّستنا فأقحطتنا، والآمال المُغتالة، والوطن الشريد.. ربما، يا (أم علي) حجم المعاناة والتضحيات التي تناثرت ولم نستطع مطاردة مقرّها ومآلها، وشظاياها التي أصابنا بعضها بجراح لا تندمل، وكنت من أبرز الضحايا، وكبوش فداء أعبائنا وتصميمنا المعاند حتى الاستعداد للموت، أو الانتحار على بوابات العقل العارف بالكثير، وشيء يشبه قدر الاختيار الذي كأنه لا مفرّ، وتصميم الثبات وسط الأمواج والتماوجات وتلاوين الشقلبة، وبدوية الغلب والمغالبة . ربما لوحة الموت الحاضرة في الذهن والدروب أشكالاً سريالية تختلط فيها الذكريات والصور الصاخبة المكتئبة، والتواريخ التي ترامت فتكلّست، والبلد العشق المطوي في علب السردين وأندية المافيا، واغتيال الحياة، والغربة الهاربة من لحظة حرية لم تتنشّقها، أو تقترب منها . ذكريات الشباب الطافح بالجموح الجامح وضحكاتك من غَمرنا وطوفنا المراهق، المندفع، الصادق، وكلماتنا الكبيرة التي تملأ جوف الليالي الطويلة، وتبرقش الفجر بتلاوين مختارة لا علاقة لكم ـ جيلكم ـ بها، رغم أننا ندّعي أننا منكم وإليكم، وأننا التوليد والبديل . الاستمرار والانقلاب . البرّ والعقوق(كنا نجمعهما في جيوبنا ولا نحسّ بأننا نتناقض)، فتتوحّدين معنا ولو مرغمة عاطفياً، وخائفة من(غدرات الزمن)، وتماسيح الدموع . اكتئاب التوّحد في الوحدة . قبض الريح لعمر آن له أن يستريح ..
عوامل كثيرة بالتأكيد تحرّضني أن أستعيد بعضك وقد مضى على رحيلك عقد ونصف وما نسيتك . وما رأيتك طويلاً.. طويلاً، فاعتقدت أنك سنديانة الأبدية التي تقهر الموت فلا يقترب منها، وربما يحترم جبروتها ومعاناتها، وانتظارها الطويل فيتمهّل ولو في ثقب شعاع يسرق ومض التكوّن، ومنطق الأشياء، و(التحليل الملموس للواقع الملموس)، وأنك أقوى من الجلطات والسكتات القلبية، ومن إغماض عينين مليئتين بالنداء والحسرة، وأمل اللقاء يوماً.. طالما قاومت وصارعت الطغيان (معنا، ولأجلنا)، وطالما حفيّت الأقدام المتشققة في الدروب إلى تدمر والمزة وصحنايا. وطالما جفّ الحلق خوفاً وسؤالاً عن الغالي الغائب ـ الحاضر، المُبهم، المطارَد.. وطالما تحمل الدعاءات رجاءات التلبية فيسكت الليل على وقع الهمس والرجاء، ثم ينتحب مقهوراً، لأن فجره عصيّ، مُغتصب بطريقة فاحشة.. تسقطين فجأة كما كثير أحلامنا، وأيامنا شبه الربيعية.. ولم أرك.. و" الغربة كرّبة" يا أم، فأندبك صمتاً يخشى البوح والاعتراف، وخشوعاً يتلظى في بؤر الجراح الكثيرة، ودموعاً تجففها عقود الغربة الصخرية فتمتصّ منها الاعتياد، وتتركني على حواف الأرصفة أشدو أغان عراقية تذكرني بك، وبحضيري أبو عزيز، وناظم الغزالي، وفيض الألم في وطن يرتحل إلى التلاشي .
