مات وعينه على سحماتا
في ذكرى الصديق أسعد كامل سمعان
نبيل عودة
كاتب , ناقد وصحفي فلسطيني – الناصرة
اسمه الثلاثي أسعد كامل سمعان. وعلى ألسنة أبناء قريتنا، البقيعة، كان اسمه أسعد كامل. أمّا على لساني أنا، في طفولتي، وفي خيالي حتّى اليوم، فاسمه أسعد. لم أعرف يومها، أيّام الطفولة في قريتنا، أسعد آخر. أسعد، على كلّ حال، ليس من أبناء قريتنا. قريته التي ولد ونشأ فيها هي سحماتا المجاورة. هرب أهلها جميعهم، بعد قصفها بالطائرة، فتفرّقوا أيدي 48. عمّة أسعد، على ما أذكر، كانت متزوّجة في قريتنا، ولعلّه السبب المباشر في هروبهم إلى قريتنا بالذات. تركوا القرية كما هي. بل إنّ بعضهم، كما روى لي أسعد غير مرّة، كانوا جالسين إلى الطعام، فهربوا تاركين طعامهم في الصحون حيث كان!
ليست بيننا أيّ قرابة. لا أعرف أصلا هل كانت الصداقة، بين أبي وأبو أسعد كامل، قبل لجوئهم إلى قريتنا، أم بعده. فقط أذكر أنّ أبو أسعد وأبي كانا صديقين على العظم. لذا فقد أقام أبو أسعد وزوجته وابنه الوحيد، أسعد، معنا في البيت، بعد خروجهم مباشرة من سحماتا إلى قريتنا. لا أذكر المدّة التي أقمنا فيها معا في بيتنا. لم تكن مدّة طويلة، على كلّ حال. عائلتان معا في بيت واحد. كان بيتنا مستطيل الشكل، أذكر، فقسمه أبي إلى نصفين بالبلوكات: نصف لنا، نحن العائلة الكبيرة، ونصف للعائلة القادمة إلينا من سحماتا: أسعد وأبيه وأمّه!
لا أعرف كيف كانت صورة أسعد في أذهان أبناء قريتنا، البقيعة. في ذهني وخيالي أنا، الطفل الصغير دون العاشرة، كان أسعد بطلا، قدوة. أكبر طموحاتي كان أن أكبر فأصير مثل أسعد: لا يخاف "القاقوب" يلسع البقر، ونحن نرعى مواشينا، فتولّي هذه الأدبار، وأسعد نائم هانئا في ظلّ الشجرة. ولا يخاف اليهود ليلا، حين كنت أرافقه إلى سحماتا، قريته التي رحل عنها قبل فترة قصيرة.
في المساء، بعد أن أظلمت الدنيا تماما، كلّفني أبي بمرافقة أسعد إلى قريته التي احتلّها اليهود قبل أيّام. أنا كنت أركب حمارنا، في الطريق إلى سحماتا، وأسعد يركب حمارا، ويجرّ آخر من رسنه. نصل إلى سحماتا فتأخذني الدهشة، والرهبة طبعا، دفعة واحدة. قرية كبيرة لا صوت فيها، ولا حركة. ما أبشع البيوت العالية، والحارات المتراصّة، صامتة. لا صوت فيها ولا نأمة. بلدنا من حارتين، يبدأ أسعد شرحه لي همسا إذ نصل إلى غايتنا. الحارة الفوقى والحارة التحتى. بيتنا نحن في الحارة التحتى. يواصل أسعد كلامه، كأنما بعد فاصلة. لا تخف. القرية فاضية. سكانها جميعهم تركوها بعد ضربها بالطيّارة، واليهود لا يأتونها ليلا.
أمام بيتهم، أو ما كان بيتهم، كانت الأبواب والشبابيك مسفطة فوق بعضها، كأنّما هي معدّة للبيع. يبدو أن أسعد جاء من قبل، وأعدّها لتكون جاهزة للتحميل. بسرعة لا توصف، كان أسعد يحمّل ما يمكن على حماريه، ويحزمهما بالحبل شديدا. الطريق طويلة، يقول لي، يجب كرب الحبل، فلا يرتخي في الطريق. كنت أحاول مساعدته، لكنّي كنت أعيقه أكثر في التحميل. لا تتعب نفسك، كان يقول لي، لا مشكلة. بعد تحميل الأبواب، كان يجرّ أسعد حماري، فيقرّبه من كومة حطب كبيرة يابسة. بالسرعة ذاتها كنت أنظر إلى حماري، وقد تكلّل جلاله بحمل من الحطب محزوما. دوري في تحميل الحطب لم يتعدّه في تحميل الأبواب. كنت أساعده "معنويّا" فحسب. لئلا يعتبرني ولدا صغيرا، "ابن مدرسة"، لا يفقه من حياة الفلاحة والفلاحين شيئا !
بعد ذلك نبدأ طريق العودة. وطريق العودة تختلف تماما عنها في قدومنا إلى سحماتا. في طريق العودة معنا "مهرّبات": حمل الحطب والأبواب طبعا، والثانية أهمّ وأخطر إذا كبشونا في الطريق. قبل "الصدّيق" كان أسعد ينحرف بحمولته إلى طريق جانبيّة محاذية، تمرّ بعين طيريا، ويتركني على شارع الأسفلت الرئيسي وحدي. كيف لي مواصلة الطريق حتى نلتقي، وخوفي من "الصدّيق" وشجراته أكبر من خوفي البوليس بكثير. القصص الكثيرة التي سمعناها من الكبار، عن الصدّيق والرصد القابع هناك، يعترض طريق المارّين، فيركب وراءهم، وسرعان ما تنجرّ قدماه على الأرض، ورأسه يطاول السماء. قصص يقف لها شعر الرأس. هل كنت محظوظا فعلا، فلم يعترض طريقي البوليس ولا الرصد، أم هو أسعد مهّد الطريق أمامي إلى أن نلتقي من جديد، على مشارف القرية؟!
الأيّام فرّقتني عن أسعد. أنا إلى المدرسة في القرية، ثمّ خارجها، سنين طويلة. وأسعد إلى حراثة الأرض في القرية، بالأجرة، على ثوريه "المدلّلين". ثمّ الهجرة إلى المدينة، والعمل في الطوبار. حتّى في مهنته الجديدة، كان أسعد فنانا، قال لي أخي الكبير، وقد التقى به في المدينة غير مرة، وزارهم في بيتهم هناك.
لكنّ المدينة بعيدة عن سحماتا. كيف لأسعد العيش بعيدا عن سحماتا؟! روى لي بعض من التقوا به في شوارع المدينة أنّه كان دائم الشرود و"السرحان". طبعا كان فكره في سحماتا. فارقها منذ ال 48 بجسده، أمّا فكره ومشاعره فظلّت هناك، في سحماتا!
في السنوات الأخيرة من حياته، اشترى قطعة أرض صغيرة في "المرج"، غرب البقيعة، قرب سحماتا، وأقام هناك. في برّاكيّة أوّل الأمر، إلا أنّها تطلّ على سحماتا. ثمّ بنى له بيتا في شقفة الأرض تلك، تطلّ شبابيكه على سحماتا. لكنّه يوم توفّي دفنوه بعيدا عن سحماتا، وجعلوا وجهه في قبره إلى الشرق، شأن المسيحيين. ولو أخذوا برأيي لجعلوا وجهه في قبره إلى الشمال.. إلى قريته سحماتا!!