أين الوطن
أين الوطن
محمد إقبال صالح
أين الوطن مجموعة من الذكريات كتبتها بالإنكليزية ثم ترجمتها إلى العربية ، أحببت أن أشارك أصدقائي بهذه الذكريات ؛ لعل هذا يكون بداية لحديث طويل عن الوطن ...
أذكر اليوم الذي غادرت فيه دمشق منذ خمسة وعشرين عاماً ، ملوحاً بجواز سفري للصديق الوحيد الذي جرؤ على توديعي في المطار.
كانت مغادرة سورية في تلك الأيام حلم الكثيرين ..
نشأت في بلدة صغيرة غربي دمشق على سفح جبل الشيخ حيث يسيل نهر صغير من عين في حضن الجبل تدعى رأس النبع ، كان النهر يسيل في واد أخضر خصب متفرعاً ساقياً بساتين الفواكه والخضار، المنتشرة على ضفتيه في مسيرة هادئة نقية .
على حافة جبل الشيخ كانت داري الجميلة ، مطلة على وادي النهر، النهر الذي قضيت معظم سنوات طفولتي مستمتعاً به والجمال البسيط من حوله ..
في بلدتنا الصغيرة كان كل شخص يعرف الآخر، وكل أسرة تعرف الأخرى ، عاشت الأسر في تلك الأرض من مئات السنين .
في زاوية من زوايا البلدة ما يزال هناك مبنى حجري قديم جميل فيه غرف كانت مخصصة لطلاب العلم والمرابطين ، ومسجد أثري فيه قبر الشيخ حسن الراعي حيث يأتي الناس للزيارة والتبرك ، هذا الشيخ هو جد أسرتنا الأكبر ويقال أنه مر من هنا منذ ثمانمئة سنة ، تاركاً خلفه أثراً طيباً ، أحبه الناس وقدروه ؛ إلى الآن ما زالت أراضي البلدة تحمل اسمه : وقف الشيخ حسن الراعي رحمه الله .
في ركن آخر من البلدة مسجد أنيق جميل يحمل اسم جدي لوادتي الشيخ العالم إبراهيم الغلاييني ؛ قضى كل حياته مفتياً وأماماً ، متبتلاً لخدمة الناس ، كان معروفاً بحرصه على حقوق الناس وجرأته في الحق ؛ وله قصص تروى في ذلك ، خاصة مع الاحتلال الفرنسي في ذلك الوقت .
كانت حياة البلدة مؤنسة متقاربة ، حيث يقضي الناس أمسياتهم أمام دورهم يتحادثون ، يتشاورون ويستغيب بعضهم بعضاً بنشوة بالغة ..
سمعت أن سكان البلدة في الماضي انقسموا إلى مجموعتين ؛ طائفة المشايخ وهم الأقدم في البلد والفلاحون القادمون الجدد ، وقد كان بين المجموعتين مشادات انتهت بالتصاهر والتقارب ، وأصبح ذلك كله ذكريات تروى للتفكه والعبرة ..
جدتي (المشهورة بأم أديب) كانت محوراً من محاور البلدة المعروفة : كان الناس يتوافدون إلى دارنا لرؤيتها صباح مساء ، للمشورة والنصيحو والعلاج : يأتون فرادى وجماعات : ابني مريض .. ابني ساخن .. أنا متألمة .. أشعر بالتعل والإعياء ، الصدر الظهر.. الأولاد ، الجيران زوجي والدي ..
كنت في الخامسة من عمري ، أفتح الباب للقادمين يروون حكاياتهم ، مستمتعاً متلهفاً لسماع نصائح جدتي مترقباً علاجاتها الناجعة غالباً .. لم تكن هنالك مواعيد ولا حسابات .. يأتي الناس متى شاؤوا حسب الحاجة وضرورتها ، كانت جدتي تفحص الحلوق والصدور والبطون والظهو، ممسدة مدلكة ناصحة آمرة ناهية : كانت تقتصر في علاجها وحوارها على النساء والأطفال ، نادراً ما كانت توافق على علاج صبي أو زوج بعد إلحاح الزوجة أو الوالدة ..
كنت أتابع بشغف نتائج العلاج وباقي القصص الممتعة المثيرة الحزينة المبكية المضحكة المفرحة .
نصائحها كانت دوماً واضحة مبسطة : أنت لا تأكلين الطعام المناسب ، أنت تأكلين الكثير، لا تأكلين الطعام الكافي، يلزمك شيء من هذا وشيء من هذا ، وصفة طبية من العشاب والحبوب ، لزقات وأشربة وأطعمة كل ذلك ويدها المدهونة بالزيت تدلك وتدلك البطون والصدور بعزم وسرور .
أحياناً بل كثيراً ما كانت تقول للمريضة :
ـ عودي ثانية لنتابع العلاج .
كانت حكيمة بمعنى الكلمة ، خبرت طبائع واحتياجات الناس ، أحياناً كانت تعد الوصفات بنفسها ، طاحنة خالطة صنوفاً من الأعشاب والزيوت لتقدمها في الأيام القادمة لمن يحتاجها ، دون ثمن سوى الدعاء المخلص والامتنان الخالص ، كنت أرى على وجهها المتعة الكاملة والسرور الواضح .
في بعض الأوقات كانت تقضي وقتاً طويلاً في النصيحة والموعظة : صبراً صبراً أيتها العزيزة يا ابنتي صبراً صبراً لابد للشدة من ازوال ، أنا موقنة بذلك .
كان يحلو لي دائماً مراقبة كؤوس الهواء ، تلك الكؤوس الزجاجية التي تحرق فيها أوراق صغيرة ثم توضع على الظهر وتترك حتى تقع من نفسها تاركة دائرة حمراء محتقنة على الظهور المتألمة .. كانت جلسة كؤوس الهواء جلسات خاصة رائعة : كان هدفها تخفيف احتقان الصدر وضيق التنفس ولعلها كانت مفيدة في ذلك .
أما تمسيد اللوزات الملتهبة فذلك قمة الإثارة .. يأتي الطفل أو أمه بصوت ضعيف وحلق متألم ، تأمره جدتي بفتح فمه على مصراعيه ، تنظر هنا وهناك : مم مم : لوزاتك محتقنات ملتهبات ، تذهب مسرعة فتغسل يديها بعناية ، ثم تقول : ائتني بالملح ، تغمس السبابة والوسطى بالملح ثم بسرعة مدهشة في الفم المفتوح المتألم : يد على الرأس للتثبيت ويد في الفم ، مدلكة تلك اللوزات المسكينة بفرح وشهية ووجه متقد .. ها الآن ستشعر بالراحة اذهب إلى الدار وعد صباحاً إذا احتاج الأمر؛ لحظات نجاح رائعة .. لقد تعلمت كثيراً من تلك السيدة الكريمة لعلها دفعتني لأن أكون طبيباً دون أن أشعر..