تفترس الغربة(يا أم علي) الأحلام والأماني والعمر، تبني سدودها الخاصة من كلس جيري يمتصّ الخصب، ويقتل الحياة، فترتفع الذكريات مِضغاً تتقيّأ اليوميات المرمية كالنفايات. تكبر الذكريات وقد غاب شفقها فبهتت إلا من الأنا القاعدة في جحر الندم . تتكدّس الأعوام القسرية كالبثور الطافحة، دماملاً تروي بعض فصول العربي المرتحل غصباً بحثاً عن فيء، وأمل لا يتغوّله السراب، والغربة أنواع وأنواع، وأكثرها مضاضة ومرًاراً غربة الذات عن، وفي الجدران المحاصرة، وغربة الأماني عن الواقع، وغربة الخيارات عن المعطيات، وغربة الرفاق في الرفاق، وغربة الموت في الاشتلاع .. وتلك المسافات الأبعد التي تغطي أفقاً مصطنعاً، فنكتحل بالكحلي، والغيوم عابرة وما جاءت بصورة الوعد، وما أنزلت غيثها المحمود، فتكوّرنا، ثم تمزّقنا نثاراً ننفخ بعضه عله يصل الديار فيذكُرُنا، ونستعيد شيئاَ مما حُفر، وشيئاً مما وهبنا وضحّينا(والأمور للأسف يا أم بالنتائج)، والنتائج كما ترين : سجون ومطاردة واغتصاب الأحلام، وقلع الآدمية، وتسول المِضغ من أشداق نهمة لا تعرف الوجل والخجل، ولا لحن الأبدية، ونحن نعاني استعادة الملامح ورسم الصور، وحفر قبور المضامين والتحولات، وبَيْتا المتنبي الشهيران يُعاودان الحضور رغماً عن أكوام غبار النسيان والتناسي، فتنتفض البيداء بعض عشق، وعودة، بعض حنين يركب حنيناً اختلاطياً لبدوي مجلبب بالحلم الفسيح، ينصب خيمة في البلعاس، والأمل بالصيد يضاهي وهج النيران المعطر بالسنديان والبطم وحنّة الصخور القديمة التي لم تتلوّث بالنهب والنهم، وتلك القرْصة من برد لذيذ تُلهب وقع السرمدي فيغيب في الفلا المفتوح، يرتطم الفلا بحداثي مقهور بثقل الأفكار، والكلمات، وأحمال الزمن الذي كان، وتلك الاندفاعة الأشبه باشتعال الحطب المُغتصب ..ويحضر المتنبي هارباً من وهج حلم أضاعه كافور..
عيد بأية حال عدّت يا عيد بما مضى أم لأمر فيك تسهيد
أما الأحبة فالبيداء دونهم فليت دونـك بيـــداً بعدها بيــد
لم يحضر البلعاس إلا في خواطر الشعر والأدب، والحطابين الذين أدمنوا فعل القطع لتحويله إلى مرثية جرداء تعزف أغاني الحزن الموّرث في أخاديد الزمن الراكد، فيلجأ البعض إلى التورية خوفاً من فؤوس السلطان القاطعة، أو دخول مغارات الإنسان البدائي التي أعيد استخدامها وركوبها واستثمارها، وقد انتصبت الرؤوس المعلقة شواهد التعاقب لزمن عربي قديم ـ متجدد، يعشق البلطة والفؤوس، وذبح النفوس الحرّة التي ما اعتادت التدجّن والتليين والتلوين . وارث موروث .. أدمن قتل العطاء، والخضرة، والأحلام.. وأشجار التاريخ، وعبق الصخور، والبطم .
