أهمية النقد والمراجعة في حياتنا 2
أهمية النقد والمراجعة في حياتنا
2
طريف السيد عيسى
السويد – أوربرو
لو أن كل مافي هذا الكون متطابق ومتفق عليه بما في ذلك العقول والأفكار , لما اقتضت حكمة الله أن يكون كل مافي هذا الكون مختلف , فكان هذا الإختلاف لتتميز الأشياء عن بعضها , ولمعرفة القيمة الحقيقية لكل شئ .
وهذا ما يجعل الناس يختلفون في رؤيتهم للأشياء ,ويختلفون في تفسيرها , كل حسب ما تتوفر لديه من معطيات وثقافة وخبرة وقدرات وإمكانيات .
الإتفاق على كل شئ أمرمستحيل , وخاصة في التفاصيل والجزئيات والإجراءات , وكل من يريد إكراه الناس على رؤية واحدة , فهو يريد أن تكون العقول مثل الثلاجة التي تحفظ كل مايوضع فيها .
أما الإختلاف فيدل على أن العقول تعمل وتبدع وتنتج , وفقا لسنة الله في خلقه .
( ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولايزالون مختلفين إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم ) .
فمن أراد أن يجعل عقول الناس على عقل رجل واحد ويفكرون كما هو يفكر , فهو يعارض مع سنة الله في الإختلاف والتنوع , وهذا الإكراه إفراز طبيعي للجهل والسير عكس سنن الله في الكون والإنسان .
الله خلق الإنسان ليفكر ويستخدم عقله , ويناقش ويحاور ويبدي وجهة نظره ويعترض وينتقد , لا أن يكون تابعا طائعا بلا رأي ولا فكر ولا عقل .
إن الذين يقفون ضد النقد والتقييم والمراجعة , إنما هم نتاج ضيق الأفق , وضعف التفكير , والتشبع بالثقافة الأحادية التي تدعوا للموافقة على كل شئ .
( لا أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد ).
ولا شك أن تتباين مواقف الناس تجاه النقد , بين مؤيد , أو رافض , أو متردد , أو غير مبالي , ولكل مبرراته , وليس بالضرورة أن تكون مبررات الجميع مقبولة ومنطقية .
كيف يتعامل الناس مع النقد
بشكل عام لايمكن توجيه النقد لشخص خامل وكسول وسلبي , إنما يوجه النقد لمن يتحرك ويعمل , ولا يجوز أن يكون بقصد الطعن والإتهام والإنتقاص والتشهير والشتم والنيل من الخصوصيات .
( يقول المفكر الغربي دايل كارنيجي : إن الناس لاترفس كلبا ميتا ) .
كلامنا وتصرفاتنا ومواقفنا تقع بين ثلاث إحتمالات :
الأول : مدح وثناء يصل حد المبالغة ونفي الخطأ وتبريره .
الثاني : نقد مفرط , لايعترف بأي حسنة , ولايثني على أي عمل .
الثالث : وهو موقف متوازن بين المدح والثناء على العمل وبين النقد الواجب للخطأ , فيقال للمحسن أحسنت , وللمخطئ أخطأت , حيث كل إنسان فيه حسنات وسيئات .
وعلينا أن نعمل جاهدين لتقبل النقد والتعامل معه بإيجابية ونحترم المنتقد , ونستفيد مما يقدمه من أفكار وبدائل .
فالإنسان بطبيعته يميل ويأنس للمدح والثناء , ويكون أقرب للمادح , وفي نفس الوقت يمتعض من النقد , وينفر من المنتقد .
لكن علينا أن نتعود على تقبل النقد طالما أنه يتناول التصرفات دون الخوض في الخصوصيات .
( أخرج مسلم . قيل يارسول الله , أرأيت الرجل يعمل العمل من الخير ويحمده الناس عليه , فقال صلى الله عليه وسلم: تلك عاجل بشرى المؤمن ).