رأيت دموعاً كثيرة ، وسمعت ضحكات عالية ، رأيت الحياة بكل ما فيها في دارنا المضياف .
في أحوال نادرة جداً كان يمكن أن تقول : لا تفتح الباب ، أريد أن أكمل طعامي ، وحين يستمر القرع على الباب ، تقول : لا بأس لا بأس دعني أغسل يدي ، لم تكن تستطيع مغالبة رغبتها في الاجتماع بالناس ومساعدتهم ما استطاعت .
في الصباح الباكر كنت أصحو على صوت معزقها الحديدي الصغير كانت تدعوه " الغزّالة " استعملته لكل شيء : لحفر الأرض وتنظيفها وزراعتها ولتحويل مجرى الماء المتدفق في مجار صغيرة آتية من خزان صغير للماء يدعى " الحاووظ " .
كانت حديقتها دوماً مزهرة مخضرة ، ممتلئة بالخضار اللازمة للمائدة ، كانت تقول لي : خذ هذا لأمك : سلة قش مملوءة بالبندورة والخيار والقثاء ، خذها لأمك لتستعملها في المطبخ ، لفترة ليست بالقليلة ؛ ما ظننت أنا اشترينا خضراوات من أحد .
كانت لها معرفة بأنواع الخضراوات ومواعيد زراعتها وكيفية رعايتها . كانت رعايتها للحديقة امتداداً لرعايتها للناس ، كانت دوماً متلهفة للقيام بعمل مفيد . عاشت كل حياتها بيننا ؛ كان والدي ابنها الوحيد الذي توفي والده وهو ابن ستة أشهر، جاء زوجها " جدي " من سفره ، نظر إلى ابنه أديب قائلاً :
ـ اهتمي بابنك .
ثم استلقى مسلماً الروح إلى خالقها .
قررت جدتي بعد ذلك أن تتفرغ لرعاية ابنها الوحيد ، رفضت الزواج ثانية ، وتفرغت للعمل والرعاية ، عملت في حقول المشمش المجاورة بهمة عالية ، وبنفس الآن دفعت ابنها للعلم والتعلم والعمل.
كانت طفولتي هانئة بسيطة ، قضيت معظمها حول جدتي ، بجانب النهر مع أصدقائي من الجيران والأقرباء ، كانت والدتي مشغولة دوماً بالعناية بكل أفراد الأسرة من أكبرهم إلى أصغرهم ، كانت عنايتها خاصة بسلامتنا ، بنظافتنا ، دراستنا وصحتنا . كانت دوماً ناصحة مهذبة . كانت قائدة أمينة مخلصة حريصة طوال الوقت على راحتنا وسلامتنا ، من طفولتنا لشبابنا ، لكهولتنا .
عندما كنت أتأخر بالعودة إلى الدار كانت تقف على الشرفة المطلة على الوادي : يا محمد عد إلى البيت ، كانت تدري أن أسمعها وأني كنت سأعود مبتلاً كعادتي من النهر.. وخلسة أدخل من الباب الخلفي للحديقة حيث أجلس قليلاً محاولاً تنشيف حذائي وثيابي : كانت جدتي تراقبني قادماً ، فتقول ضاحكة تعال إلى هنا ، إنها ليست هنا (تعني والدتي) اجلس قليلاً لتنشف ثيابك ، لن أقول لها أنك هنا .كانت تحاول دائماً تخفيفق عقابي ما استطاعت ، وكانت تستمتع بهذه اللعبة مثلي تماماً .
بيتنا الذي انتقلنا إليه من " بيت الأسرة القديم في حي الأسرة الأصلي " بني متدرجاً حسب توفر المال والمساعدة ، خاصة من الأصدقاء المقربين للوالد (آل عرفة وآل عطية) الذين كانت تأتي مساعدتهم دوماً حريصة سهلة ..
كنت أراقب والدي وجدتي يسقيان الاسمنت العطش كل يوم خوفاً من تشققه في المستقبل ، وما زلت أذكر الأبواب الخشبية الطازجة تفتح وتغلق والباب الحديدي الكبير.. وأشجار الزيتون تزرع وعرائش العنب تنصب حول الدار.. كانت الدار الجديدة مليئة بالحياة والنشاط والعمل الدائم ..
صحوت يوماً لأرى الحائط الغربي نائماً على الأرض : وكلب الجيران الأسود " الذي كنت أخافه كثيراً " متربع في حديقتنا ، ركضت إلى والدي صائحاً : لقد وقع الحائط .. تبسم ضاحكاً : لا بأس سنبنيه ثانية .. وجاء الأصدقاء فبنوه ثانية بشكل أفضل . إنه الحائط الغربي الذي يتعرض لكثير من الرياح والزوابع القادمة من جبل الشيخ .
خلال سنة أصبحت الدار جميلة حديثة عامرة ، خاصة بعد اكتمال زرع الأشجار والنباتات من زيتون وعنب وتين ورمان .
كل الناس جاؤوا لؤية منزل (الشيخ أديب) ، كانت ضيوفنا لا تنقطع ، وكانت أياماً رائعة جميلة ..
كان زوّار والدي وأحبابه كثيرون ، كانت زياراتهم غالباً في المساء ، فيرحب بهم أيما ترحاب ، ثم يبدأ بالقراءة لهم في كتاب حديث أو تفسير، بعضهم أنصت مهتماً هازاً برأسه معجباً ، والآخر غطَّ في نوم عميق مسنداً رأسه إلى الجدار: لقد أنهكهم عمل يوم طويل في الأرض الصعبة البعيدة .. كان بعضهم يأتي على حصانه أو حماره ، طبعاً ، كان يحلو لي امتطاء هذه الحيوانات المرهقة المتعبة .. أحياناً كنت أقع عن ظهرها متألماً أو مخدوشاً ، مرة جرحت جرحاً عميقاً في يدي ، احتجت إلى الذهاب إلى دمشق طلباً لخياطة الجرح والعلاج مع ابن عمي " أبو الوفاء " . الرجل الطيب ..
