تأمّلات فلسفيّة في الطّبيعة الإنسانيّة
تأمّلات فلسفيّة في الطّبيعة الإنسانيّة
(المفهوم الفلسفي الأخلاقي الّلاهوتي للخطيئة)
د. سامي الشّيخ محمّد
هل الخطيئة شرٌّ أخلاقيٌّ راسخٌ في الطّبيعة الإنسانيّة ، ممّا يجعل الإنسان مسوقاً بطبيعته على اقتراف فعل الخطيئة والشّرّ ؟ هل الشّرِّ صورة من صور الخطيئة ذاتها ؟ هل من صلة بين قابليّة الجسد الآدميّ للفساد والموت والتحلّل من جهة والخطيئة من جهة أخرى ؟ . منذ متى ظهرت الخطيئة في حياة الإنسان ؟ و هل بوسع الإنسان تفادي السّقوط فيها والانتصار عليها ؟ ... الخ .
تنطلقٌ النّظرة الفلسفيّة للخطيئة من اعتبارها خطأً أخلاقيّاً صادراً عن إرادةٍ شرّيرةٍ ، ينطوي على عصيانٍ لوصايا الله . يقول ليبنتز : " الخطيئة شرّ أخلاقي " وقد اختفى هذا المصطلح من القاموس الفلسفي وظلَّ منحصراً في المجال الدّيني ".
والخطيئة مفهومٌ تنعكسُ فيه خصوصيّة الفهم الدّيني لمسألة ذنب الإنسان ، الّذي هو في الأصل ليس الذّنب أمام المجتمع أو أمام إنسانٍ آخر ، وإنّما أمام الله . وبمفهوم الخطيئة يرتبطُ الفهمُ الدّينيُّ لمسألة تكفير الذّنب . إلى جانب الآثام الّتي يجترحها هذا أو ذاك من البشر ، والّتي يُمكن التّكفير عنها من خلال التّوبة والصّلاة وأعمال الخير . وتقول بعض الدّيانات كالمسيحيّة ـ مثلاً ـ بما يُسَمّى بـ" الخطيئة الأصليّة " الّتي هي الذّنب الّذي يقع على عاتق الجّنس البشري كلّه بسبب الإثم ، الّذي اجترحهُ أبوانا آدم وحوّاء عبر إخلالهما بما حرّمهُ الله من أكل ثمار الشّجرةِ المحظورة (شجرة المعرفة ) .
من هنا جاءت تبعاً للفكر الدّينيّ ، كافّة مصائب البشريّة ، ووجود الشّرّ على الأرض ، وكلّ آثام البشر كنتيجة لذلك منذُ ذلك الحين . والمغزى الأخلاقيّ للقول بالخطيئة الأصليّة يقوم في أنّهُ يعزو إلى كلّ إنسان ، وبصورة مستقلّة عن تصرّفاته الشّخصيّة ، ذنباً لا يُستأصَل ، أو نزوعاً فطريّاً نحو الخطيئة ، وهو بذلك يُلقّن الإنسان الاستكانة ، وينزع عنهُ إلى حدٍّ مّا المسؤوليّة الشّخصيةّ عن تصرّفاته .
من ناحية أخرى يشير مفهوم الخطيئة إلى أمورٍ ثلاثة على غايةٍ من الأهميّة ، الأمر الأوّل : أنَّ الإنسان في جبلّته ينطوي على إمكانيّة القيام بفعل الخطيئة ، فإمكانيّة حدوث الخطيئة إمكانيّةٌ فطريّة راسخةٌ ومتجذّرة في جبلّة الإنسان . الأمر الّذي يُفضي إلى القول بضرورة تحرير الإنسان من هذه الإمكانيّة تحريراً كاملاً ، بحيث تنعدم فيه ولا يعود لها وجود في حياته . الأمر الثّاني : إنَّ امتلاك الإنسان الفطريّ لإمكانيّة حدوث الخطيئة وليسَ حتميّة حدوثها ، يدلّل على حريّة الإنسان ومسؤوليّته عن ذلك الحدوث ، بفعل امتلاكه الإمكانيّة والقدرة الذّاتيّة على منع الحدوث ، بواسطة إرادته العاقلة الحرّة ، وإيمانه الرّاسخ بالله ، أي بواسطة تعبيد إرادته الذّاتيّة لله تعبيداً نامّاً بمحض إرادته الذّاتيّة ذاتها .
