سبعون عاما في حضن اللغة العربية 12

سبعون عاما في حضن اللغة العربية

الحلقة الثانية عشرة

مع الإخوة الطلاب

أ.د/ جابر قميحة

[email protected]

 إذا ذكرت دار العلوم وخصوصا ابتداء من الخمسينيات قفز إلى ذهني الإخوان المسلمون ...

فهي كلية الإخوان من أحفاد حسن البنا والسائرين على دربه ، وللحق كان أغلب طلاب الكلية من الإخوان ومحبيهم . ولا يتسع المجال لأن أتحدث عنهم جميعا ؛ لذلك أنا مضطر أن أحكم مبدأ " الانتقاء " . فمن هؤلاء الطلاب :

 محمد حسنين الشاعر ابن " نزلة السمان بالهرم " ، وكان هو مسئول الإخوان الأول ... كان شخصا متزنا ، وقورا ، قليل الكلام ، خفيض الصوت ، يدير أمور طلاب الإخوان بحكمة وأناة . ومن الطلاب حسين الترساوي ، وكان نموذجا للإخلاص والنشاط . ومنهم أحمد فراج .

 وكنا خمسة طلاب كأنما أنجبهم أب واحد في سنة واحدة : رزق قمح ( ابن أبو حمص بالبحيرة ) ، وفاروق عبد الحليم ( ابن حي الكحكيين في الغورية ) : ومحمد سليمة ، ومصطفى نظيم . ونحن الخمسة ولدنا سنة 1934 ، أو قريبا جدا منها ، وجمعتنا ملامح نفسية واحدة ، فكنا كأسرة صغيرة داخل أسرة كبيرة هي أسرة الإخوان المسلمين . ولكن الأخ مصطفى نظيم كان حاد المزاج ، قوي المعارضة ، يعترض على أي شيء لا يعجبه من أمور الكلية ، وله معارك معروفة مع بعض الأساتذة لأسباب صغيرة .

 وممن أعتز بهم وبصحبتهم وأخوتهم الأخ عبد اللطيف عامر ، وقد اعتقل مدة كبيرة وهو يكبرنا في السن بقرابة أربع سنوات ، وكان نموذجا للإيمان والإخلاص للدعوة ، كما كان أديبا ، ينظم الشعر أحيانا ، وله قصائد سياسية بارعة .

 اختارني الإخوة لإلقاء درس الثلاثاء كل أسبوع في الكلية ، ولكن لم ينفذ هذا القرار لأسباب أمنية .

**********

 كنا في السنة الأولى ، وأعرف من طلاب السنة النهائية الإخوة : عبد الفتاح حجازي ، وطه قورة ، وسالم الرواشدي ، وأحمد الشاعر ، وفوزي فارس ، وعبد اللطيف دحروج ، وأحمد عبد المطلب فودة ، وكان محدثا وخطيبا بارعا ، وكذلك الأخ عبد الصابور شاهين الذي اعتقل مدة ، وكان خطيبا مفوها ، وقد جمع بين دار العلوم ، والليسانس في اللغة الفرنسية،التي أتقنها كأنه أحد أبنائها .

 وفي المسكن جاءت إقامتي مع الأخ عبد الفتاع حجازي في شقة بحارة نافع حيث أول مركز عام للإخوان المسلمين بالقاهرة. والحارة متفرعة من حارة عبد الله بك ، المتفرعة من شارع الغورية ، وهو يؤدي إلى حي الدرَّاسة (بتشديد الراء) ، حيث الأزهر ومسجد الحسين .

 ولا أنسى الأخ المسلم سعيد عبده إسماعيل ( ابن ميت فارس دقهلية ) وهو من أسرة يضرب بها المثل في الكرم والأريحية والشهامة ، كنت أسبقه في الكلية بعامين وفوجئنا بهذا الطالب يلتحق بالكلية وكان مصرا على الالتزام بالزي الأزهري . وتحدى إدارة الكلية فأصر على هذا الزي ، وأخيرا أقنعه الإخوة بارتداء الزي المدني . وبعدها بأشهر أجريت له عملية جراحية ، فتوفاه الله . ندعو الله أن يدخِلْه مُدْخَلَ صِدْقٍ وَيخْرِجْه مُخْرَجَ صِدْقٍ ، وينزله فسيج جناته .