تسألني والدتي كيف أتذكر كل هذا ، فقلت :
ـ وكيف للمء أن ينسى كل هذه الذكريات الجميلة ؟
ما زلت أذكر والدي في ليالي الشتاء الباردة : يجمع بعض الأعواد والحطب مع بعض من أغصان الزيتون لجلب الرائحة الزكية ، ليضعها في مدفأة الحطب الجميلة . كنت أصحبه داخلاً خارجاً متأملاً مستمتعاً .
مع مرور الوقت كبرت أشجار الزيتون والعنب والرمان ، وأصبحت ثمارها اللذيذة تكفينا والهل والجيران ، كان خيرها عميماً . سمعت أن شجر الزيتون والعنب ما يزال يعطي الكثير الذي يوزع على الجيران والأصحاب والأحباب .
مع مضي الوقت وكثرة الأصدقاء ودأب المدرسين المخلصين الأوفياء ؛ في السابعة من عمري ألحقت بالمدرسة الجديدة " ابن رشد " لم يرق لي ذلك في البداية ؛ ولولا أختي الكبرى وصبر والدتي لهربت راجعاً كل يوم إلى صديقي النهر شاكياً له النظام الممل المفاجئ الذي أقحمني فيه أولئك الكبار..
مع مضي الوقت وكثرة الأصدقاء ودأب المدرسين المخلصين الأوفياء ؛ أصبح الذهاب إلى المدرسة " راكضاً " متعة وغاية ورغبة ؛ خاصة حين تكون بعض النشاطات على ضفاف صديقي القديم قريباً من دارنا .. أحب كثير من أهل البلدة العلم والتدريس ، رجالاً ونساء ؛ معظمهم عمل في المدارس والجامعات والمستشفيات والمؤسسات ، أكثرهم كان لابد له من ركوب سيارات وباصات قديمة عتيقة مزدحمة للنزول إلى دمشق للعمل .
قلة هم الذين تابعوا مهنة الزراعة مع آبائهم ، مما اتعب الآباء المزارعين وأرهقهم ، أرض صعبة وقليل من الوسائل والعون . كان الفلاح يذوب في أرضه ليل نهار، قليل من النوم وكثير من التعب والصبر وإنتاج متواضع .. كنت أراقبهم عائدين من حقولهم مشاة أو راكبين على دوابهم (الغالية) البطيئة ، بعضهم ركب الحمار أو البغال ، قليلهم ركب الحصان النادر، و" حياة " البنت الصغيرة كانت تركب البقرة الحمراء الكبيرة العالية " فكأنها عصفور صغير على ظهر فيل كبير ".
كانوا يعودون محملين بالخضار والأعشاب والحطب ، تتبعهم بعض الغنام والخرفان المدللة المترهلة ، لا تدرك ما ينتظرها من مصير.
الفصول الأربعة في بلدتنا كانت متميزة ملونة ، كل فصل كان له طعمه الخاص : الصيف شهر الحصاد وقطف الثمار: القمح والخضار والفواكه والجوز والتين والرمان والعنب ، كل في آنه ومكانه : البعض في أوائل الصيف والاخر في أواخر الصيف ، أما الذرة فكانت احتفالاً دائماً لكل الناس : المشوي بخاصة ، كانت السهرات تقام على شرف رائحة شي الذرة : رائحة جميلة قوية ترحل أميالاً داعية الناس للمشاركة والاستئناس .
في موسم الحصاد كل الناس يشاركون في العمل من كبارهم لصغارهم ، رجالاً ونساءً وأطفالاً .. كثيرون كانوا يتطوعون للمساعدة . لقد كان احتفالاً جماهيرياً جميلاً . الليالي الصاخبة الناشطة كانت متعتي الخاصة ، حيث الرجال والأطفال يركبون دف الدراسة : وهو دف ثقيل يجره حمار أو حصان أو ثور يدور من حول كوم القمح الجاف مكسراً محولاً إلى قمح وتبن مرة ومرة حتى يختفي الكوم ويجمع في مكان آخر ليدخل في عملية أخرى ، عملية التنقية لفصل القمح الذهبي عن كل شيء آخر. ثم يأتي وقت الغسيل : كان الناس يأخذون قمحهم إلى جوار النهر ثم يصنعون أحواضاً خاصة في النهر، تصبح الأحواض كمصفاة كبيرة ، تؤدي إلى بطء جريان الماء : حيث يهدر القمح في الماء داخل الأحواض ويترك لينقى بماء النهر النظيف البارد ، ثم يجمع في أكياس كبيرة ، بعضها يؤخذ إلى الطاحون والآخر ينشر على أسطحة البيوت لينشف ثم يحول إلى برغل وفريكة .
كان قرب داري (مطحنة حليم) التي بنيت من سنين طويلة في حضن النهر الذي يصب خلال المطحنة من مكان عال مديراً رحاها الطاحنة مغادراً إياها رقراقاً سلسبيلاً مخلفاً وراءه غباراً أبيض براقاً يجمعه الناس في أكياس : الطحين ينتشر في أنحاء البلاد متحولاً إلى أساس الحياة في ديارنا : الخبز بكل أنواعه وأشكاله .
كنا ندخل المطحنة نراقب ذاك الحجر العظيم يدور في دأب يطحن ويطحن .. حجر الحياة الدائر..
أما حليم صاحب المطحنة فكان غالباً ما نراه برموش بيضاء وثياب بيضاء رائحاً غادياً يعد أكياس الطحين للناس المنتظرين بشغف .
كان آلا عطية يأتون بقمحهم النظيف المبتل فينشرونه على سطح دارنا الإسمنتي (القريب من النهر) ، كنت أراقبهم ينشرون القمح كذهب منثور يتلامع تحت عين الشمس متهيأ لجولة جديدة من العطاء دورة الحياة الكاملة من الحب إلى التراب إلى الماء إلى الشمس إلى المطحنة إلى المائدة وهكذا ..
نتاج الزراعة كان يعطى مجاناً لمعظم الناس ، لم يكن من المعتاد أن يبيع المزارع (الفلاح) شيئاً : كان يأخذ حاجته آكلاً أو مخزناً ثم معطياً جيرانه وأقاربه المحتاجين ، لم يكن هنالك ثمن معلوم لشيء : مقايضةٌ وأخذ وعطاء .. كرم بسيط سهل ، الهدف هو العيش الكريم .
لم تكن النقود هي المحرك والمسير للحياة ، بل الجهد الكثير والنتاج الغزير .