من هنا يُعدُّ الإنسانُ مسؤولاً عن أفعاله ، وعن خطيئته ، بوصفه إنساناً عاقلاً حرّاً ومريداً ، قادراً على القيام بفعل الخطيئة ، و عدم القيام به ، أي كونه غير مسوق على فعل الخطيئة بالضّرورة . الأمر الثّالث : إنَّ تعارضَ حريّة الإنسان مع الحتميّة يقتضي بالضّرورة توفُّر القدرة الذّاتيّة لديه للاختيار بين الفعل وضدّه ، اختيار فعل الخير أو الشّرّ سواء بسواء .
وعليه ثمّة تساؤلات تخطر في البال أبرزها :
هل طبيعة الإنسان خيّرة أم شرّيرة ؟ هل الإنسان كائن أخلاقي أم غير أخلاقي ؟ وهل النّفس البشريّة توّاقة لفعل الحَسَنِ من الأمور أم سيّئها ؟
نعتقد أنَّ طبيعتنا الإنسانيّة متناقضة ومتصارعة بين الخير والشّرّ ، ومردُّ ذلك أنَّ ثمّة عناصر متناقضة ومتداخلة ومتشابكة ومتضادّة تتكوّنُ منها . فممّا تتكوّن طبيعتنا الإنسانيّة ؟ .
يتكوّنُ شخصُنا الإنسانيّ من : (العقل و الغريزة) ، و (العاطفة وما يتّصل بها من ضروب الهوى والغضب والانفعال ) ، و (النّفس ،وما يتّصل بها من صنوف الهوى المختلفة ) ، و (الرّوح )، و(الجسد بمكوّناته العضويّة والفيزيولوجيّة ).
وبالتّالي إن عاش الإنسان وفق طبيعته الخاصّة، سيكون سلوكه وتصرّفه محكوماً بوحيٍ من مكوّنات طبيعته الإنسانيّة آنفة الذّكر ، بحدود احتياجاته الذّاتيّة . حيث لا وجود لأعراف أو تقاليد اجتماعيّة ، أو قيم ومفاهيم وقيود أخلاقيّة ، أو اشتراطاتٍ أو محدّدات دينيّة ، فما طبيعة تلك الأفعال الّتي تصدر عن الشّخص في مثل هذه الحالة وما نوعها ؟ .
سيخضع الفرد خضوعاً كليّاً لمنطق حاجاته الضّروريّة الّتي تضمن له البقاء على قيد الحياة ، وسيكون مسوقاً بسطوة الغريزة وسيطرتها على جملة أفعاله السلوكيّه ذات المنشأ العضوي والفزيولوجي ّ. وبالتّالي قد يقوم ببعض الأفعال ، الّتي يمكننا تصنيفها في سلسلة الأفعال الشّريرة ، بالقياس إلى فهمنا الإنسانيّ المتطوّر لمعنى الشّرّ ، كأفعال القتل والتّخريب والتّدمير ، والسّرقة ، والزّنا ، وعبادة الأوثان ... الخ . بالمقابل سيقوم بأعمال من قبيل تأمين المسكن والحماية له وللمقرّبين إليه من الأبناء والآباء ، وإعمال العقل في الطبيعة ومحاكاتها ، وصولاً عبر التّجريب إلى زراعة الأرض وتربية الحيوانات الأليفة للانتفاع منها ، واكتشاف بعض المكتشفات والقيام ببعض الاختراعات ، النّافعة وهي أمورٌ تنصرف في باب الخير من زاوية نفعيّتها وعدم توظيفها لإلحاق الأذى والضّرر بالأنا وبالآخر .
وبالتالي إذا سلك الإنسان وفاقاً لطبيعته ، وهذا مذهب الطبيعيّين في الطبيعة الإنسانية ، فلسوف يسلك على النّحو الّذي يستجيب لنداء طبيعته المركّبة ، ففي شقّها العقلي سيقتحم ساحة المجهول في مسعى معرفي لمعرفته وتعقّله ، وسيكون عرضة للخطأ والصّواب ، وفي حقلها الغرائزيّ سيتّجه نحو تلبية حاجاته الغرائزية الفطريّة ، دون تمييز بين ممنوع أو مباح ، (حلال أو حرام ) بلغة المجتمع والدّين . المهم سدّ الحاجات وإطفاء ظمأ الغريزة الدّائم لديه .
