لماذا نكتب
الكتابة... لماذا وبأي هدف؟
سري سمور/ جنين ـ فلسطين المحتلة
[email protected]
قريباً إن شاء الله... هكذا كنتُ أُجيب من يسألني عن موعد عودتي للكتابة بعد أن
مَنَّ الله عليَّ بالفرج وخرجت من السجون الإسرائيلية قبل أكثر من شهر... ولكن ماذا
تعني كلمة "قريباً" أصلاً؟ وهل امتناعي عن الكتابة كان فقط بسبب الانشغال طوال
الفترة الماضية؟ لا شك بأن الانشغال كان كبيراً، ولكنه ليس السبب الوحيد الذي جعلني
أُحجم عن الكتابة طوال الفترة الماضية.
السبب الحقيقي كان التفكير بفائدة الكتابة، وما الهدف منها... لدرجة أنني فكرت
بكتابة رسالة مفتوحة لجميع الكُتاب أياً كانت خلفياتهم الأيديولوجية وآراؤهم
وفلسفاتهم، مفادها أن توقفوا عن الكتابة؛ بحيث تكون تلك الرسالة هي الوداع و«قسيمة
الطلاق» بيني وبين الكتابة بغض النظر عن عدد الذين سيقبلون نصيحتي من الكتبة أو
الكُتّاب ـ لا أدري أيهما أصح ـ أصلاً، مع توقع أن العدد سيكون أكبر من واحد سالب!
لكنني لم أفعل وها أنا ذا أعود من جديد... ولكن ما الذي دفعني للتفكير بلا جدوى
الكتابة؟
لماذا وما الهدف؟ هذا هو السؤال المركزي الذي أرّقني...
تكتب بهدف وصف واقع معين أو حالة؛ حسناً، في عصرنا هناك
وسائل أفضل وأكثر فاعلية من الكتابة لوصف أي واقع، لا سيما الوسائل المرئية، وأنا
شخصياً كتبت قبل سنوات بعد نشر صور جرائم الأمريكان في سجون العراق بأن خطيب العرب
الشهير "سحبان الوائلي" لو كان بين ظهرانينا لترك الخطابة وحمل الكاميرا... الصور
الساكنة أو المتحركة تُغنينا عن وصف أي واقع... ولا حاجة "لامرئ القيس" لو كان في
عصرنا أن يتفنن بأشعاره ليصف لنا جواده:
مكرٍ مفرٍ مقبلٍ مدبرٍ معاً *** كجلمودِ صخرٍ حطّه السيلُ من علٍ
كان يكفيه أن يمتطي حصانه ويطلب من صديق أو مصور محترف أو مبتدئ تصويره بكاميرا
رقمية... فالصورة تُغني عن الكلمة، والأهم أن الصورة تتحدث عن نفسها أما الكلمات
المكتوبة التي تصف أي شيء فهي خاضعة أولاً وآخراً لنظرة وفكر كاتبها.
تكتب لإصلاح خللٍ أو تنبيه من خطر أو نصيحة أو اقتراح؛
وهل نجح كاتبٌ في ذلك، اللهم إلا حالات معدودة ولظروف خاصة؛ فكتابات الكُتّاب وما
أسالوه من مدادٍ لم تُفلح في تحسين ظروف الناس، فلا هي أطعمت جائعاً، ولا كست
عُرياناً، ولا حررت وطناً، ولا أعادت مجدا ضائعاً، ولا جمعت شملاً، ولا وحّدت
متفرقاً، ولا ردعت مذنباً، ولا...! واستحضرت كلمات قالها لي صديق كان له مع الفن
والغناء قصة؛ غنّى لفلسطين وغنّى للأم وللطفل المعاق وللحب والجمال، وبصوته وأوتار
عوده كان قادراً على أن يُبكيني ويُبكي غيري، ثم ترك الفن، إلا في جلسات مغلقة
وخاصة وبأقل القليل، بعد أن أصدر شريطاً أو أكثر وبُثت أغانيه على عدة شاشات ومحطات
إذاعية، ولاقى تشجيعاً على الاستمرار، وكنت من ضمن من سألوه عن سبب زهده في الفن
بعدما وصل مرحلة لا بأس بها ففأجابني: كما تعلم أنا لا أحترف الفن، وقد كان الفن
رسالة بالنسبة لي ولكن يا "سري" حتى القرآن لا يُغيّر ما نحن فيه، رغم أننا جميعاً
إما نقرأ أو نحفظ القرآن أو نحتفظ بنسخٍ من المصحف في بيوتنا وهو كلام الله وكتابه
العزيز، فما بالك بالفن؟
رفضت فكرته وشجعته على الاستمرار، ورفض نُصحي وتشجيعي، لأجد نفسي أتمعن في كلماته
بعد سنوات؛ فعلاً إذا كان كتاب الله الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه،
الواضح البيان المحكم البنيان المحمي من الزيادة والنقصان، لم يعد يتفاعل مع
حياتنا، وإن كان كثير أو بعض منا يخشع لقراءته وسماعه، ويُغير ما في أنفسنا، فما
حال جملة البشر التي يستولي النقص عليها في جميع الأحوال؟!
تكتب لنيل شهرة أو لاكتساب مجد شخصي أو مغنم؛ هذا أيضاً، رغم
ما فيه من عيب وخلل، يُحبذ البحث عنه في غير ما يخطه القلم، فأيهم أكثر شهرة صاحب
القلم أم غيره من أصحاب صناعات أخرى كالغناء والرقص والتجارة و...؟ لعل آخر صناعة
تصنع مجداً شخصياً هي الكتابة، خاصة في عصرنا، وربما العصر الذي يليه!
كانت هذه الأفكار تتقاذفني حتى توقفت عند الآية الكريمة: «اقرأ باسم ربك الذي خلق»،
وهي كما نعلم أول ما نزل من القرآن الكريم، وقادني تأملي للآية إلى أن مسيرة العلم
والتعلم كانت لتتوقف لو أن كل من يكتب فكر بطريقتي أعلاه عبر القرون، وحين تأملت
آيات أخرى في سورة "العلق" «اقرأ وربك الأكرم، الذي علّم بالقلم، علم الإنسان ما لم
يعلم» وراجعت عدة كتب للتفسير أو الخواطر حول هذه الآيات البينات، علمت أنني كنت
على خطأ، فالله سبحانه وتعالى، يأتي على ذكر القلم كآلة التعليم الأساسية والأولى،
إظهاراً لأهمية القلم ودوره، وجاء في الأثر أن أول ما خلق الله هو القلم.
بل إن الله سبحانه وتعالى جعل سورة باسم "القلم" «نون والقلم وما يسطرون» يُقسم
الله عز وجل بالقلم، بغض النظر عما ذهب إليه أهل العلم
والتفسير حول ماهية القلم في الآية، إلا أن المؤكد أن للقلم مكانة وأهمية عظيمة،
يُنبهنا الله تعالى إليها.
الكتابة مهمة، ولا غنى عنها، ولا داعي أن يشعر الكُتّاب باليأس، فهذا يتنافى مع نهج
الأنبياء، على اعتبار أن الكاتب يحمل رسالة قبل أي اعتبار، وللكلمة أهميتها رغم
انتشار التكنولوجيا الحديثة، وعزوف الناس ـ عموماً ـ عن القراءة والكتابة، ولعل
القلم يُضمد جرحاً إذا لم يُشفِ سقماً، أو يرسم بسمة إذا لم يصنع فرحاً... لنكتب أو
لنحاول أن نكتب، والله الموفق، ولكل مجتهد نصيب.