مفاهيم تربوية 12-15

مفاهيم تربوية

الثاني عشر: كلمات في التقويم والنقد الذاتي

د. موسى الإبراهيم

[email protected]

لقد تربينا في صغرنا ـ وجزى الله خيراً جميع شيوخنا وأساتذتنا ـ على أن نذكر الحسنات والإيجابيات لأهلها ونغض الطرف عن السيئات والسلبيات ستراً لأهلها. وعلى ما في هذا الأسلوب من أدب وصفاء راق جداً إلا أنني بدأت أشعر بعد تجارب الحياة وتقلباتها وبعد تأمل المنهج الإسلامي في كتاب الله تعالى وسنة رسوله% أن الصواب في غير المنهج الذي تعودناه من قبل.

وأنه لابد من رسم صور الحياة كاملة بما لها وما عليها ليحيى من حيي عن بينة ويهلك من هلك عن بينة.

فها هو القرآن الكريم يرسم لنا صورة المجتمع الذي رباه الرسول % على عينيه وهو المجتمع الأنقى والأصفى والأطهر والأكمل ومع ذلك فقد كانت له هنات وتراجعات وسقطات وقد خلدها القرآن الكريم للحقيقة وللتاريخ وللتربية وللعبرة ولبيان أن طبيعة البشر هكذا يحلقون ويهبطون ويرتفعون وينزلون وهم في جميع ذلك غير معصومين وليسول ملائكة أطهاراً.

- ولنتأمل مثل هذه الآيات الكريمات.

عبس وتولى... عفا الله عنك لم أذنت لهم... والله أحق أن تخشاه.. إنما استزلهم الشيطان ببعض ما كسبوا.. قل هو من عند أنفسكم... إن الذين جاؤوا بالإفك عصبة منكم... وإذا رأوا تجارة أو لهواً انفضوا إليها وتركوك قائماً.. الآيات

إنها لفتات قرآنية تربوية وأمثالها كثير لمن تأمل . وهي شواهد على ما أقول.

ـ والقضية مرتبطة ـ والله أعلم ـ بالنية والطوية وصحة القصد أو فساده، فمن ذكر مواضع الخلل والسلبيات تشفياً وتجريحاً وانتصاراً للنفس والهوى فهو ونيته وله جزاؤه على عمله في الدنيا والآخرة.

ومن ذكر ذلك لبيان المنهج التربوي الذي يجب أن تتربى عليه الأمة الإسلامية ولبيان سبب الخلل وآثاره اعتباراً واتعاظاً لصاحبه ولغيره فهو بحسب قصده ونيته أيضاً وله جزاؤه في الدنيا والآخرة.

- وعلى هذا المعنى وجد علم الجرح والتعديل، وعلم الرجال وأحوالهم، ذلك العلم الشامخ والميزان الذهبي الذي وزنت به رجالات الأمة وعلماؤها ومحدثوها وفقهاؤها وقياداتها، فعلا أقوام وسقط آخرون، وتوضحت حجة الله فيمن يؤخذ عنه هذا الدين ممن يجب أن يهمل ويكشف للناس زيفه ليحذروه. فليكن هذا المعنى قائماً في نفوس الدعاة عندما يتعاطون النقد والتصويب والتقويم لمسيرتهم أحداثاً ورجالاً. والله أعلم.

الثالث عشر: الإسلام حالة وليس فكرة ومقالة

قال لي صاحبي إنك تكتب في البدهيات. فقلت: نعم، فقال لماذا؟ قلت: لأن البدهيات قد غابت عن واقعنا وسلوكنا العملي وأخشى أن يأتي اليوم الذي تحتاج فيه البدهيات إلى حوار ونقاش فكري لإثباتها والتدليل عليها!! وفي هذا السياق أقول:

- إن الحياة ميدان فسيح ولكن لا مكان فيه إلا للعاملين المخلصين الذين تدل آثارهم على مبادئهم التي يعتنقونها ويدعون إليها.

- وإن الدعوة الإسلامية اليوم هي أشد حاجة منها في أي وقت مضى إلى أولئك الرجال الذين يهبون حياتهم لدعوتهم ويخطون مسارهم بجهدهم وتضحيتهم بالوقت والنفس والمال.