كما أن الإنسان يتمنى ويعمل جهده أن تكون أقواله وأعماله كلها صحيحة وسليمة , وأن يتجنب الخطأ , لكن سنة الله في خلقه , أن الإنسان لامحالة مخطأ , مما يؤكد على أن إمكانيات وقدرات الإنسان محدودة .
( أخرج الإمام أحمد والترمذي وابن ماجة من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : كل ابن آدم خطأ , وخير الخطا ئين التوابون ) .
-1-
يحاول الإنسان أن يتهرب من الأخطاء , ويجد المبررات , ويرفض الإعتراف , لكن أين المهرب يوم الحساب ؟
( يوم تشهد عليهم ألسنتهم وأيديهم وأرجلهم بما كانوا يعملون ) سورة النور – 24.
أما الإنسان الذي عرف قدره فلم يتكبر وناقش غيره وشاركهم الرأي , فهو سريع الإعتراف بالخطأ , وهذا يتكفل الله
بستره يوم لاينفع مال ولابنون .
( أخرج البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يدنوا أحدكم من ربه حتى يضع كنفه عليه فيدنيه , فيقول : أعملت كذا وكذا ؟ فيقول نعم , ويقول عملت كذا وكذا ؟ فيقول : نعم .فيقرره ثم يقول الله عزوجل : إني سترت عليك في الدنيا , وأنا أغفرها لك اليوم , وفي رواية : فيعطى كتاب حسناته ).
إذا طالما الإنسان يعمل ويتحرك فلا بد أن يخطأ , فلا كمال لبشر , والنقص جزء من الإنسان .
وطالما أن الإنسان يخطأ , فلا بد أن ينتقد ويقيم ويصوب , وبغض النظر عما سيكون موقفه من ذلك .
فهناك من يخاف النقد ويخشاه , ويعتبره إنتقاص , وتفتيش عن العيوب , وشتم وتشهير , والناقد قصده الفتنة وتمزيق الصفوف , ولايكتفي المنقود بذلك , بل يبدأ بالبحث عن النصوص التي يحرج بها المنتقد , ليثبت له أن هذا النقد مخالف للدين .
وهناك من يخاف النقد خشية أن تنكشف أخطائه , ويظهر على حقيقته البشرية , لا كما يحاول أن يظهر بشخصية مصطنعة , والإنسان تكون قيمته من سلوكه وتصرفاته ومواقفه وطروحاته , ومدى تفاعله مع أفكار الآخرين وتجاوبه معها .
آدم وحواء وقعا في الخطأ وأكلا من الشجرة , لكنهما بعد الخطأ تراجعا وقالا :
( قالا ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن الخاسرين ) سورة الأعراف – 23.
وهناك من يرتكب الخطأ , وكل من حول المخطئ يقولون له تصرفك خطأ , ورغم ذلك يصر على أن عمله صواب ويرفض النقد , بل يعتبره تشهيرا به , حتى تجد بعض البطانة التي حوله تقف معه وتشجعه على أن فعله صواب , وربما إذا كان صاحب مسؤولية فلا مانع لديه أن يستخدم صلاحياته ضد المنتقدين والمعترضين .
وهناك من لايرفض النقد بشكل مباشر , لكنه يقول لك النقد واجب وضروري لكن يجب ان يكون نقدا بناء وأخويا , ولو سألته : كيف يكون النقد بناء ؟ لعجز عن الجواب , لكن المهم عنده أن يرفض النقد بطريقة ملتوية .
وهناك من تجد له موقف متناقض من النقد , فهو يسمح لنفسه أن ينتقد الآخرين , لكن عندما يتم توجيه النقد له , فيغضب ويرفض هذا النقد ويعتبره تتبعا للثغرات والأخطاء , والتقصد بالطعن والتشويه !!!