إن أراد المرء شراء شيء كان لابد من الذهاب إلى المدينة .. حتى الحليب كان غالباً ما يعطى مجاناً أو يباع بقروش قليلة ، أذكر أني كنت أذهب بوعائنا إلى دار عطية وأضعه ضمن عشرات من الأوعية المماثلة : تأتي الحاجة سلمى فتملأ الأوعية بالحليب ، ويتوافد الناس يأخذون أوعيتهم ، بعضهم دفع ثمناً ، بعضهم مشى واعداً بدفع الثمن فيما بعد ؛ كان الأمر بسيطاً جداً : ثقة وتعاون ..
شهور الخريف كانت صعبة ، الخريف هو موسم التعب ، موسم تجهيز الأرض الصلبة للبذور الهشة ، الأدوات كانت بدائية والمواد كانت محدودة ، الفلاح يعمل ليل نهار، ثم يجلس منتظراً مطر الشتاء ، إذا نزل المطر الكافي ظهر الزرع ونما وشبع الناس ، إن لم ينزل ، عانى الناس وجاعوا ، قمح قليل وخبز عالي الثمن ، الخبز هو روح كل طعام ..
الشتاء هو موسم الأمل والدعاء ، المطر الغزير يعطي وفرة القمح والشعير، هكذا دائرة الحياة تدور ويمضي الإنسان مجاهداً مكابداً .
المطر الغزير ربما صاحبه بعض الثلج ؛ علامات خيّرة لأرض تعيش على مواسم الخير، حيث تجري الينابيع والأنهر وترتوي الأرض وتسمن الأغنام والأبقار..
برد الشتاء كان محتملاً في بلدتنا ، كثير من الملابس الثقيلة ، وقليل من التدفئة المنزلية المتقلبة غير المضمونة .
الربيع شهر الجمال والدلال .. كل الجداول تتمختر في الدروب في كل مكان ، بلدتنا مشهورة بتعدد الينابيع الموسمية ، وكل له اسم خاص به : مثل : عين لاقيت ، وجب ربها ، وعين سلطان ، العين الفاترة ، وعين الطسة ، والتنور..
كانت نبع " جب ربها " أكبرها وأكثرها تدفقاً لكن كان أسرعها انقضاء وجفافاً ، كان يظهر مرة كل بضع سنين ، خاصة حين تكثر الثلوج في الجبال المجاورة .
كان نبع جب ربها يتحول إلى بحيرة كبيرة تطوف وتجري في جدول قوي يسير إلى آخر البلدة ، البحيرة تلك كانت مزاراً لكل الأسر في البلدة ، لم يكن أحد يمكث في داره في شهور الربيع .
كان الربيع نزهة طويلة صاخبة : حتى السباحة كانت متعة نادرة رغم برودة الجو .
في بعض السنين وخلال تراجع ماء البحيرات طفل ما يغرق عالقاً في وسط الماء المغادر والطين السميك .. وكأن ذلك الطفل كان قرباناً لذلك الاحتفال الموسمي ..
كانت حياة الأطفال في البلدة ممتعة بسيطة ، وخاصة في قطاع المزارعين والفلاحين ، كل يعرف الآخر وكل يحاول مساعدة الآخر بحكم القرب وتشابه الحياة والضرورات ..
وأظن هذا كان حال كل البلدان والقرى المتشابهة في بلادنا : لكن تغير الأحوال وقلة المال والمساعدة والأدوات دفعت بالكثيرين لهجر حقولهم والذهاب إلى المدينة للعمل في وظائف تكفل دخلاً دائماً دون خوف من شح المطر وجفاء الأرض .
حين بلغت الحادية عشرة كان لابد من الرحيل إلى المدينة الكبيرة دمشق ؛ لقد تعب والدي وتعبت الأسرة من طول الانتظار وصعوبة المواصلات ، أصبح لابد للأسرة من الرحيل قريباً إلى الجامعة وعمل والدي .
وصنع القرار وصحوت يوماً لأجد نفسي على درابزين بيت كبير أراقب صبية غرباء يلعبون كرة القدم في حواري بنايات عالية .. عالم جديد لصبي جديد .
في البداية عشت في حلم غريب .. النهر الصغير تحول إلى شارع إسفلتي متهالك ، الطاحونة الجميلة على التلة استبدلت بها مئات الشاحنات السريعة القبيحة .. والسهل الأخضر المترامي الأطراف استبدلت به حديقة متواضعة وسط الأبنية الإسمنتية تدعى (حديقة الثريا) كنا نتحلق نقف على سورها نراقبها ساحتها ، كمن يحلم بعالم آخر ..
أما الجبال الشاهقة وثلجها الجميل فقد استبدلت بها عمارات حديثة عالية متراصفة على جوانب الشارع العام ، أما قممها فكانت محلاة بالأقطاب (الهوائيات؟) التلفزيونية والغسيل الملون ..
الخيل والحمار والماعز تحولت إلى " عمال " عجاف ، تعمل طول النهار تجر وتحمل وتحلب في الحواري والأرصفة الضيقة .
عالم صاخب في مدينة كبيرة لصبي من بلدة بسيطة .. لا ركوب ولا حصاد ولا طحين .. هنالك دكان أبي مأمون ومحل البوظة ، كل شيء بثمن والمتعة دقائق معدوات تنقضي بانقضاء طعم السكر من اللسان المتلعثم بالطعم الجديد .
كنت في البداية مستغرباً كيف يرحل المرء عن دار بناها لبنة لبنة ، وزرع أشجارها واحدة واحدة ، سقاها يوماً بعد يوم ، وعندما بدأ يأكل ثمارها ، يرحل عنها ! ما هذا الذي يفعله أهل الأرض بأنفسهم .. أهو طلب الراحة أم طلب للتعقيد والانشغال وزيادة المسؤوليات ؟ كم حياة يعيشها المرء ؟ أليس لكلٍ ثوب يلبسه ، خلق له كما كانت تقول جدتي ؟ فلم الإرهاق والقلق والسعي لدنيا لن تتغير.. " طبعاً لم أفكر بكل هذا بهذا العمق حين كنت صغيراً " بل على الأقل كنت مستغرباً متسائلاً . لا أذكر كيف انتقلنا وكيف وصلنا .. كانت متعة التغيير تغلب على التفكير..
أما دارنا التي تركناها فقد قطعت وقسمت وأعدت لتكون مدرسة ابتدائية حكومية ، أما الحديقة فقد فصلت بجدار صغير عن باقي المنزل كي نستطيع زيارتها أحياناً ، كل ذلك قد حصل بسرعة غريبة : لقد صدر القرار ونفذ كما حال ديارنا في كل شيء .