 ومن خيرة الطلبة الإخوان الأخ : عثمان عيد وكان مصارعا ، وقد قبض عليه ، وكان واحدا من شهداء سجن طرة فيما يسمى بمذبحة " طرة " التى قتل رجال الأمن فيها برشاشتهم عشرات من الأبرياء .

**********

 ومن طلاب الإخوان " الأدعياء " الطالب ( .... .... ) الذي ظهرت عليه أثار النعمة ، " والزي النظيف الأنيق ، والسبب أنه كان يجمع معونات مالية من الإخوان ، وأنصارهم ، مدعيا أنها لأسر المعتقلين . التقيت بالأستاذ محمد حسانين الشاعر : مسئول طلاب الإخوان بالكلية وشرحت له جريمة هذا الطالب . فكان جوابه في هدوء :

 يا أخ جابر : حفاظا على سلامة الإخوان والدعوة في الكلية نتركه لله ، وسينتقم الله منه ، ورأينا بعيوننا كيف انتقم الله منه انتقاما شديدا .

 **********

 ومن الطلاب العرب كان معنا من الأردن الطالب " زكي التل " شقيق القائد العسكري المسلم عبد الله التل " . وكان زكي هادئا ، قليل الكلام ، بشوش الوجه .

 وكان معنا كذلك الطالب الفلسطيني عبد الله شبيب ، وكان خفيفا نحيلا ، ينظم الشعر ، ويعتز بشاعريته إلى أقصى حدود الاعتزاز ، حتى إنه قال ذات يوم " إن في يدي أن أنظم من الشعر ما يدك عروشا ، ويصرع حكاما " ، وكنا نستمع لبعض قصائده وهي ذات مستوى جيد .

 ومن الطرائف أنه كان من زملائنا طالب يمني اسمه " .... المقبل " ، وكنا دائما نضاحكه ببيت عمر الخيام :

غد بظهر الغيب واليوم لي      وكم يخيب الظن في المقبل

وأذكر في هذا السياق أننا كونا جماعة الترجمة والأدب الإنجليزي ، وكان يشرف عليها الدكتور تمام حسان الذي أفادنا كثيرا بخبرته وعلمه ، وكلفنا بترجمة كتاب عن الإسلام من الإنجليزية إلى العربية .

**********

 ومن ذكرتهم هم عدد من طلاب الإخوان ، ولكن هناك طرائف مسلية صدرت من آخرين ومن هؤلاء الطالب المتشاعر " مرزوق " ، واستطاع بعض الإخوة " العفاريت " أن يشعلوا الموقف بينه وبين الأستاذ جمال ، وهو مدرس من مدرسي اللغة الإنجليزية ، كان يشرح لنا من المقرر رواية للكاتب الساخر..جورج برنارد شو (Arms and the man ( . وكان الأستاذ جمال ينطلق في إنجليزيته بلا توقف ، وليس هناك مذكرات تطبع ليسجل فيها الأستاذ عطاءه المطلوب ، وكان الطالب مرزوق يطلب منه دائما أن يطبع مذكرات ، وزاد شحن العفاريت لمرزوق وقالوا له إن الأستاذ لن ينفذ ما تطلب إلا إذا أثبت له أنك شاعر ... فيك شاعرية أصيلة .

 ونجح المخطط : ففي أول المحاضرة وقف مرزوق يقول بحدة : " إطبع مذكرات يا أستاذ جمال ... بقولك اطبع مذكرات ... " . فغضب الرجل وأشار إليه بيده : أن اجلس ، ثم رفع صوته بقولك اجلس . وهنا اندفع مرزوق ليقول بصوت متشنج :

لا عيب في مرزوق إلا أنه          قاض قضى بالعدل والإحسان

فاطبع  كلاما يا جمال  فإنه          يحلو  لنا ... يحلو  لنا كالزاد

 وغضب الأستاذ وترك المحاضرة ، وشددنا على يد مرزوق ، وأخذ الطلاب يشيدون بشعره وشاعريته ، مع أن ما قاله لا هو بالشعر ، ولا هو بالنثر ، ولا هو بقول عاقل .