تنتصب أمي في وداعها الأخير(المفاجئ) قامة تصرخ مضرّجة بحزن دفين، تشقّ ثوب العتمة والخوف، والقهر، والظلم، والشقاء. تناديني الحضور في لحظاتها الأخيرة وقد اشتاقت كثيراً، وملت انتظار وعود الأمل، وغيمات التصيّف، وقحط الفصول . تلهج باسمي وتذكرني شوقاً يمزّق القلب، وحرقة حكاية طويلة، ثم تقرر المغادرة . أستعيدها مولولة خالي الذي جاء خبره مستشهدا في فلسطين، فتتكرر الولولة أزمان الاستبداد المجلبب بسراويل شعارات جديدة، وأقنعة فاخرة تتشدّق تكراراً عن الأهداف والمبادئ والشعب والعدالة والحرية والكرامة، فتغصّ أمي حنقاً هي التي ما عرفت الخوف، ولا تدوير الكلمات والزوايا والفصول والشعارات والثروات، وصوت الجرأة في زمن صعدت فيه النساء حدود السماء، فتراجع(الرجال الرجال ـ أشباههم وأنصافهم وخوفهم وجبنهم وتحسباتهم).. تضرب أمي(وجمهرة الأمهات والنساء) حواجز العسس وأسياط إدمان القهر والتخويف والتدجين أمام القصر الجمهوري، تبتعد الحواجز مهزومة، والإرادة صوت نسائي موحّد : مقابلة الرئيس لإطلاق سراح المعتقلين المظلومين الذين لم يفعلوا شيئاً سوى أن أحبوا الوطن بطريقتهم . حلموا بالاتساع الذي يفتح الأفق، فحشروا في عتمة الزنازين والأقبية، أشباه بشر، بعض بشر مرمية سنوات، وأمي تئنّ لكنها ترفض أن يسمع أنينها أحد(غريب) خوفاً من الشماتة، وفي الصبح تمسح دموعها ودعواتها، تصرّ بقجة الزوادة التي حضّرتها قبل أيام وفيها الكثير من الدموع الفخورة، والدموع المقهورة، والأغاني التي اعتادت شدْوها وهي تسرد لنا ما حفظت من سيرة بني هلال، وحكاية أبو زيد ودياب بن غانم، وعنترة، وكثيراً مما حفظت واحتفظت به مما يعتبر مفاخر العرب وعزّهم وكبريائهم ونخوتهم، وتضيف إليها ما يحبه كل ابن من مأكولات . تهدهد مهدنا وهي تستعيدنا صغاراً وتتحسر(كلما كبرتم كبر همّكم)، وهمنا كبير، وخطير، ومن العيار الثقيل(أعداء للوطن) ..
منذ الفجر، والنوم يجافي العيون وهو يعيد شريط الذكريات.. يوم تزوّجت، ويوم جاء بكرها صبيّاً، بعد ابنتين، سلمت واحدة منهما(وسط مجتمع ذكوري لا يتقبّل البنت كثيراً) فلم تسعها الدنيا(وكَرّ الصبيان) فرحاً يملأون البيت والأعماق(سنداً وظهراً.. وآهات)، لكنه البكر وهو سجين رهينة، سجين مظلوم على حساب أخيه، والآخر الذي لا تعرف أي أرض تحمله، ولا أية بقاع تغطيه بدعواتها، وبذلك (الحجاب ) القوي الذي دفعت فيه دم قلبها كي يحميه شرّ الأعداء، والأصغر، والبنت، وأولاد البنت الثلاث .. كومة أولاد (يلعنها أبو السياسة) والامتداد جولات تتعوّد فيها على معرفة الجغرافيا المتعرجة، والسجينة، والمحمية بآلاف (الكولبات) والعيون الغاضبة، والألسنة القذرة وهي تشهر سلاحها ومخزونها شتائماً وسباباً وإهانات من كل الأنواع، وتنوّع الفصول من سجن تدمر إلى المزة.. إلى صحنايا.. إلى الهمّ الأكبر على ذلك (الذي لبط النعمة) فجرّجر العائلة معه.. ثم توارى كالطير الذي لا يعرف أحدّ مستقرّه . تتقبل إهانات عناصر الأمن وشتائمهم، وقد استغربوا هذا الكم من الأولاد، والأقارب، وتلك العزيمة المصرّة على الحضور في مواعيد الزيارات، والجرأة في الردود ومحاولات التوضيح والتفصيح.. وعندما كان بعضهم يتهمها، أو يتهمهم بخيانة الوطن كان شموخها أقوى من الخوف فتردّ بما عرفته عنهم : لم يسرقوا، ولم يجرموا، ولم يسيئوا إلى أحد، وقد يفور الدم فيصل اللسان. يغلي الدم الحانق فيثور ببعض كلمات تفشّ بعض الخلق، وتنفّث شيئاً من كُربة . وقد تبكي حرقة داخلها فتكاد تلعنهم (أولادها) الذين جرجروها، وأقحموها فيما لم تكن تفهم به شيئاً، ودعوا مثل هؤلاء يهينونها.. وقد تعتب عليه ـ ذاك (الطافش) كالحلم، لكنها رغم كل شيء، ورغم أنه ركل السيارة والامتيازات، والجاه والعز .. فخورة به، وبهم.. وقد تجد عزاء، ولو مبطناً عندما يناديها بعض الصحاب ب"أم المناضلين" كأنها التعويض والتنفيس، والرد الأشمل عليهم هؤلاء(الأعداء)، وإن كانت لم تعرف سوى الغصّة والحرقة .. وجفاف الحلق، والدموع، وانتظار موعد الزيارات.. والدعاء الذي لا يتوقف بأن (يوفقهم وينصرهم ويُعيدهم)..