أما جدتي فقد كانت آخر من ترك الدار.. كان ذلك صعباً على قلبها وعقلها لكنها كعادتها انتقلت مع ابنها الوحيد ، الابن الذي كان محور حياتها .
لقد تركت حديقتها اليانعة الخضراء وأحبابها من الناس الذين كانوا يستمدون منا النصيحة والدعاء .. كان ذلك محوراً آخر أمد حياتها بمعاني كثيرة خاصة ممتعة .
في المدينة وفي كل بيت مدني انتقلنا إليه بعد ذلك حاولت جدتي أن تكون مفيدة مشاركة في هموم ومسؤوليات الدار، من تنظيف وطبخ إلى العناية بأحواض الزرع البسيطة المتناثرة في الوجائب المحيطة بالدار، حاولت أن تتأقلم ما استطاعت ضاحكة مازحة باكية حزينة .. كانت ذكية خفيفة الدم عاطفية ، لعل كل الجدات يصبحن هكذا مع مر السنين وكثرة التجارب ، لكن جدتي كان لديها من ذلك الحظ الوافر، بالإضافة إلى همة عالية نادرة ..
حين غادَرَت المدرسة الحكومية دارنا ، حاولت جدتي العودة إلى الدار وقضت الشتاء لوحدها في معظم الوقت بوسائل محدودة ، لكنها استطاعت خلالها استعادة بعض ذكرياتها وعلاقاتها القديمة ، لكن بدون الابن والأحفاد ، لم تستطع الاستمرار وعادت إلى دمشق راضية مستسلمة .
بعد ذلك بدأ بريق عينيها يخبو قليلاً قليلاً ، وبدأت همتها تزول قليلاً قليلاً ، ومع ارتفاع ضغطها ووهن قلبها الكبير بدأت علامات الشيخوخة عليها ،كنت أسمعها تدعو مراراً وتكراراً : يا رب لا تثقل بي أرضاً ولا تكره بي عبداً ، سنة الرسول ثلاثة أيام .. آمين .
كانت تدعو دعاء طويلاً بعد الصلاة للوالد والأسرة ، كانت تقول : اللهم حبب به جميع خلقك ، وقد استجاب لها ربها بكل معنى الكلمة .
في ليلة من الليالي قال والدي : اذهب إلى جدتك لتشاركنا في طعام العشاء ، إنها لم تخرج من غرفتها طوال النهار، ذهبت إليها نائمة مستريحة مستغرقة ، لم تجبني تلك الجدة العظيمة ، كانت في طريقها إلى عالم آخر فسيح . في المستشفى قال الطبيب : دعوها : إنها مودعة ..
لقد عبرت إلى ربها في ثلاثة أيام هادئات ، وبكى الجميع أماً وجدة وامرأة عظيمة بسيطة ذكية حكيمة ، كانت لا تعرف القراءة والكتابة ، لكنها ربت رجلاً علم أقواماً كثيرة القراءة والكتابة والحكمة . بكاها والدي وحزن لفراقها بهدوء وطمأنينة عجيبة .. وحقق لها أمنيتها أن تدفن في جوار رسولها الحبيب ، النبي الأمي (صلى الله عليه وسلم) .
دمشق مدينة عريقة قديمة ، ترى فيها القديم القديم والحديث الحديث ، السير فيها يأخذك إلى عالم حوى تاريخ حضارات الأرض : تحس بالرومان ثم الأمويين ثم العثمانيين ثم الفرنسيين ثم علامات الحداثة المتفاوتة .
نهر بردى يقسم المدينة شطرين ثم يتفرع إلى مجار صغيرة في بيوتها القديمة ليجتمع وينتهي في غوطة دمشق : حقول من أشجار الفواكه العزيزة والخضرة النضرة ، هكذا كانت ، أما الآن فقد سمعت أن الغوطة تتحول إلى غابات من الاسمنت المتطاول ولاقطات المحطات الفضائية ، حقول مغبرّة من حياة معقدة مستهلِكة .
كقادمين جدد إلى دمشق ، عشنا في حي مكتظ بالأبنبية الرمادية المطلة على الشوارع المشغولة بسيارات عتيقة وباصات منتفخة بالناس .
والناس آتون رائحون من شققهم إلى الشوارع ، يبيعون ويشترون ويقومون ويقعدون : علامات البهجة بالحياة مخلوطة بعلامات القلق والكآبة والخوف ..
لم يكن هنالك حصاد ولا بيادر ولا سهول ولا جداول ، بل أكوام من الإسمنت وأنهار من السيارات وبيادر من الناس المنشغلة المتشاغلة .
في السنة الأولى كنت أقف على سور المنزل متأملاً مراقباً والصبية يلعبون كرة القدم في الشوارع الخطيرة ومداخل البنايات ، مع مرور الوقت تجرأت فنزلت إلى الشارع وانغمست في حياة المدينة ..
وبسرعة ، أصبح لديّ الكثير من الأصدقاء والأصحاب ، وأصبحت الحياة أكثر تعقيداً ومتعة ..
في عام 1967 بدأ الناس في بلادنا يعيرون الانتباه أكثر لما يجري حولهم : بدأت طائرات اليهود تحلق في سماء دمشق وهرع الناس إلى الجبال والملاجئ وبدأت الحرب المشهورة السريعة الفاصلة ؛ حيث لم يكن للناس أي دخل فيما يجري سوى سماع الأخبار الحكومية الجاهزة ..
بعد أيام قليلة بدأت وجوه جديدة تظهر في الأحياء والشوارع .. وبدأت صدقات العالم تتقاطر على البلاد : السردين والأجبان وما شابهها وكأنها كانت معدة مسبقاً لاستيعاب النازحين . بعد شهور وحين يئس الناس من العودة إلى ديارهم ، بدؤوا بالسكنى والاستقرار المتواضع في خشش صغيرة حول المدن ، وبدأ الجميع يبحث عن عمل ومصدر رزق . وهكذا بدأت حياة جديدة لبلدنا المسكين ، ازداد الفقر والزحام والركام .