 ومن المواقف الطريفة كذلك أننا كنا سنؤدي الآمتحان التحريري في مادة النحو ، فقال لي أنا ضعيف جدا في النحو وأرجو أن تساعدني . فأجبته إنني ما تعودت في حياتي أن أغش في الامتحان ، أو أمكن أحدا من أن يغش بنقل إجابتي إليه . فأخذ الطالب يستعطفني ويقول أنا لا أطلب منك إلا أن تترك ورقتك مفتوحة وأنت تكتب ، وكذلك وأنت تراجع .

 فوافقت الطالب على مضض فكان يركز عينه اليمنى على ورقتي ، وأنا مطمئن إلى أنه لن يستطيع أن يلتقط منها شيئا ؛ لأن بيني وبينه قرابة متر ونصف ، وهو الطريق الذي يفصل بين الصفوف . وفي اليوم التالي حضر صاحبنا إلى الكلية وعينه اليمنى متورمة إلى حد الانغلاق . فتركته وفررت بعيدا لأني لم أملك نفسي من الضحك .

 **********

 وكنا نحن طلاب الإخوان بكلية دار العلوم نحضر المؤتمرات التى تقام في جامعة القاهرة ، وجامعة عين شمس ، ويحضرها عشرات الآلوف من الإخوان .

 ومن هذه المؤتمرات : المؤتمر الذي أقيم في جامعة القاهرة ، وحضره " نواب صفوي " الإيراني ... زعيم جماعة " فدائيان إسلام " وكان يتحدث بالعربية المكسرة وأشهد أنه قال يومها : " إنني مسلم ، وقد رصدت للإسلام ذرات دمائي ، ونور عيوني ... الخ " .

 وفجأة اقتحمت الجامعة سيارة جيب وفيها عدد من الطلاب يرفعون " الكرابيج " ، وقائدهم ضابط من ضباط الجيش اسمه " كامل يعقوب " . وحاولوا إفساد المؤتمر ، فأثاروا بذلك نفوس الإخوان ؛ فهجموا عليهم وضربوهم ضربا مبرحا دفع قائدهم إلى إطلاق بعض الرصاص من مسدسه ، مما دفع الإخوان على القسوة عليه أكثر من غيره ، ووقف حسن دوح يقول في خطبته : عفوا عفوا أيها المجرمون ، عفوا عفوا أيها الخائنون .

 وحضرنا كذلك مؤتمرا أقامه الحرس الوطني (التابع للحكومة )،أقيم في إحدى كليات جامعةعين شمس ( وكانت بحي شبرا إن لم تخني الذاكرة ) .والهدف هو التصدى لهم إذا اعتدوا على الإخوان من طلاب جامعة عين شمس، أو إذا نالوا الإخوان ودعوتهم بسوء في خطبهم . وكانت مجموعة دار العلوم بقيادة الأخ عبد اللطيف دحروج ، أما القائد الحكومي فقد كان الضابط وحيد رمضان عضو مجلس قيادة الثورة . واستطاع الإخوان أن يثبتوا وجودهم في التصدي لهؤلاء ، حتى إن وحيد رمضان ولى هاربا ، واندفع إلى حجرة عميد الكلية يحتمي بها .

 وفي النهاية أقول لقد كانت سنوات دار العلوم هي أمتع الفترات في حياتي ، وأغناها بالعلم والقيم الإسلامية والإنسانية والخلقية . والحمد لله رب العالمين .

 **********

تذييل ::

 تلقيت الرسالة الضوئية الأتية من الأخ أحمد الكوش وخلاصة ما فيها :

" في الحلقة رقم 11 ذكرت بعض أسماء الأساتذة ولم تذكر بقية أساتذتك ، أما كان الوفاء يستدعي أن تذكرهم جميعا ؟ وخصوصا أن فضيلتكم ذكرت أنك تتحدث عن أساتذتك من قبيل الوفاء ؟ ألا يعد عدم الحديث عن بقية الأساتذة إساءة إلى هذا الوفاء ؟

 وأقول للأخ أحمد إن المجال لا يتسع لذكرهم جميعا ، فقد تكفل بذلك مجلد ضخم اسمه " تقويم دار العلوم " . وأنا صرحت بأن ذكر لمن ذكرت لا يسيء إلى من أغفلت ، فالهدف كان الاستشهاد ببعض الأساتذة حتى لا تتحول الحلقة إلى " تقويم " تاريخي يشمل كل من قام بالتدريس لنا في دار العلوم . وعلى أية حال أشكرك لملاحظتك الطيبة والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.