****
لم أتحمل سماع نبأ وفاتها المفاجئ، وكنت أمنّي النفس أن تتحسن الظروف فأراها في غربتي (الغربة كربة يا ولدي).. فامتدّت الأعوام أعواماً، وتراخى الزمن كسولاً، عقيماً، جاحداً. خرجت وحيداً إلى شوارع حزينة ترتعش أشجارها فعل قصف الريح وما تلقيه من نفايات بشرية طفح بها عصر الاستهلاك فغطّى وجه العقل، واخضرار الأماني.. وتهت في إدراك معنى الرحيل والغياب، والحضور، والدمع الذي يصارع كبرياء يصرخ البدوي فيه أن توقف.. وذلك السكون الأشبه بقاع أفكارنا وآمالنا شبه المحنّطة.. فرحت أواسي آخري اليتيم بأن الغريب لا يعرف أن يحزن لأنه يموت بالقطعة، وينزف كل يوم بعض بعضه، وذكرياته، وكيانه، وعبق الأرض، والحياة.. ليستديم صقيع يابس، حاد يجرح الدمامل فتختلط أنواع القيح وهي تشكّل ما يشبه الساقية المتعثرة في مستنقع الانتظار .
أمشي بلا هدف، كأنني مطارد يستعيد سنوات خلت، كأنني أهرب من مفروض يفرض فروضه، فأرتطم بالوعي الخائب عائداً جنينات المراهقة وقد امتطى سيفاً لامعاً أشبه بسيوف الأطفال، فأهرب خوفاً، والخوف مأمَنَة . الخوف سياسة تنتج دجاج المزارع المقصوصة المنقار فلا تفعل شيئاً سوى البيض وانتظار موعد الذبح، وأنا مذبوح في غربة يتطاول فجور زمنها فيأكل وهم الفجر، وحكايا الرجوع . وتنتصب الكرامة درعاً ورأس حربة، ومتراساً ..فتهرب الفصول وقد اختلطت فما ارتوت، ولا شبعت .
ككل أمهاتنا أمي : خصب وعطاء لا يعرف الحسابات والأرقام ولغة المصالح، والأنا المتغولة، ولا قوس قزح السياسة، والتبرّج . وفوق ذلك كانت فطنة، لمّاحة، ورثت النكتة والتعليق الساخر، وقولة الحق ولو جارحة من أمها الشهيرة في عالم بلدتنا العجوز ـ الكئيبة ـ الفخورة بالغبار وزوابع الأفكار والشعر القاحل الذي يحاول أن يكون التعويض، والخضرة، والحلم الضائع، وعزف الزمان على البكائيات، والأمجاد التي لم يمسكها أحد، أو يراها مخلوق السلمية الجديدة التي نهضت من أنقاض الأنقاض، فاكتنزت أنين المضطهدين، وأناشيد الطامحين إلى وضع آخر، وانتحرت على أبواب الزمن الراكد، المحتبس كالأمطار التي ترفض النزول، فتجف الينابيع، وتتوقف الآبار عن الضخ، ويصرخ العطش باكياً، متوسلاً : لله يا محسنين، والمحسنين قلة، (لأن الحال من بعضه)، والقحط عام، والقطن يأكل أعراس الذكريات ، فتلعن الناس أمريكا وخدعها، والنظام الذي لا يعطي كتباً مجانية للتلاميذ .
تكبر الغصّة، والحرقة، ومعها حقد دفين على الوضع السائد، فتنتصب السياسة صحراء فسيحة : رواحاً، وامتطاء، وتعاقداً أبدياً، وإذ بأكوام الأحزاب تنتعش في زمن قصير، وإذ الدنيا تتشقلب بفيض كالطوفة الجارفة التي كانت تهدم البيوت الهشّة، والأوضاع الرثّة..محدثة ما يشبه الزلزال . زلزال السياسة كبير، والأمل محفور في صخور الجفاف، وأخاديد العسكر والانقلابات، والوعود بالتغيير ..