الليالي في دمشق ليال تعج بالحياة وخاصة في حي الميدان ، حيث يتجمع الشباب صغارهم وكبارهم في مجموعات وشلل : كل له سهرته الأسبوعية أو ركن معروف قرب البيوت والنواصي : كانت تبدأ الجلسة بالحديث عن نتائج كرة القدم في البلد وفي العالم كله ، خاصة إنجلترا ، ثم يبدأ التشاكي والتأوه : صعوبات الحياة الخبز الزيت الباصات السيارات الغلاء ثم إلى أين ؟
كل يبحث عن مخرج ، كل له حلمه ، والحلم دوماً في بلد بعيد عن الدار بعيداً عن الوطن ، أكثرنا كان مقتنعاً أنه ليس لنا خيار سوى المغادرة ، وأن شؤون البلد ومصائبه ليس لنا ، ولا يحق لنا أن نخوض أو نتدخل بحلها : لقد تعلمنا أن نترك كل شيء للحكومة ..
مع مضي الوقت زيارتنا لبلدتنا أضحت تقل وتتباعد : تغير الناس وتغيرت النفوس : كل يبحث عن رزقه ونجاته ، كثيرون بدؤوا يتجسسون على أهاليهم وأقاربهم وجيرانهم لكسب العيش ، وعمت حالة من الخوف في كل مكان ، غابت الثقة والألفة وحل محلها الارتياب والتباعد .
في صباح باكر صحوت على صراخ والدتي ، قفزت من سريري لأرى رجالاً عبوسين يبحثون عن والدي في كل مكان ، وجدتي تصيح : ابحثوا في كل مكان ان ابني لا يختبئ إنه ليس هنا .
عاد والدي إلى البيت بعد أسابيع ، ذهب إلى عميد الكلية مستفسراً ، قال له :
ـ لم يعد يعجبهم ما تقوله في محاضراتك وخطبك .
بدأ والدي بعد ذلك يفكر جدياً بمغادرة البلد ، ثم فعهل وانتقل إلى جامعة عربية أخرى في مكان أكثر أماناً واستقراراً ؛ لقد أصبحت مهنة التدريس في بلدنا صعبة معقدة خطيرة .
إنهاء الدراسة الثانوية بعلامات عالية والالتحاق بالجامعة كان رغبة الكثيرين ، الطب ، فالهندسة ثم يأتي كل شيء آخر، كل التفكير هو العائد والاستقرار الاقتصادي : الأمل الأكبر والحلم الأعظم هو السفر إلى أمريكا أو أوروبا ؛ أرض العلم والمال والحرية ..
سنوات كلية الطب كانت عجيبة غريبة ملونة ؛ الصداقات الجديدة في عالم من التفاؤل والطموح والتأقلم والتبلور والتطلع إلى مستقبل أفضل .
الصداقات تأخذ أبعاداً جديدةً عميقة ؛ حيث يقضي المرء مع صديقه ساعات طويلة تتخالط فيها النفوس وتتناغم الأرواح وتتجانس الأهداف ؛ أصبحتُ في كلية الطب لأجد نفسي منغمساً بصداقات حميمة " الشلة " في جو من المرح يلفه الحذر والترقب كحال معظم الناس في تلك الأيام ..
حال انتهاء دراستي في الطب غادرت البلد ، أذكر حين حصولي على الفيزا من السفارة الأمريكية سألني الموظف هل ستعود إلى ديارك حين تنتهي من التحصيل ؟ قلت له مبتسماً : طبعاً لابد من ذلك ، فأجاني ضاحكاً : ما أظنك عائداً يا صديقي ؛ سترى بنفسك ، مع السلامة .. وقد علمت لماذا قال لي موظف السفارة الأمريكية ذلك ، علمت ذلك في اللحظة التي هبطت فيها طائرتي في بلدة صغيرة في نورث كارولاينا : الخضرة والنضرة والهدوء العجيب ، الشوارع النظيفة وعلامات الحرية .. طريقة الترحيب طريقة الكلام ، لا شكوك ولا خوف من رجل عن يمينك وآخر عن شمالك ينصت إلى حديثك .. الحرية تعطيك عقلاً جديداً ، لساناً جديداً ، قلباً جديداً ورئتين جديدتين ، يصبح للهواء طعم آخر..
من نورث كارولاينا إلى فلوريدا ، حيث قابلت زوجتي . من هناك إلى تنسي حيث التحقنا بجامعة صغيرة في بلدة هادئة جبلية جميلة . أبواب العلم فتحت لنا على مصارعيها : عالم جديد ؛ العمل الجاد يجازى بسخاء ، تسهيلات كثيرة وتشجيع مستمر. كنت وزوجتي من أوائل الذين التحقوا بتلك الجامعة الحكومية المزروعة في حضن جبال عالية خضراء . خلال شهور قليلة حصلت على منحة دراسية وأعفيت من الأقساط . كانوا يريدونني أن أنسجم مع نظامهم المريح .. وقد فعلت بسهولة ، لم يكن علي سوى العمل والدراسة الجادة .
عشت على قليل من المال وكثير من التفاؤل وأطنان من الرعاية والتشجيع ؛ وبسرعة ، بدأت ذكريات الوطن ومعاني المواطنة تتغير وتتبدل .
وقد قال الشاعر : وما حب الديار شغف قلبي = ولكن حبُّ من سكن الديارا
فكيف إذا أحب المرء الأرض وساكنيها معاً ؟ أتصبح الأرض الجديدة وطناً حقيقياً ؟
كان أكثر ما يزعجني في الوطن الجديد هو أحلامي الغريبة ، لمدة خمس سنين كنت أصحو من نومي هارباً أو مختبئاً من رجال الحكومة يحاولون منعي من السفر من وطني الأول ، أنظر حولي وأقول : الحمد لله أنني بعيد وآمن .
وأكثر ما كان يزعج زوجتي هو تكتمي على كل شيء ؛ أين كنت وأين أنا ذاهب : ليس من شأنك يا صديقتي ؛ وكأني ما زلت في قالب الوطن القديم ؛ قليل من الكلام وكثير من التكتم والتكهنات ، كانت زوجتي تقول :
ـ ما بك ؟ لماذا كل هذا الحذر؛ أنت لست في مسقط رأسك يا هذا .. أنت حر طليق ..
لم تكن تفهم كيف نفكر نحن أهل الشرق ؛ فهي لم تعش في أحضان حكوماتنا الرشيدة ولا أنظمتها العتيدة : بدءاً من بني عثمان ، انتهاء بسطوة القومية والاشتراكية .
تحسنت لغتي الإنجليزية وتبدلت لهجتي الشرقية بسرعة ، كانت زوجتي تقول لي دوماً :
ـ اللغة واللهجة الواضحة هي من مفاتيح النجاح في هذه الديار، وقد صدقت .
