ذكريات الأدباء في استانبول

د. نعيم محمد عبد الغني

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

استنانبول التركية مدينة اختلف حول اسمها، فهناك من يكتبها (اسطنبول)  وهناك من يكتبها (استانبول)، مع خلاف بالطبع في نوع همزتها بين الوصل والقطع، ويقولون: إن استانبول ربما تكون محرفة عن إسلام بول التي تعني مدينة الإسلام، أما (اسطنبول) فكلمة أصلها يوناني وتعني (أنتم في المدينة)، واستانبول في الأصل مدينة إغريقية معروفة باسم بيزانتيوم (بيزنطة) وفي سنة 330ميلادية أبدل قسطنطين الأكبر اسمها فجعلها (القسطنطينية) واختارها قاعدة لمملكته، ويطلق على استانبول اسم(فروق)؛ لتفرقتها بين البر والبحر؛ حيث تفرق بين أوربا وآسيا، وبها ثلاثة بحار مما كان سببا قويا في تأسيس الإمبراطورية العثمانية،  ولقد تغيرت معالم المدينة بعد نقل العاصمة إلى أنقرة فلم يبق من مشاهدها الأصلية سوى الأحياء الشعبية والمساجد والقبور والقصور السلطانية التي أصبحت الآن متاحف تحكي عظمة هذا التاريخ.

وقد تردد اسم (فروق) على لسان ولي الدين يكن عندما نفاه السلطان عبد الحميد عن استانبول، فقال مودعا:

ودع (فروق) لقد أجد فراق

ماذا تطيق هل الوداع يطاق

وما كان وداع استانبول يطاق على من زارها وتفيأ ظلال أشجارها، وسمع أغاريد الطيور من فوقها، واستنشق رائحة الزهور، واستمتع بسحر الطبيعة التي يصفها معروف الرصافي بعد أن عددها قائلا:

مشاهد في تلك الرُّبى ومناظر        
تجلت على أطرافها قدرة الباري

لقد كانت استانبول بما أنها حاضرة الخلافة التي ملأت الدنيا وشغلت الناس محط أنظار الناس جميعا، فتمنى من لم يزرها أن يزورها، ومن زارها صعب عليها فراقها، وإن فارقها ظل ما تبقى من عمره في شوق للعودة إليها، وحنين إلى ذكرياتها، يستوي في ذلك العرب وغيرهم؛ فالشاعر الرومانتيكي بير لوتي دخل استانبول وفتن بجمالها، واختلط بشعرائها، ولبس القفطان التركي والعمامة، وعندما ذهب إلى فرنسا بنى مسجدا في فناء بيته وسجاجيد وخطوطاً عربية، ليكون على ذكر بأيامه الجميلة التي قضاها في استانبول.

أما ماري ملز باتريك فإن عيشها في استانبول جعلها تؤلف كتابها (صفحات من تاريخ تركيا الاجتماعي والسياسي والإسلامي)، وصفت فيه طبيعة الشعب التركي، وحللت من خلاله شخصيات سلاطين بني عثمان، فتقول عندما دخلت استانبول لأول مرة سنة 1872: "ودخلنا استانبول من جهة الشرق، وكان أول شيء لفت نظري مآذن استانبول وقبابها...وكأن قلبي يرقص طربا، والسفينة تتبختر كالعروس الحسناء في قصر مرمرة"

ثم تقول عندما هبطت على قرية (كفاك) التي تقع على شط البسفور وبها تلال شاهدت عليها بقايا قلعة (كنوز) التي كانت في الواقع بقايا قلعة تركية قديمة بناها محمد الفاتح: "ورأينا فوق القلعة معبدا إغريقيا قديما يقول عنه هيردوتس المؤرخ المشهور: إن داريوس قد اضطر أمام هذا السحر أن يتريث ليملأ عينيه منه ومن جماله، على الرغم من كونه في حالة لا تساعد على الاكتراث للمناظر الجميلة والتمتع بما فيها من سحر وفتنة"

وتذكر ماري ملز أن الذي يقف على هذه القلعة بإمكانه أن يشاهد البحر الأسود والبسفور وتلال آسيا الوسطى، وتقول: "ولم نفهم قوة الشعار التركي المعروف (يا واش يا واش) أي رويدا رويدا إلا عندما وجدناهم يجبروننا على التريث الطويل في كفاك" وقد زال هذا الشعار بإزالة أتاتورك للخلافة العثمانية.