- ولئن رفع الدعاة المعاصرون شعار >الجهاد في سبيل الله طريقنا والشهادة في سبيل الله أسمى أمانينا< فإن هذا شعار كبير وكريم ولا يستطيع حمله إلا العاملون المخلصون الصادقون الذين عافت نفوسهم كثرة الكلام والفلسفات الفكرية العقيمة، وشمروا سواعدهم للعمل والتسابق في الخيرات وفي ذلك فليتنافس المتنافسون.

- فإذا كان أحدنا يدعي أنه من أنصار الجهاد فلابد أن يكون له حال المجاهدين الصادقين، ومن يدعي أنه من أهل الدعوة فلابد أن يكون له حال الدعاة علمهم وفقههم ووعيهم وذكرهم وزهدهم وعفتهم ومن يدعي العلم فللعلم وقاره وهيبته وللعلماء تواضعهم وقوتهم بالحق الذي يحملونه ويدعون إليه.

وهكذا فالإسلام حالة وليس مجرد فكرة ومقالة، وحتى هذه الكلمة لا تحفظ كحكمة وشعار بل يجب أن تكون سلوكاً وممارسة تعبر عن صاحبها بصمت.

الرابع عشر: كلمات في المنهج

إن من قواعد تصورنا الإسلامي أن الحياة كلها تسير وفق منهج وسنن ربانية محكمة لا يشذ عن ذلك شيء من خلق الله. قال تعالى: {فهل ينظرون إلا سنة الأولين فلن تجد لسنة الله تبديلاً ولن تجد لسنة الله تحويلاً}([1]). فلله سننه في الأنفس والآفاق وفي الأرض والسماء وله سننه في الخلق والإبداع وله سننه في حياة الأمم وتطورها ورقيها وحضارتها، كما له سننه سبحانه وتعالى في هلاك الأمم وتخلفها. ونصرها أو هزيمتها. كل ذلك حق لا مرية فيه وبديهي لا حاجة للاحتجاج له أو عليه، ولكن.

ولكننا اليوم نعيش في زمن تغيرت فيه مفاهيم واضطربت فيه موازين لدى أناس كثيرين، ولم يعد يستغرب في حياتنا اليوم شيء مهما كان غريباً من قبل، فالحقائق البديهية أضحت في عيون كثيرة أوهاماً دونها سحب من الضباب الكثيف والغيوم والظلمات. والمنكر والعار أصبح في عيون أقوام مكارم ومفاخر يُعتز به ويفاخر.

تغير مفهوم الكمال لدى الورى          وأصبـح فخراً ما عهدناه منكراً

ولقد ساهم الإعلام الفاسد الذي سيطر عليه سفهاء القوم في معظم بلاد المسلمين بقلب الحقائق وتحطيم القيم وكسر الموازين وتغييب السنن الربانية عن مدارك الناس وأفهامهم، فكم من هزائم قلبت نصراً وقام الخطباء والشعراء يمجدون بحمد الطاغية صانع الأمجاد!!

وكم من مكارم حولها اللاعبون بعقول الأمة إلى مهازل ومخازي يستحي منها العقلاء.

ولاشك أن هناك جهود خفية ساهرة تخطط لتضليل الأجيال وسلبها من مقومات النهوض الحضاري والفكري والأخلاقي ليسهل بعد ذلك سوق القطيع إلى حيث تريد الذئاب الكاسرة!!

وما أكثر العملاء الذين يمهدون الطريق لذلك من أبناء جلدتنا الذين يتكلمون بألسنتنا؟! بل وممن يتحكمون بمقادير الأمة وسياساتها الخاصة والعامة!!

كل هذا لم يعد اليوم غريباً على ما فيه من الخطر المدمر والاستهتار بعقول الناس وقيمهم.

والحق أن الخطأ مهما كان كبيراً والخسارة مهما كانت فادحة والهزيمة مهما كانت مخزية كل ذلك تبقى آثاره محدودة ووقتية إذا ما كانت القيم أصلية والموازين العادلة مستقرة في عقول الناس وفطرهم السليمة. والمنهج الحق هو الحكم العدل بين الناس.