وهناك من يرفض النقد بحجة أنه فضيحة ونشر للغسيل , والأفضل أن يكون بالسر , وهذا الكلام في جانب منه صحيح ولا غبار عليه , حيث هناك أمور حساسة ويجب نقدها بالسر وأن يكون النقد مباشرة للجهة ذات العلاقة , لكن هناك أمور عامة ويعرفها كل الناس , فهذه يجب أن تنتقد في العلن .
أما أن يكون النقد دائما بالسر , فهذا سيضع البعض في موقع الحرج أمام الناس لأنهم لم يقوموا بواجب النقد والنصح , بينما عندما يتم نقد الأمور العامة بشكل علني فهذا يجعل البعض معذورين أمام الناس , وأيضا تقام الحجة العلينة على المنقود .
وهناك من يرفض النقد تحت مبرر أن الظروف غير مناسبة , والأوضاع لاتحتمل النقد , ومطلوب منا الصبر والتحمل والزمن كفيل بتسديد الأوضاع , وعلينا أن نمتنع عن النقد حفاظا على إستقرار الأوضاع , وهكذا يمضي العمر ونحن ندندن على ذلك , والأخطاء تتراكم , والإنحراف يزداد , ونحن ننتظر حتى تأتي الظروف كما نحب ونريد , وماهي إلا مبررات واهية لرفض النقد .
-2-
وهناك من يرفض النقد من خلال التهرب وتحميل الآخرين الأخطاء , وهذا وسيلة غير مباشرة لتبرئة النفس واتهام الغير .
وهناك من يرفض النقد من خلال التقليل من نتائج الأخطاء , واعتبار الأخطاء أمر طبيعي , وهي جزء من الأقدار التي لابد واقعة , وهي أيضا جزء من الإبتلاء والإمتحان , وما علينا إلا الصبر والتحمل , وتقبل الأمر الواقع , وشعارهم في ذلك :
ليس بالإمكان أفضل مما كان .
النقد المرفوض
كون النقد ضرورة وواجب , فهذا لايعني أن نقبل أي نقد كان , وليكون النقد ممدوحا وليس مذموما فلابد له من قيود وضوابط .
فالنقد يجب أن يوجه للمواقف والأعمال وليس إلى الأشخاص .
فكل نقد تناول تصرفات وسلوكيات الإنسان الشخصية , أو تناول الأمور الخاصة , أو تناول القضايا الإنسانية , أو الحط من القيمة الإنسانية , أو التشهير أو الشتم أو الطعن أو السخرية والإستهزاء , فكل ذلك مرفوض ولا يدخل في دائرة النقد .
يقول الله تعالى :
( ولقد كرمنا بني آدم ) .
( أخرج الترمذي وأحمد وأبو داود وابن ماجة وصححه الألباني . من حديث ابن عمر رضي الله عنهما . قال صلى الله عليه وسلم : من تتبع عورة أخيه المسلم تتبع الله عورته , ومن تتبع الله عورته يفضحه ولو في جوف رحله ) .
ويستثنى من ذلك , أن الشخص الذي يصر على الخطأ ويمارسه بشكل علني , فهنا لابد من نقد علني مع تحديد الشخص , وتحذير الناس من تصرفاته .
وهناك اشخاص يثبت أنهم من أصحاب الفتنة والأراجيف , فمثل هؤلاء ايضا يجب التحذير منهم ومن تصرفاتهم وسلوكهم .
وكل نقد جانب العدل والإنصاف واتخذ التطرف في النقد فهو نقد مرفوض , فالأصل ذكر الحسنات والسيئات , والتطرف بالنقد ينتج عن التعصب واحتكار الصواب والحقيقة وعدم الإعتراف بفضل وجهد الآخرين .
يقول الله تعالى :
(يا أيها الذين آمنوا كونوا قوامين لله شهداء بالقسط ولا يجرمنكم شنآن قوم على ألا تعدلوا إعدلوا هو أقرب للتقوى واتقوا الله إن الله خبير بما تعملون ) سورة المائدة - 8.
وكل نقد يفتش بالنوايا والقلوب فهو نقد مرفوض , فعلم النوايا والقلوب بيد الله وحده .