تتصارع الأحزاب وتتقاتل. تتجادل وتتفاعل، ويجد البعث مرتعه الكبير، فالهواء عليل، ونسمات البلعاس تنعش الأفكار والأفئدة، والبيداء ارتخاء المشاعر، والتهاب التصوّرات(والزمن العربي قادم).. وهات يا انتظار . وهات يا حركة، وخطابات وقصائد تستدعي العنترة القادم من وادي النيل : عملاقاً أسمراً يتأبط الأماني، والتراث، والفجر، والشمس، والحنين، ووجع الأنين .. فتلتهب الأكفّ تصفيقاً، وتبحّ الحناجر هتافات وزغاريداً..
لم تكن أمي سياسية، ولا علاقة لها بالأحزاب والسياسة.. رغم تعاطفها مع أخوتها(أخوالي) الذين تبعّثوا مبكراً .. شَقَوا، وناضلوا، وسُجن بعضهم(وما نالهم غير الركض والشقاء) وما نالوا غير قبض الريح وسوالف الذكريات عن الأمنيات..لكنها، وبفعلنا، وبزخم وقع الآمال والحكايا والوعود فينا.. صارت، في زمن قصير، المحلل السياسي الأول لنساء ورجالات الحارة(كبار السن)، والإذاعة المتنقلة التي تدافع عن البعث(والثورة)، وتعد الآخرين بأيام مختلفة قادمة، وبربيع دائم.. وإذ بها، مرغمة، في طوفة غمرنا الطافح، وإذ بها منافحة، مكافحة، تزعل وتُزعل، ويرتفع صوتها حمية، وإذ بها(سياسية من طراز خاص) تجمع فرحها بنا بحزنها على عبد الناصر يوم اختلف البعث معه فارتفعت تلال الاتهام لعقل عربي مدمن فعل التنتيف والتشقيف، ونكران الذاكرة، والأمس، وعبد الناصر كبير، يلج القلوب قبل العقول، فتستمع خلسة لخطاباته، ورنة صوته العذبة، الخاصة، لكنها (عندما يجدّ الجدّ) تتخندق في خندق الأهل : الأخوة، ثم الأولاد وكأنها تريد أن تقيم حاجزاً بين قلبها وعقلها، بين الأمس وما صار، وتلعن السياسة وأهلها لأنها فرقة واختلاف، و(ليس لها صاحب) ..
الخوف تراث، والخوف عبء على ىالقلب، والسياسة لا دين لها . وبوارق الرعد تجلب الصواعق، وأمي خائفة على أولادها شرّ الأشرار والمنافقين، أولئك القوس قزحيين الذين يتمرّغون بالحربائية، فتحذّر وتنصح . تفرّق بين أصحابي وكأنها تفحصهم واحداً واحداً(كانت نظرتها صائبة أغلب الأحيان)، تحب بعضهم كأولادها فتكثر من ضيافتها لهم حتى وإن كان الوقت ليلاً متأخراً، أو عزومة فجائية طالما أحرجتها بها، ونحن كومة شباب طافحين بالنهم والتنافس الأكلي والأفكار الساخطة ـ المنتشية، المسقية من نبع الصفاء، و(المثالية)، والتسابق في التثقيف والدخول إلى المناطق الوعرة، ثم ولوج التضاريس الناتئة وتجريح جروحها، وفضح دمها الأزرق المتخثّر في عقول كثير من أدعياء الرفاقية والثورة الاشتراكية . وبكثير من المداعبات التي كانت تغتصب النكتة منها فتعلق علينا كلمات مقذعة، لكنها عامرة بالحب، وتبدي انزعاجها من آخرين، فتلطشني ببعض حكمة العمر والحياة، فأمازحها. أمزج الجدّ بالسخرية فتبوح ببعض ما في القلب، فيغمرها حزن خائف، وتنبيه من هذا(العناد الموروث) ، وركب الرأس، أحلّفها أن تقول الصدق، وهل تريديني أن أكون خرقة، أو ممسحة قذرة، أو كيس نفايات تملأه قذارة مسروقة من رفات الأبرياء، ودموع المحرومين.. حينها ينتصب الكبرياء فخراً .. فتوصيني الصدق، والنخوة، والإباء .. فأنتشي .