أما إذا قلبت الموازين واضطربت المناهج وسمينا الخطأ صواباً والهزيمة انتصاراً والخسارة ربحاً فهنا الطامة الكبرى والانتكاسة الحضارية التي تقتل الأمل في القلوب التي ما زالت تنبض بالحياة.

تلك ملامح العصر الذي نحياه والمجتمع الذي نواجهه. وما أصعب مهمتنا في إصلاح هذا المجتمع وتوجيه سفينة النجاة في بحاره المتلاطمة وسط أعاصير الفتن والأباطيل.

وإن أخشى ما نخشاه أن تضعف النفوس أمام هذا الواقع فنتأثر بدل أن نؤثر ونتغير بدل أن نغيّر، ونفقد القيم والمناهج والموازين بدل أن نعمقها في مسيرة الحياة والتاريخ وقديماً قيل: من جالس جانس.

فحذار أيها الدعاة من الركون إلى من اختلطت قيمهم وموازينهم ومناهجهم وأخص بالذكر من ابتلي من الدعاة وقدر له خوض المعترك السياسي وخوض الصراع على تحقيق المصالح فإنها مواقف حرجة كم زلت فيها من أقدام وكم سقط فيها من أعلام كانوا محل ثقة الأمة وتقديرها واحترامها زمناً طويلاً!!

فالمنهج المنهج والقيم القيم والمبادئ المبادئ أيها الأخوة ولا علينا أن يسقط جيل كامل وأجيال كثيرة في صراعها مع الباطل وأهله وكل ذلك يهون أمام انحراف المنهج واضطراب معنى الحق في عقول الناس وقلوبهم.

فالله الله يا أخي الداعية أن يؤتى الإسلام من قبلك.

الخامس عشر: ليس غريباً ولكن

ليس غريباً أن تتبعثر الأوراق عند هبوب الرياح الهوج.

وليس غريباً أن تختلط المفاهيم عند ازدحام الأحداث الكبار.

وليس غريباً أن يحتار المرء ويتردد عند كثرة المنعطفات والطرق الملتوية.

وليس غريباً أن يذهل الإنسان عندما يتنكر له الأصدقاء ويخذله الإخوان.

وليس غريباً أن نرى أعداءنا عند ضعفنا يزدادون صلفاً وغروراً واستكباراً.

وليس غريباً أن يمكر بنا عدونا ويكذب علينا ويضللنا بمخططاته ولؤمه.

وليس غريباً أن تفتر همم كثيرة من طول الطريق وشدة المعاناة.

وليس غريباً أن ينحرف بعض السائرين عن الجادة لخفة وزنهم أمام الأحداث الكبيرة.

وليس غريباً أن تظهر زعامات مصنعة توالي أعداء الأمة وتقتات من فتاتهم.

وليس غريباً أن تطول المحنة وتتشعب مساراتها ليتمحص الرجال الأوفياء.

كل ذلك ليس غريباً وليس خطيراً بحد ذاته بل هو جزء من سنن الله في الكون التي تسير الحياة على وفقها، وتلك الأيام نداولها بين الناس.

ولكن الغريب حقاً:

أن تتغير الموازين وتقلب الحقائق، وتسمى الأمور بغير مسمياتها فيصبح الذل مرونة ولباقة وكياسة.

وتصبح الهزيمة نصراً وشجاعة.

ويصبح الاستسلام للعدو فناً ومهارة.

ويصبح الأمين خائناً والخائن أميناً.

والغريب حقاً:

أن يستجدي الناس حريتهم من جلاديهم.

وأن يطلب الناس نصرهم من أعدائهم.

وأن يهون الناس على أنفسهم ويروا ذلك إيماناً وقدراً وقضاءً.

والحق كل الحق أن يثبت أهل الحق على حقهم ولا يضرهم كثرة الساقطين والهالكين، يعزمون عزمتهم ويمضون في الطريق لا يلتفتون إلى الوراء ولا يصغون لنعاق الجبناء، ويعلنون بلسان حالهم للناس أجمعين فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض. والله غالب على أمره ولكن أكثر الناس لا يعلمون.