التاريخ لا يعيد نفسه ... ولكن
التاريخ لا يعيد نفسه ... ولكن .!!
بلال داود – كاتب سوري
التاريخ الذي مضى لن يعود ، وعند فراغك من قراءة هذه المقالة ستدخل الدقائق الخمس التي استغرقتها إلى الماضي ولن تعود ... ولكن ......نحن البشر بكل ما فينا من صفات حسنة و قبيحة ، نعيد تكرار التصرفات الصحيحة أحيانا والخاطئة أحيانا أخرى ، و في التاريخ صور كثيرة تكررت فيها أخطاء أسلافنا ( وأعمالهم العظيمة أيضا ) بشكل متشابه إلى حد كبير، فنقول على سبيل المجاز أن التاريخ يعيد نفسه .
فأجدادنا في الجاهلية تناحروا ، و كونوا قبائل متحاربة ، يغير بعضها على بعض ، فتسرق نوقها والأغنام ، وتسبي نساءها ، وتقتل الرجال ، وتخطف الأطفال ، وأشعلوا الحروب الطاحنة عشرات السنين لأتفه الأسباب ، كحرب داحس والغبراء أو حرب البسوس ، فاستغل ذلك القطبان العظميان في ذلك الحين ( فارس و روما) في بسط سلطانهما ، فبلغ نفوذ الأولى من العراق إلى اليمن جنوبا ، في حين سيطرت الثانية على بلاد الشام وامتدت غربا إلى شمال افريقيا على شواطىء البحر المتوسط ، وكلما أراد القطبان التنافس على مناطق النفوذ والدخول في حرب جديدة ، طلبا لمزيد من الثروة أو بحثا عن مجد جديد ، أو سعيا لتحقيق نبوءة عراف أو كاهن ، كانت كل امبراطوربة منهما تدفع بحلفائها من الأخوة الأعداء إلى مقدمة الأحداث والحروب ، حيث كانت قبائل المناذرة (العربية) قد ارتمت عند أقدام الفرس تنشد الود والعون والمساعدة والحماية ، بينما ارتمت قبائل الغساسنة ( العربية أيضا ) عند أعتاب الروم تنشد المطالب ذاتها .
ولما انطلق الإسلام من جزيرة العرب ، و اندثرت الإمبراطورية الفارسية ، وانكمشت الإمبراطورية الرومانية متراجعة إلى منطقة النشأة في أوروبا ، أقام أجدادنا دولة عظمى ، تشع نورا وحضارة وعلما على البشرية كلها ، واستظل الناس في منطقتنا وما جاورها ، بكل أعراقهم وأديانهم ، تحت ظل جناحي العدل والحرية اللذين حلقت بهما أمتنا عاليا تلك الحقبة من الزمن .
مرة ثانية ، انحدر أجدادنا من القمة شيئا فشيئا ، مكررين أخطاء أجدادهم الجاهليين بالتشرذم والانقسام الداخلي ، سعيا وراء أطماع فردية وطموحات شخصية ، فظهر عصر الإمارات والممالك الصغيرة ، وكلها متناحرة فيما بينها ، وإن ادعى قسم منها الانتماء إلى الخليفة العباسي القابع في بغداد ، المشغول عن أمر الرعية بالقيان والحسان وأطايب الطعام ، في حين آثر قسم آخر أن ينتمي إلى الخليفة الفاطمي المريض في مصر ، و لم يختلف حال أجدادنا في الأندلس عن حال أولاد العم في آسيا و إفريقيا ، فكان من الطبيعي أن يعيد القادة الأوروبيون جمع شملهم من جديد ، تدفعهم المطامع القديمة نفسها ، فأعادوا احتلال معظم الشواطىء العربية الشرقية وشمال مصر ، و أقاموا دولة قوية في فلسطين ، فما كان من أجدادنا المتشرذمين المتناحرين ، إلا أن تسابقوا لكسب ود هذه الدولة القوية فدفعوا لها الأتاوات ووقعوا معها معاهدات الهدنة الثنائية ( إذ لم تكن معاهدات السلام معروفة حينها ) ، في حين استمروا بالتناحر والحروب الداخلية فيما بينهم .
فلما أفاق بعض أجدادنا في ذلك الحين من غفلتهم ، و صححوا تصرفاتهم ، جمعهم من جديد العدل والحرية في زمن الملك العادل ومن بعده الملك الناصر، فتوحدت بقايا الإمارات العباسية والفاطمية و أعادت تحرير المنطقة من الفرنجة .
بالأمس القريب ، لما زاد ظلم الولاة في أواخر عهد الخلافة العثمانية ، استغلت بريطانيا و فرنسا ذلك بالتحالف مع بعض آبائنا الطامحين إلى المجد و الشهرة ، فانخدعوا بكلام معسول عن التحرر ،و وعود كاذبة عن الدولة العربية الكبرى ، غير أن الأحلام انقطعت ، و استقر الأمرعلى الشكل الجغرافي الحالي ، كما رسمها سايكس – بيكو ، و ولدت دولة إسرائيل .
وبدل أن نصحو لنصحح خطأ آبائنا ، ها نحن اليوم نمضي قدما لنرسخها ، ونكرر أخطاء الأجداد معها ، و نوشك أن نجدد صورة الماضي البعيد في زمن الجاهلية ، أو القريب في زمن الحروب الصليبية ، أو الأقرب في عهد الحروب العالمية ، ولعلنا ( بفعل التطور البشري ) قد نتفوق على أجدادنا ، بإيجاد واقع أكثر تعقيدا و صعوبة ، وأشد مرارة و إيلاما ، يجمع كل الصورالسابقة في صورة واحدة ، فمعظم دول المنطقة اليوم يحمل أسباب الانشطارالذاتي كالمتحول الزحاري ،وهي متنافرة فيما بينها ، ولكنها تتسابق من جهة أخرى لعقد معاهدات السلام الثنائية مع اسرائيل على انفراد ، وبعضها يتحالف مع روما الحديثة في الغرب ، و بعضها يريد الذوبان في فارس الجديدة في الشرق ، وبدأت الحروب الطائفية والعرقية تطفو إلى السطح .
أخطاء الأجداد تعددت صورها و دوافعها و بداياتها و رجالاتها و أزمنتها و أطرافها ، ولكنها أنتجت صورا متشابهة ، عنوانها الظلم و الاستبداد و الاحتلال و التبعية و التخلف و الجهل والحروب الداخلية والفتن ، في المقابل نجد أنه ما من صحوة مرت بها أمتنا إلا كان عنوانها العدل والحرية .
واليوم أمامنا خياران لا ثالث لهما ، إما الاستمرار في كبوتنا نحو مزيد من الظلم والاستبداد ، فمزيد من التشرذم و الانقسام و الضعف و التناحر، لتصبح اسرائيل هي الدولة العظمى في المنطقة ، نتسجدي منها أو نتسول لإرضائها مزيدا من قيود الاستعباد ، فيما تتنافس روما وفارس في مضغ ما تريد اسرائيل ابتلاعه ، و ابتلاع ما لا تهضمه اسرائيل ، والخيار الثاني هو الصحوة من غفوتنا لنتمحور حول فكرة واحدة ، وهي بناء مجتمع مدني يسوده العدل والحرية ، فنئد الفتن الطائفية والعرقية وهي في مهدها ، ونبدأ من جديد بناء حضارتنا التي زوت ....فالتاريخ لا يعيد نفسه ، ولكننا نحن البشر نكرر الأخطاء ، أو نعيد بناء الحضارة.