مهر الصدق يا أم كبير، والسياسة صراع واختلاف . انقسامات وخندقة، وسيوف تقطع صلات الرفقة، والمنتصر يروي التاريخ الذي يريد، والمهزوم يشتم ويلعن، وقد يؤلف قبل أن يخبو الصوت أو يغيب في الزنازين والمطاردة والكهوف والرحيل.. وحين وقف التاريخ البعثي على حد سيف الاختلاف.. كانت مهمومة، حزينة، بائسة، وكأنّ كثير تلك الأحلام تتبخر. كأنّ أناشيد البعث عن زمن آخر قد ملت فانشرخت الاسطوانة، وإذ بالأخوة الرفاق يتقاتلون، فيلعلع رصاص شعارات التمايز والاتهام، وإذ بعدد من الجثث تصل البلدة في جنازة الانقسام، وتنقسم أمي بين ما ترى، وما تسمع . بين أخوتها الأقرب إلى المنهزمين تحت يافطة اليمين، وبين نشوة النصر الخائف من غد يفتح مصاريع الشقلبة، وانقلاب الحراب على القلوب المؤمنة، ونسكت، لأن القلب محتقن بالكثير من الملاحظات والخوف، وسيل المعشبقين الذين تقدموا الصفوف وغنوا أغاني اليسار الثوري كأنهم أبناء بررة، بينما كانوا كالخلد تحت تراب الانتظار .
يطوي الزمن الأمس، والسلطة مَرْكبة يتعلق فيها كثير، والدمامل تتقعّر، أو تنزوي خائفة فعل البثور..وأمي يدها على قلبها، وحزيران فجيعة . حزيران انبهات الوعود المنتحرة فوق صخور الجولان الصلبة، المحصّنة، وزواريب القنيطرة التي لم تقاتل، ولم تدعها البلاغات العسكرية المريبة أن تصون عرضها.. فاستسلمت للرحيل والدموع والتوهان، كما الجيش الهائم في قرار الانسحاب الكيفي.. وفلتان الحقيقة من بين أصابع الأناشيد والبيانات العسكرية الصاخبة، والانتصار الموهوم .. والطائرات التي(أُسْقطت) ولم تسقط فعربدت ..وخوف الخوف من النقد والمصارحة، والمحاسبة والمعاقبة، والتلوي في الشعارات الكبيرة وسيلة، ومخرجاً، ومنفذاً، ورؤى .
تنتصر الهزيمة في مولودها الداخلي : حملاً رجيماً يسلق عواصف الريح، وأفكار الالتقاط الجاذبة للعاب وجمهرة الوعد بالتغيير، محاولاً تعبئتها في زجاجات الخندقة، وخناجر الاغتيال، وإذ بكثير الدمامل تبرز صارخة حقها القديم، المُصان، ودورها، ومكانها، وفعلها.. وإذ بكل شيء يترنّح في براد التردد، والغيبوبة، والخلاف.. وإذ بروائح العصور تطوف القصور وحانات الخمور .. تسأل الثأر.. وإذ بالدنيا غير الدنيا، والتعثر انتظار النتائج، والنتائج باهتة تأكل صوت الإذاعة وحروف الصحف، وصور التلفزة التعبة صراخاً عن الشعارات التي تتمزق، والثورة التي تذبح في الأردن، والآمال المندحرة في مؤتمرات القمة، وانسلال الحلول الداخلية مثل أفاعي الرمال، وفجيعة الفواجع برحيل الزعيم الكبير .
أبيضاً كالسكون ذلك الانقلاب المنقلب، والدنيا هيصة، ورجّة، وكلام كثير كبير، واتهامات بالجملة، ووعود سهلة بالرجعة.. وأمي مذعورة تنادينا من بعيد، كأنها تريد أن تحتضننا وقد خالتنا صغاراً يمكن لذراعيها أن تحوشنا فتحمينا شرّ الغولة التي تطرق أبوابنا، وكبرياءنا .. لكن هيهات ..