وتفتن الكاتبة بالمدينة، وترى أن استانبول "ستظل إلى الأبد ملكة المدن وعروس المدائن الشرقية،... وإن فتنة البسفور لا تجد لها مثيلا إلا فتنة النيل"، ولقد سمعت الكاتبة أحد السياح يقول عن إعجابه باستانبول: (وإني أعد هذه المدينة استانبول أحق بالرؤيا من إيطاليا كلها).  

أما الشاعر العراقي محمود صبحي الدفتري الذي يعد من شعراء التركمان فإنه عندما ذهب إلى استانبول حاول أن يتصل بشعرائها فقابل شاعرا تركيا بهر بجمال الطبيعة يدعى (فائق)، وكان هائما بشعره، فجلسا على مقهى في استانبول وتعرفوا بفتاة رائعة الجمال تدعى سيسل التي كانت برفقة أمها، وقد نظم كل شاعر منهما قصيدة في جمالها، ثم ذكر أن الفتاة رحلت إلى بغداد وتزوجت ثم رجعت باريس وبعثت له بعد ذلك خمسين عاما تطلب ما قيل فيها من شعر، ليعقب على ذلك بقوله: "ولعلها تذكر من صباها الذاهب، فتأست بصاحبة الشاعر الفرنسي رونسار، تلك الغادة اللعوب المدللة التي خاطبها قائلا: "حينما تبلغين من العمر عتيا، وأنت جالسة تصطلين بالنار مساء، تنسجين وتحوكين على ضوء الشموع، ستقولين إذ تنشدين شعري في زهو وخيلاء: إن رونسار قد أشاد بذكري يوم كنت رائعة الجمال".

ويؤلف برنارد لويس كتابا بعنوان استانبول حاضرة الخلافة الإسلامية، ويترجمه لنا الدكتور سيد رضوان علي وفيه يذكر الواقع السياسي التركي وما يجري فيه، وما يهمنا أن نذكر مدى تعلق الأدباء والشعراء باستانبول؛ ليفضلوها على مدن العالمين، فيذكر لنا قصة نقلها عن مؤرخ تركي ملخصها أن أحد سلاطين بني عثمان سأل سفيرا عثمانيا كان في الهند عن أهم شيء شاهده في بلاد الهند العظيمة، فأجاب السفير بقوله: "إن مغادرته المصحوبة بالسلامة من هناك وعودته إلى هذا البلد الذي هو كالفردوس كان أروع تجاربه".

ثم يعقب برنارد لويس على هذه الإجابة قائلا بأن هذه الإجابة سرت السلطان كثيرا وإن كانت تعد مجاملة ظاهرة، ولكنها تعكس في الحقيقة عاطفة صادقة من الحب والفخر باستانبول التي كان يشعر بها العثمانيون تجاه مدينتهم، ثم يذكر لنا طائفة من أشعار تركية في استانبول نختار منها قول الشاعر التركي نابي المتوفى سنة 1712 فيقول:

ليس ثمة مكان تجد فيه المعرفة والعلم

 ترحيبا حارا كما تجد في استانبول

لم تجن أية مدينة ثمار حديقة الفن

 كما جنتها مدينة استانبول

رعى الله استانبول وازدهارها

فإنها مسرح أعظم الإنجازات

وموطن مشاهير الرجال  ومدرستهم

إن سحر مدينة استانبول الذي بهر العالمين ممن سكنوها أو الذين زاروها أو من سمعوا عنها جعلهم يصنفون فيها المؤلفات، فمنهم من يذكر واقعها السياسي والاجتماعي ومنهم يذكر فيها ذكرياته الجميلة في صورة شعر أو نثر كما أسلفنا، غير أن أهم كتاب يصف هذه المدينة العريقة كان بعنوان (وصف القسطنطينية) حيث أصدر السلطان العثماني مراد الرابع سنة 1638م مرسوما موجها إلى وزيره الأعظم بيرم باشا وإلى المفتي يحي أفندي وقضاة استانبول وغيرهم يأمرهم فيه بتدوين وصف كامل ودقيق للقسطنطينية يشمل الدكاكين والنقابات والمؤسسات وكل مظاهر الحياة في استانبول فخرج هذا الكتاب مئة ألف ضعف الوصف الذي أعده زكريا أفندي في عهد السلطان سليم، وأنجز هذا الوصف على ضخامته في ثلاثة أشهر وقرأه المؤرخ صولاق زاده ليل نهار في حضرة السلطان، فهتف (يا إلهي! ارع هذه المدينة إلى الأبد).

ودراسة هذا الوصف في التراث الشعري ضرورة بحثية تبين أثر البيئة في الشعر من حيث الألفاظ والصور والموضوعات، ومدى مطالعة الشعراء والكتاب لمثل هذه الأسفار، وهذا من أهدافنا التي من أجلها نكتب في الأدب التركي.