لفتة حضارية ولفتات غير ذلك

بدر الدين حسن قربي

لفتة حضارية

ولفتات غير ذلك

بدر الدين حسن قربي /سوريا

[email protected]

في حفلة جامعية كانت لتخريج مجموعة من طلبة الدكتوراه دعيت إليها وعائلتي، لفت نظري فيها إعداد رائع وجميل وغاية في الترتيب والهندسة لهذه المناسبة التي يغادر فيها الطلاب والطالبات مقاعد الدرس والبحث والتحصيل ويتناثرون على مدارج الحياة والعمل يُعلّمون ويتعلمون، ويَشقوَن ويكدحون، وهم من بعدها بين شقيٍ وسعيد. 

لست في موطن الوصف لهذه الحفلة الأنيقة وتوصيف مشاعري فيها، فكل مافيها كان جميلاً أو هكذا خيّل إليّ، وإن أكثر ماشدني حقيقة من كل الترتيبات الظاهرة والخفيّة فيها شاب ببدلته الرسمية في مكان واضح على طرف مسرح الحفل تتحرك يداه يمنة ويسرة وأعلى وأسفل حركةً محسوبة ومدروسةً بقدر مع كل كلمة يتكلم بها متكلم على خشبة مسرح الاحتفال.  وإن هي إلا لحظات لتعلم بعدها أن هذا الشاب يراد لحركاته المشهودة والمتلفزة أن تُسمع الصمّ من الحاضرين الكلام، ولإشاراته أن تنقل إلى أناس بعينهم قد لايكون أحد منهم حاضراً الخطاب، فيخرجون من إطار صَمَمِهم وحاجتهم ويشاركون الحضور حفلهم ومشاعرهم،   ويفهمون ماقيل بعيداً عن أن يكونوا معزولين مع ذواتهم وأنفسهم، ويتواصلون مع الناس من حولهم.

وعليه، يمكن القول من دون تردد أن كلام المتكلمين والمتكلمات أسمعَ من به صمم وإن لم يكن من بينهم الشاعر المتنبي، ونفى عن الحضور أن يكون بينهم ولو حاضر واحد يمكن أن يقال عنه: أطرش في زفة.

قد لايكون بين الحضور فيما أظن من كان محتاجاً لمثل هذا الناقل أو الموصّل عبر حركاته وإشاراته، ولكن توفير هذه الخدمة المتحضرة مظنّة أن يحضر الحفل مدعو ذو حاجة أمر لاشك له معانيه وإيحاءاته الحضارية.  فاهتمام المجتمعات بأفرادها من ذوي الاحتياجات الخاصة سمعاً وبصراً وحركةً وفهماً، والعناية بهم ليكونوا أفراداً فاعلين في مجتمعهم فضلاً عن أن يكونوا عبئاً عليه هو أحد مظاهر تحضر هذا المجتمع وتطوره الإنساني، والملفت أن هذا الاهتمام بات اليوم أكثر من أي وقت.  ومن ثم فلم يكن غريباً أن يظهر من هؤلاء المتفوقون والمبدعون والنوابغ وهم يحاولون إثبات ذواتهم والتعالي على احتياجاتهم ولاسيما يوم يجدون ممن حولهم سواء كانوا أفراداً أو جهاتٍ خاصة أو رسمية العونَ والسند،.  فالجميع بمن فيهم الدولة يجهدون في تسهيل حياة ناسهم عموماً وهؤلاء خصوصاً في كل أمر ممكن ومستطاع، ويتسابقون ليجعلوا من كل أمورهم شأناً مقضياً بيسر وسهولة، فيعتنون بمشاعرهم باعتبارهم جزءاً مهماً منهم وفيهم.  وعليه، بات أمراً مألوفاً أن نجد بجانب مذيع الأخبار المتلفزة من ينقل الأخبار إشارة وحركة لأناس بعينهم وأن يكتب مثلاً على العملات الورقية وبطاقات التعريف وعلى أبواب الغرف في الدوائر الرسمية خصوصاً والمستشفيات والفنادق مثلاً بطريقة بريل، كما بات مألوفاً أن يكون شأن هؤلاء واحتياجاتهم في حسابات وترتيبات كل الجهات في أي مشروع أو عمل.  ولعلي لاأنسى بعض إشارات وعلامات مرورية على أطراف بعض الحارات والشوارع تنبه السائقين لوجود أطفال أو كبار من فاقدي السمع في المنطقة وتذكّرهم لقيادة السيارة بعناية وحذر.

قال لي صاحبي وهو يهزّ رأسه : أنت تكلمتَ عن بلادٍ الناس فيها يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا، فاختلفت اهتماماتهم عن اهتماماتنا، وتكلمتَ عن خدمات متحضرة لفئة مجتمعية لعلها قليلة في أي مجتمع، ونحن مازلنا نلت ونعجن ونسعى ونصرخ لخدمات أساسية لعموم الناس من رغيف الخبز وشربة الماء وجرعة الدواء، إلى حقوق المواطنة وحرية المواطن وتأمين الطرقات والاتصالات والكهرباء، ومازال الطريق طويلاً وبعيداً ريثما نصل إلى خدمات ذوي الاحتياجات الخاصة والاعتناء بهم والذين هم كبقية عموم ناسنا فاقدون ابتداءً للخدمات الأساسية في الكثير من أماكنهم.  ولئن كان من تكلمت عنهم متميّزين، فنحن لنا في حدود خصوصياتنا القومية وقيمنا النضالية خدمات واهتمامات حضارية مختلفة ومتميزة عنهم أيضاً.  ومن ثمّ فمن تميّزنا أن تصل الكهرباء عندنا إلى قفا المواطن تعذيباً وإهانة وإذلالاً على طريقة غوّار قبل أن تصل إلى بيته وقريته ومدرسته.  وعليه، فلم يكن مستغرباً ولا معيباً ونحن في تمام العقد الأول من القرن الواحد والعشرين أن تسمعَ طالبةً عندنا متميزةً في دراستها وتفوقها، درست ثانويتها على ضوء لمبة الكاز، وكانت الأولى على عشرات الآلاف من طلاب وطالبات الثانوية العامة في القطر، تتمنّى بمناسبة تفوقها أن تتلطف الجهات الرسمية وتوصّل الكهرباء إلى قريتها وبيتها.   ومن تميّزنا أيضاً، وصول الجهات الأمنية لتمارس دورها قمعاً واضطهاداً بأسرع من البرق إلى مواطن قال كلمةً يعبر فيها عن رأي أو يشير فيها إلى فساد أو مفسد، يسكن في مناطق نائية فيها مافيها من التعتير وشقاء الحياة ، في وقت لاتجد إليها طريقاً يمكن تسميته طريقاً، في حين تعجز سيارة الإسعاف عن الوصول إليه إن كانت ذبحة صدرية أو جلطة.  نحن من سـكان دول أمنها أولاً وثانياً وثالثاُ على خلاف دول ومجتمعاتٍ راحةُ مواطنيها والعناية بهم أولاً فضلاً عن أمنهم وأمانهم.  ومع ذلك، لو تفكّرت في الأمر ملياً، لوجدت أن العناية بمواطننا وراحته مدعاة لكسله وتراخيه ودلعه ومن ثم قلّة عطائه للوطن، وهو ماتوصّلت إليه عبقرية ساداتنا وكبرائنا وهو مما لايريدونه لنا.

قلت لصاحبي: ماأشرتُ إليه من بذل الجهد لإسماع الصمّ والتواصل معهم لايمكن القول عنه إلا أنه لفتة حضارية وإنسانية بكل معنى الكلمة، أمّا الذي وصّفت فهو لاشك من لفتات التخلف والفساد، والتأخر والاستبداد، فليسوا سواءً، ولايستويان مثلاً.