وفي حقل الرّوحانيّات سيجهد في التّفتيش عن قوّة تفوق قوّته ، يجد فيها القوّة والكمال الّذي يعوزه ويفتقد إليه ، أيّاً كانت الوسيلة لبلوغ ذلك ، وأيّاً كان شكل تلك القوّة ومضمونها .
لنخلص بالنتيجة إلى أنَّ طبيعتنا الإنسانيّة ، مزيجٌ متناقض ومتكامل في إطار هوّيتنا الإنسانيّة الواحدة ، وأنَّ الأفعال الصّادرة عنها تتوزّع بين الحسن والقبيح ، الفضيلة والرّذيلة ، والعفّة والزّنا ، وحبّ الخير وحبّ الشّرّ . فهي ليست خيّرةً تماماً وليست شرّيرة تماماً . لذا يتوزّع البشر بوجه عام إلى أخيارٍ وأشرار ، دون أن يعني ذلك تمام خيريّتهم أم شرّيتهم . فلا خيريّة مطلقة ولا شريّة مطلقة لدى الإنسان بالتّاكيد ، فالمسألة هنا تتعلّق بغلبة الخير على الشّرّ أو العكس تماماً لا أقلّ ولا أكثر .
أودُّ الإشارة في هذا النّطاق إلى أنَّه يتعذّر الحكم أخلاقيّاً على أفعالنا الإنسانيّة من زاوية مادّة الأفعال ذاتها ، فمثلاً لا فارق في حيازتنا للمال من النّاحية الماديّة سواء تأتّى ذلك بطريق الحلال أو الحرام ، كذلك لا فرق في ممارستنا للجّنس من زاوية الفعل سواء تمَّ في إطار الشّرعيّة الزّوجية أم خارج نطاق العلاقة الزّوجيّة ، أليس الفعل واحداً في حيازة المال الحلال أو الحرام ، وفي الزّواج أو الزّنا ؟ كذلك في حيازة صنوف الطّعام والشّراب والّلباس والمسكن والسيّارة والممتلكات ؟ أليست حيازتُها هي هي من جهتها كمادّة سواء تمّت بجهد أم بغير جهد ، بالعمل المشروع أم بالوسائل غير المشروعة ؟! .
من هنا تركّز المفاهيم الأخلاقيّة والجماليّة والرّوحيّة على البعد الكيفي للفعل والمادّة والأشياء جميعاً ... أي على الصّورة الأخلاقيّة للفعل ، وهنا معيار التّفاضل بين الأفعال والأشياء . فالمُحبّ يُفضّل جسد محبوبه وعواطفه وشكله على سواه ، ولو حاز سواه على مواصفات جسديّة وماديّة تفضل المواصفات الجسديّة والماديّة للمحبوب من أفراد الجنسين .
المسألة الأخرى تتعلّق بمدى اعترافنا أو إنكارنا لوجود الشّيطان في الحياة .
إنَّ اعترافنا بوجود الشّيطان لا ينبغي أن يحملنا على التحلّل من المسؤوليّة عن أفعالنا الخاطئة ، وإن كان للشّيطان في حال اعترافنا بوجوده نصيبٌ في حدوثها ، فالاعتراف بوجود الشّيطان لا يعفينا من تحمّل المسؤوليّة الشّخصيّة بتاتاً . فوجود الشّيطان لا يعني سلب الإنسان القدرة على الوقوف في وجهه ومقاومة نزغاته ووساوسه الّتي ينزغ ويوسوس بها للإنسان ، _ إذا ما سلّمنا بوجوده _ ، ذلك أنَّ الله خلق الإنسان وله الحريّة الكاملة على الاختيار والتصرّف ، على الاختيار بينه وبين مخلوقه الشّيطان ، وأنَّ الّذي يُقرّر اختيارنا للفعل الّذي نفعله هو الإنسان وحده وليس الله . لذلك الإنسانُ مسؤولٌ عن أفعاله وتصرّفات جميعاً ، وهو الّذي بيده مفتاح خلاصه ، (خلّص نفسك بنفسك )، فتقرير مصير الإنسان متروكٌ له ، فـ ( إن آمن واعتمد يخلص وإن لم يؤمن يُدان ) .
محبّتي ... يتبع ...