أصبحت أحاور وأناقش أصدقائي في " تنسي " براحة وانفتاح ، طبعاً ؛ أحاديث الدين والسياسة كانت تطغى على كل الأحاديث . كانوا متطلعين ليعرفوا من أنا ، وكنت متعطشاً لإخبارهم من أكون ، ومن أين أتيت وما ديني وما عاداتي وتقاليدي ، والعجيب أنه على الرغم من كل ما كنت أجد في دياري من عناء كنت ما زلت فخوراً بما عندي حريصاً على إظهار جوانب الخير والحضارة ، رغم أن الحديث كان دوماً يقود إلى طريق مسدود : لماذا أتيت إلى هنا إذاً ؟ ؟
مرة ، استدارت نحوس مساعدتي في المختبر، بحجمها الكبير الضخم وقالت :
ـ أيتها الروح المسكينة ، شاب مثلك لا يدخل الجنة ؟
قلت : ولماذا ؟
قالت : هكذا يقولون في الكنيسة وتشعب الحديث وتعقد وقررنا في النهاية أن ندع الحديث لرب الأحاديث والنهايات .
عشنا على قليل من المال ، حياة بسيطة متفائلة ، لعلها كانت من أجمل أجمل أيام حياتي (بعد الطفولة) كن كل شيء في متناول اليد : الجمال والعلم والحرية ؛ حين تقدمت لخطبة زوجتي قلت لها أنني أفكر بالعودة إلى الديار بعد حصولي على الدكتوراه لأعمل في الجامعة وأقترب من عائلتي ؛ عندما اقتربت من انتهاء دراستي للدكتوراه نظرت إليّ زوجتي العزيزة ضاحكة :
ـ هل ما زلت مصمماً على العودة إلى الديار .
وكأنها كانت تعرف الجواب ، قلت لها دعينا نحصل على شهادة أخرى .دعيني أتابع اختصاصي أولاً ثم نرى ما يحصل .
وما زالت تسألني إلى الآن ذلك السؤال المحير؛ لا جواب واضح ولا حل مريح نهائي ؛ ما زلت الاستسلام للوطن الجديد ..
مشرف الدكتوراه كان رجلاً كاثوليكياً مؤدباً ، لديه امرأة متبتلة وعشرة أولاد أصحاء ، لقد تعلمت منه الكثير علماً وأدباً ونظاماً ، علمني كيف يتصرف ويفكر متحضرو تلك الديار. كان نقاشاً سهلاً وجدلنا محترماً . كان كثيراً ما يقول لي :
ـ ستكون بخير ستكون بخير . تابع ما أنت عليه .
لقد علم بخبرته أن حرصي على العلم والنجاح هو فائدة له وللجامعة والبلاد عموماً ؛ في بلاد الغرب الحسابات مدروسة معروفة : في النهاية نجاحك هو فوائد للجميع ؛ اقتصاداً وقوة .. كنت أقضي مع الشرف ساعات طويلة ، نذبح ونشرح أدمغة الفئران المسكينة ، باحثين عن شيء ما ، طوال كل ذلك الوقت لم نتطرق أبداً لبحث أمور الدين أو السياسة ؛ رغم تحمسي لذلك ؛ لكنه كان حريصاً على عكس ذلك : احترام متبادل وحدود واضحة .
وانتقلنا إلى فلوريدا لإنهاء الاختصاص والاستقرار، قريباً من الأهل والأصحاب ، افتتحت عيادتي الخاصة في مدينة صغيرة خليط من الفلاحين والمتقاعدين ، من أوائل مرضاي كان رجل شديد ضخم ، قال لي :
ـ ماذا تفعل هنا بيننا ؟
قلت له :
ـ هل أنت (بابتيست) وهم فئة من متشددي النصارى ؟
قال :
ـ وكيف عرفت ؟
قلت :
ـ لي أصدقاء مثلك كثيرون ..
وانتهت الزيارة على خير. ثم أصبحنا أصدقاء إلى حد ما ، خاصة حين زارني في مزرعتي المتواضعة ورأى أن عندي خيولاً وأبقاراً ، قال مستغرباً :
ـ ظننت أنكم أنتم الأطباء الغرباء تسكنون في مجمعات سكنية أنيقة محروسة .
قلت :
ـ لا أحب ذلك ، إنني فلاح مثلك ، لعلني العربي الوحيد (ذو الرقبة الحمراء) في هذه المنطقة .
قال ضاحكاً :
ـ لا ، لا.. ربما كنت السوري الوحيد راعي البقر، أما أن تكون من ذوي الرقبة الحمراء ، فهذا أمر يحتاج إلى زمن طويل ..
عشت وأسرتي في فلوريدا حلم الشباب : الطب والنجاح والمال والأصحاب كنت دوماً أقول لصبيتي : أبواب الفرص مفتوحة على مصراعيها في هذه البلاد لمن شاء أن يُجهد نفسه ولو قليلاً ..
في الأعوام الأولى من قدومي أمريكا استهواني مسلسل كوميدي كان يقدم له أغنية لطيفة تقول :
أريد الذهاب إلى المكان الذي يعرف فيه الناس اسمي ، أريد الذهاب إلى المكان الذي يُسر فيه الناس برؤيتي ..
بدأت بالتدريج أحس بهذا المعنى ، المرضى ، المشفى ، الجيران ، المحال التجارية والمطاعم ، أصبح الناس يميزوننا ويسلمون علينا بالاسم . بدأ المرء يشعر بالانتماء والاطمئنان للوطن الجديد .. خاصة عندما بدأ زملائي وجيراني ينادونني باسمي الأول : محمد كيف حالك اليوم .. شيء ممتع ومريح ، وبسرعة عجيبة أصبح لنا مجتمعنا الخاص الذي غصنا في خدمته وتطويره خاصة في مجالات العلم والبناء ؛ أصبح للحياة معنى خاصاً ، المساهمة في بناء مجتمع الخير فخر وهبة من خالق الأوطان والإنسان ..
أولادي عاشوا حياة سهلة ميسرة ، لم يعرفوا وطناً آخر، كان حديثي عن طفولتي ومسقط رأسي لا يعني الكثير لهم رغم محاولاتي المؤدبة في المسايرة .. كان وطنهم هو دارهم وأصدقائهم ودينهم وأسرتهم بتاريخها وتلاحمها وطموحاتها ..