( قال صلى الله عليه وسلم , أمرت أن أقبل من الناس ظواهرهم وتركت سرائرهم إلى ربي – أو كما قال عليه الصلاة والسلام ) .
وكل نقد يتطرق للخيارات الفقهية لدى الناس فهو نقد مرفوض , فهناك قاعدة أصولية تقول : لا إنكار في مسائل الخلاف , ولا يجوز لأي كان أن يفرض على الناس فقها معينا , كما لايجوز رفض خيار فقهي نختلف معه .
ولقد كان العلماء الربانيون يقولون كلمة الحق ولا يخافون في الله لومة لائم , وسوف اضرب بعض الأمثلة لنتعرف على تاريخنا الناصع الذي طوته الكتب ولم يعد له وجود في الواقع إلا على يد قلة.
-3-
( لقي رجل سليمان بن عبد الملك فقال له : سأطلق لساني بما خرست عنه الألسن – تأدية لحق الله تعالى - : إنه قد اكتنفك رجال أساءوا الاختيار لأنفسهم , وابتاعوا دنياك بدينهم , ورضاك بسخط ربهم , وخافوك في الله , ولم يخافوا الله فيك , فهم حرب للآخرة , وسلم للدنيا , فلا تأمنهم على ما ائتمنك الله عليه )
شجاعة في قول الحق , نصيحة في غير مجاملة ولا محاباة , تشخيص لمكمن الخطأ عند هذا المسؤول .
( نصح الفضيل بن عياض الرشيد , فشدد في النصيحة , فقال له الفضل بن الربيع : أرفق بأمير المؤمنين ! فقال : تقتله أنت وأصحابك , وأرفق به أنا ) .
البطانة التي لاتهتم للمصلحة العامة , فليس لها غير المدح والثناء للمسؤول كي يبقون على كراسيهم وفي مناصبهم ,أما الصادقين الذين لايهمهم أن كانوا في المقدمة أو المؤخرة , فينصحون وينتقدون من أجل التصحيح والتصويب .
( دخل الإمام الأوزاعي على المنصور , فقال له المنصور : مالذي أبطأ بك عني ؟
قلت : يا أمير المؤمنين .. ومالذي تريد مني ؟ قال : الإقتباس منك , قلت : انظر ماتقول , فإن مكحولا حدثني عن عطية بن بشير أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : من بلغه عن الله نصيحة في دينه فهي رحمة من الله سيقت إليه , فإن قبلها من الله بشكر , وإلا كانت حجة من الله عليه ليزداد إثما , وليزداد الله عليه غضبا , وإن بلغه شئ من الحق فرضي فله الرضى , وإن سخط فله السخط , ومن كرهه فقد كرهه الله لأن الله هو الحق المبين .
فلا تجهلن .
قال : وكيف أجهل ؟
قال : تسمع ولا تعمل بما تسمع ! ) .
النصيحة واجبة , والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب , والذي يرعى مصلحة عامة , عليه إذا سمع نصيحة أن يعمل بها طالما أنها من أجل التغيير نحو الأفضل .
( قال رجل لمعاوية : والله لتستقيمن بنا يامعاوية , أو لنقومنك , فقال معاوية : بماذا ؟ قال : بالخشب , فقال معاوية : إذن نستقيم ) .
ولنا في سلفنا الصالح الإسوة والقدوة , فلقد أسسوا منهج النقد على أسس وقواعد علمية , فقدموا علم الجرح والتعديل الذي يعتبر مفخرة من مفاخر هذه الأمة حتى غدت قواعد هذا العلم من أصح وأقوى القواعد في البحث العلمي وتقبل الأخبار , ولقد تعاملت تلك القواعد مع السنة النبوية التي تعتبر مرجعيتنا بعد القرآن الكريم , فردت نصوص , ورفضت رجال , ولم تحابي أحدا على حساب الحق المبين .
اللهم اجعلنا من الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنه .