مفهوم الهداية والضلال

سلسلة المعرفة

الحلقة السابعة والعشرون

محمد سعيد التركي

[email protected]

يستند كثير من الضُّلال والفُسّاق والفجار وكثير من المقصرين في أمر الله وفي التكاليف المتعلقة بالإسلام وطلب العلم فيه والدعوة إليه، يستندون إلى أن الله لم يقم بما يكفي من هدايتهم، أو أن الله قد رسم خط حياتهم بأن لم يجعلهم مهديين بما يكفي، أو أن هناك حاجزاً يحول بينهم وبين الأعمال الصالحة، سببه يعود إلى أن الله قد أضلهم ولم يهدهم، ولذلك فإن هؤلاء يدافعون عن ضلالهم وفسقهم أمام الناس بالدعاء إلى الله أن يهديهم، والناس بدورهم يقومون بالدعاء لهم أن يهديهم الله، وكذا ما يفعله الناس، وهم يرون الحاكم وهو يحكم بالكفر البواح، ويتحالف مع الكفار ضد شعبه وأهله وأمته ودين الإسلام، وقد جرف الأمة الإسلامية إلى أسفل السافلين، يتذرعون بالدعاء سائلين له الله أن يهديه، يتذرعون بالدعاء حتى لا يقوموا هم بالواجبات والتكاليف فيما يخص بالضرب على يد الحاكم ومحاسبته، والخروج على حكمه الظالم، خوفاً منه ومن بطشه، فينامون وقد تدنت سبل عيشهم، وجاعت بطونهم، ولكن أفواههم إمتلأت بالدعاء له بالهداية والصلاح له ولبطانته .

بهذه الكيفية يفهم الناس الهداية، التي تحدث عنها الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم، وتحدث عنها رسوله الأمين r، وهذا الفهم هو تماماً الفهم المخالف لمفهوم الهداية في الإسلام، وهو فهم باطل، وليس له أساس من الصحة، فما هو المفهوم الصحيح إذن ؟

الهداية هي الرشاد، يهدي أي يرشد، وليست الهداية هي سحابة تنزل على أحدهم وتحيطه، فترشده للعمل الصالح وتدفعه عن العمل الفاسد، أو هو وحي أو توجيه من الله بالأمر بأن هذا الرجل يجب أن يكون فاسداً أو ضالاً، والآخر يجب أن يكون صالحاً أو مهدياً، وغيرهما بين هذا وذاك، وكأن الله "جل وعلا" يلعب في مصائر الناس وأحوالهم، وكأنه "جل وعلا" يحب بعض مخلوقاته ويكره بعضها الآخر، فيُضل هذا ليقوم بأفعال الفجور فيعذبه في النار، ويهدي هذا فيقوم بالأعمال الصالحة فيدخله الجنة .

وقد خلق الله سبحانه وتعالى الإنسان، كلهم خلقاً واحداً، وقدر فيهم كلهم هيأة واحدة، وحاجات عضوية واحدة، فيأكل الإنسان ويشرب وينام ويستخرج الطعام، وقدّر فيهم كلهم غرائز محددة لا تختلف من إنسان لآخر، فكانت بالتالي مطالبهم واحدة، وتوجههم لإشباع هذه المطالب واحد، وقد جعل لهم في الأرض ما يشبع كل حاجاتهم العضوية وغرائزهم، وجعل لهم في أنفسهم ما يحميهم من بأس بعضهم، وهم يعملون على إشباعها، فبدأ هدايته لهم بأن هداهم النجدين، أي هداهم إلى طريق الخير وطريق الشر من خلال أنفسهم، فجعل كل البشر بالفطرة يتفقون على مقاييس الخير والشر، فكان القتل والزنا والنهب والسلب والإعتداء على حق الغير، والكذب والنصب والإحتيال والخلق القبيح، كل ذلك وغيره عند البشر جميعاً أمر مذموم في كل زمان وكل مكان وعند كل إنسان أو شعب أو أمة .

وكذا جعل كل البشر يتفقون بالفطرة على مقاييس الخير، فالرحمة والصدق والأمانة والكرم والجود والحلم والنصرة والنجدة والغوْث والعوْن، كل تلك الأمور محمودة عند كل البشر كافة في كل مكان وفي كل زمان وعند كل الشعوب والأمم .

فكان هذا هو أول الهداية من الله سبحانه وتعالى، والتي لم يبخل بها على أحد، أو إستأثر بها لأحد منهم . وسمى البعض هذه الهداية للبشر بالهداية الجبلّيّة .

ثم لما تطورت أحوال الناس، وكثرت مصالحهم، وتنوعت علاقاتهم، وتشعبت طرقاتهم، وتطورت أفكارهم، أرسل الله سبحانه وتعالى هداية مكملة ومتممة للهداية الفطرية التي فطر الناس عليها، فأرسل الرسل بكتب منزلة، ترشد الناس وتهديهم طريق الحق والصواب من الأقوال والأفعال، وتصرفهم عن الطرق التي تؤدي بهم إلى الضلال، فالظلم فالفسق فالفجور وأكل الحقوق وسفك الدماء وهتك الأعراض، وتبين لهم أحكاماً من خلالها تنتظم حياتهم ومعايشهم، فيكونون أحراراً، لا يستعبدهم أحد من الخلق، فلا يعبدون إلا الله وحده، أي لا يتبعون أمراً من عند غير الله خالقهم، ولا يشركون مع هذه العبادة عبادة أحد المُدّعين أو الملوك أو الرؤساء أو غيرهم المتسلطين، أو الكفار المحتلين أو عبادة أحد المستعمرين .

وهنا وقد أتم الله رسالاته للناس آخرها رسالة سيدنا محمد r، وقد أعطاهم العقل، وأعطاهم حرية التصرف بين الفعل والترك، وأعطاهم القدرة على التمييز بين الحق والباطل، وأحاطهم بعناية ورعاية منه باطنة، في أنفسهم وأجسادهم وأرواحهم، يكون الله بالتالي قد أتم هدايته للناس كافة، ويكون قد أعذر في كل شيء، فلا يقال أن الله قد أغفل شيئاً أو قصر في شيء، جل وعلا، أو أن الله قد فرض على بعضهم ضلالاً وعلى الآخرين هدى .

قد يقول أحدهم أن الله قال في قرآنه الكريم : إنا جعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً وإن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا إذا أبداً ، نعم إن الله قد قال ذلك، أما في شطر الآية الأول فقد قال: ومن أظلم ممن ذكر بآيات ربه فأعرض عنها ونسي ما قدمت يداه، إنا جعلنا على قلوبهم أكنة ...... إلى أخر الآية، فهداية الله تمت ولكن بعضهم جحد وأنكر فاستحق عقاب الله بزيادته في كفره، فكيف نسأل الله الهداية لمثل هذا إذن ؟ بل إن الدعاء بالعقاب لمثل هذا واجب .

وقد يقول أحدهم أن الله قد قال : إن الذين كفروا سواء عليهم أأنذرتهم أم لم تنذرهم لا يؤمنون، ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم، نقول نعم هو كذلك فهم قد كفروا بكل موجبات الهداية التي قدمها الله لهم، فاستحقوا بذلك عقاب الله، فأنى لنا إذن بالدعاء لهؤلاء الكافرين بالهداية ؟

وقد يقول أحدهم إن الله يقول في القرآن الكريم أنه يضل من يشاء ويهدي من يشاء، وقال في سورة البقرة : ليس عليك هداهم ولكن الله يهدي من يشاء ؟ فنقول نعم فكما قال الله ذلك فقد بيّن في آيات كثيرة أخرى ما قاله سبحانه وتعالى : والله لا يهدي القوم الظالمين، وقال أيضاً : والله لا يهدي القوم الكافرين، وقال كذلك: والله لا يهدي القوم الفاسقين، وبين في آيات أخرى كثيرة، كما في سورة الزمر 3 : إن الله لا يهدي من هو كاذب كفار، وفي سورة غافر 28: إن الله لا يهدي من هو مسرف كذاب، إذن فالهداية لا تكون لمن أباها وإتخذ سبيل الضلال والفسق والظلم والكفر.

إن الهداية تعنى الرشاد والتوفيق، فعندما ندعو الله الهداية، ونحن قد إتبعنا سبيل المؤمنين أو نكون قد إبتغينا ذلك، فإننا ندعو الله التوفيق في الأعمال والرشاد في الأفعال، حتى ولو كنا  مقصرين في حق الله، أما أن يتبع العبد سبيل الفاسقين أو الظالمين أو الكافرين ويدعو أو ندعو له بالهداية، فإن دعوته أو دعوتنا له في غير محلها، فكأنه أو نحن ندعو الله أن يزيده فيما هو عليه من الفسق والضلال والفساد، وحتى لو دعى العبد الكافر أو الظالم بالهداية أو دعونا له نحن، فإن الله لا يتقبل هذا، لأن الدعاء في غير محله، وهو دعاء باطل .

فكما قال الله تعالى في سورة النحل 37: إن تحرص على هداهم فإن الله لا يهدي من يضل، وما لهم من ناصرين .

وقال في سورة الرعد 27 : قل إن الله يضل من يشاء ويهدي إليه من أناب

وقال في سورة الشورى 13 : الله يجتبي إليه من يشاء، ويهدي إليه من يُنيب

فعلى المسلم أن يحاسب نفسه على أفعاله كلها، ولا يُرجع أفعاله الإختيارية إلى إرادة الله، ظلماً وعدواناً، ولا يدعي أن هدايته هي أمر من الله ينزل عليه نزولاً، فيكون الله (جل وعلا) هو المسؤول عن تغيير إرادة العبد الفاسدة وهو جل وعلا مسؤول عن إصلاحها .

وعلى المسلمين أن يحاسبوا أنفسهم أولاً والحكام الذين يحكمون بغير ما أنزل الله، ولا يدعوا لهم بالهداية فذلك باطل، بل يعملون على إعادة الحكم بما أنزل الله، ويدعون الله عليهم أن يلعنهم الله ويضرب على أيديهم، وأن يعيننا على إزالتهم، وبهذه الكيفية يستقيم الدعاء ويستقيم مفهوم الهداية.