ويسري مثل التاريخ دخاناً في نيران اللظى(( ضع رأسك بين الرؤوس وقل يا قطاع الرؤوس))، وأقول لأمي : رأسي كبيرة يصعب أن تدخل خرم الإجبار، وفعل التربّص، و"سيلول" الخيانة الصريحة للمبادئ، وما عرفناه بالشرعية، والنظام الداخلي، والأفكار الطائرة في وهج أحلامنا عن الثورة الثورة، والثورة التغيير، واليسار الجبّار.. وأداعبها بعيداً عن هموم أدركها، ومراهنات أعيها، ومتاعب ، وصعوبات، وتركة ثقيلة.. وضباب يغطي وجه الذي جرى.. وتعرف أنني(ألبط النعمة) بكل وعيٍ وجدارة.. وأن مرحلة أخرى قادمة سنصبح فيها مطلوبين ومطاردين..ومعتقلين.. فتضع يدها على قلبها وتسكت.. وأنا متأكد أنها فخورة في عمقها بتلك الأصالة التي رضعناها حليبها، وبعزيمة الصدق في الموقف، ونظافة الرأس واليد، وما في اليد حيلة غير الانتظار، والدفاع الهامس عن وجدان الهسهسة في محراب غد طال ..
تنهمر الشعارات كبَرَد أيار، أو تشرين . تحصد رؤوس السنابل الثقيلة المحملة بالقمح، تاركة (الزيوان) وتلك الفارغة للرقص في زار احتفائية الشبح القادم على جثث البعث المنتوف، والملفوف بغمر من كلام التشدّق في أسواق تسول الشرعنة، ويعلو قرع طبول الوهم، و(الرفاق) يعود معظمهم.. وفي حقيبة التبرير ما يضحك ويبكي، وتعلق مشانق الحزب الأمل، والحزب الوعد والمحاولة، والحزب الممكن، ومعظم القيادة في سجن أبدي : موت بطيء دون تهمة أو سؤال أو محاكمة، والضمير يقرع الوعي، والحصائل والقناعات، فينزلق القرار إلى حقل ألغام المراهنة، ورحلة البحث عن المفقود وسط الضواري، وكلاب المطاردة والنهش، ووسط دمامل التاريخ والغموض، والالتباس، والاحتباس، وقصص البطولة التي جبنت فما حرّكت نملة ..
اللوعة تلطم الخد وقد استقرت اليد عليه طويلاً، والخوف امتداد، والوصايا لا تجد مكانها، فيطول ليل الذعر(وقلب الأم دليلها)، والليل رفيق الأماني الغامضة، والمراهنات الخطيرة، والوعود الخلّبيّة، ومسرحيات المرور على أوكار الطيور .
****
وتقول لي من بعيد بعيد : كم مرة سنعيش ؟ . كم مرة يا ولدي ستحيا، والعمر شحّار وخوف وتعتير ؟. وتقتحم(وكري) للاطمئنان ومعها(حجاب) من النوع النادر، ل"عبقري" وعدها بأن يضع ستاراً كثيفاً بيني وبين عيون البصاصين، وأن يصيبهم بالعمى والطرَش فلا يرون ولا يسمعون، وتتوقف قدرة أجهزتهم على التنصت، وعملائهم على الاختراق.. فأداعب قناعتها، واحلّفها إن كانت مقتنعة بذلك الملفوف في صرّة، وتضحك وهي تروي لي عمر الليالي التي لا تنتهي، ومساحة الخوف عليّ وهي تستصبح الصبح دعاء صادقاً أن يحفظني الله من شرورهم وحقدهم الأسود، ونار انتقامهم، وأن دعاءها مُستجاب، مثلما هو وعد العرّاف.. والدليل : أنني رغم أنوف بحثهم وتنقيبهم .. ما زلت موجوداً .
كثيرة يا أم أحاديثنا تلك السويعات المرتجفة، وأكثر منها محاولات تهدئة روعك، وحقنك بوعود الأمل التي تناثرت في فمي وهي تدرك أنها للتصدير، وأعدك الحيطة والحذر، والدمع يحرق المُقل، وكأنك تودعينني الوداع الأخير. كأنك تقولين : أيها القاسي كم أحبك ..