مرةً ، أريتهم بعض الصور القديمة والفيديو لبلدي ونهرها وشجرها ، ظهر كل ذلك خيالاً غريباً متهالكاً قديماً ، كانت نظرتهم إليّ نظرات مستغربة مشفقة قائلة : أهذا الذي ما زلت تذكره وتحلم به ..
آه أيها الوطن ؛ لعلك ذكريات الطفولة التي ترى كل شيء جميلاً وحبيباً ، لعلك البراءة والنقاء ، لعل الوطن هو الطفولة في أي مكان ..
وأخيراً تجرأنا وأخذنا الأولاد إلى مصر، عالم جديد قديم ، وزحام شديد ، وأقوام من اللطف والبساطة والرضى في أحضان الأهرامات والمآذن والنيل الجميل ..
في المطار سألني الموظف مقلباً جوازي الأمريكي :
ـ يا محمد هل تتكلم العربية ؟
قلت :
ـ طبعاً .
قال :
ـ قف على جنب لو سمحت .
بعد خمس دقائق طويلة عاد رجل عبوس :
ـ متأسفون ، لخبطة بالأسماء لا أكثر .
وهرعنا عائدين إلى فلوريدا الوطن الجديد .
وصل والديِّ زوجتي إلى فلوريدا في أوائل الستينات كعادة كل المتفوقين في بلادنا ، جاؤوا لتحصيل العلم والعمل والسلامة ، وأصبح والدها من خيرة الجراحين ومن دعاة العلم والخير في وطنه الجديد ..
نشأت زوجتي في دار حافلة بالعمل والعلم وخدمة الناس القادمين من أنحاء العالم ؛ كان ذلك وطنها ؛ لم تعرف زوجتي (كما أولادها) عالماً آخر.. كانت علاقتها بمصر علاقة بالأهل ، دون ذكريات وآمال وأحلام وآلام ؛ لم يعكر صفو تفكيرها هذه الحيرة بين هنا وهناك .. لقد تابعت بجد ما بدأه والديها : خدمة الناس دون كلل أو ملل ؛ لقد أفادت هذه البلاد الغربية الحصيفة الكثير الكثير من همة هؤلاء القوم القادمين المتبتلين لبناء حضارة أصيلة ضمن حضارة مادية غريبة ..
مع مرور الوقت أصبح العالم كله مختلطاً متشابكاً .. والوطن أضحى في كل مكان ، غريب معقد .
لا أنسى والدي المجتهد الدؤوب الذي حفظ كل أسئلة امتحان المطلوبة للتجنس ونجح نجاحاً ملحوظاً ؛ صافحه الرجل الفاحص :
ـ نحن نرحب برجال من أمثالك ، أهلاً بك في بلدك ..
قال لي والدي بعد نجاحه :
ـ الدول القوية الناجحة المتحضرة هي التي تحترم الإنسان وترعاه وتتبناه ؛ ولعله شعر بشيء من هذا في هذه الأرض البعيدة ..
مع مضي الوقت الأسر تكبر، الأطفال أصبحوا رجالاً وآبائاً ، الرجال أصبحوا كهولاً وأجداداً ، كل شيء علاه البياض ، وظهرت تحت العيون آثار السنين ؛ وفجأة يصبح السؤال عن المثوى توأماً للحديث عن الوطن ..
الأيام تمضي بالأعمار إلى نقطة النهاية المكتوبة .
بدأت أفكر جدياً بزيارة دمشق ، قررت أن أحتفل بعيد ميلادي الخمسين فيها ، لقد قضيت الآن نصف عمري بعيداً عنها ..
اتصلت واستشرت ؛ الإجابات كانت ملونة متفاوتة ، لكن أوضحها كان : إن أتيت ، لن تجد ما تذكره مما تظنه وطناً ؛ ضاقت الشوارع بالناس أكثر، البنايات الرمادية ما تزال كما هي ، والناس كثر فيهم الهرج والمرج والاكتئاب و الحكومة كما هي .. حافظ على ذكرياتك الجميلة يا صديقي العزيز وانتظر، أو أقبل إلينا واقبل بما عندنا ..
ولأمر أراده الله ، وقبل شهر من عيد ميلادي الخمسين ، فوجئت بأصعب امتحان في حياتي : جئت إلى الدار من العمل لأجد سيارات الإسعاف أمام داري ، علمت أنه ابني الصغير المدلل يوسف .. قالوا لي لقد وجدناه في قعر حوض السباحة ، كان لا يتجاوز الرابعة والنصف من العمر؛ كان يعشعش في قلبي ويجري حبه في دمي .
غادرنا يوسف كما جاء ، سهلاً خفيفاً لطيفاً .. أخذوه إلى نفس المشفى الذي ولد فيها ، فارقنا إلى عالم ربه الكريم ، ودفناه في مقبرة خاصة بجاليتنا ، بين رجل مسن عن شماله وامرأة مسنة عن يمينه ، كلاهما معروف بالصلاح . بعد شهرين من ذلك دفنت امرأة صالحة بجواره ؛ رحمها الله كانت تحبنا ونحبها ؛ قالت لي زوجتي :
ـ لقد شعرت بارتياح عظيم بعد دفن أم حسام قرب يوسف ..
كان حفل وداع يوسف كعيد حافل : جاء الناس من كل مكان ، بكوا في وداعه أحزانهم وآلامهم ، وما أكثرها على هذه الأرض .
أما نحن ـ الوالدين والأخوة ـ فقد عدنا إلى الدار الخالية من يوسف ، بدلنا الله به الرضى والرحمة والثواب .
فأين الوطن تراه ؟
أهو مكان ولادة الآباء ومدفن الأجداد ؟ أم مكان ولادة الأولاد ومدفن الأحباب ؟ أم هي تلك البقعة الصغيرة من التراب التي يواري فيها المرء قريباً من أحبابه في أي مكان من هذه الأرض الغريبة ؛ وجود حبه في قلبك تحت الثرى في أرض ما ، يربطك بها ربطاً عجيباً ، تحس أن لك جذوراً حقيقية فيها ، جذوراً حية متصلة بخالقها . لعل الوطن بقعة من أرض الله ، يشعر المرء فيها بشيء من الأمان والاطمئنان ؛ مفيداً للناس ، مساهماً في خدمتهم ، مشاركاً في بناء مدارسهم ومعاهدهم ، محاطاً بأصدقاء وأحباب وجيران يساعدونه على فعل الخير وينادونه باسمه الأول بمودة ومحبة ..
تُراه ، هل بقي شيء من هذا على كوكبنا القديم ؟ ؟..