الإخوان المسلمون

الإخوان المسلمون

هموم الأمة ... وعلاقات الشعوب

بين وضوح الموقف في ضباب مقاييس دولية مضطربة

محمود

احتلت العلاقات بين الشعوب والصلات بين الامم في نظم الإسلام المكانة اللائقة باعتباره الدين الخاتم والرسالة السماوية التي ارتضاها للعالمين كافة .. وقد أدركت جماعة الإخوان المسلمين من خلال ما قامت عليه من فهم شامل للإسلام أهمية هذه الحقيقة الخالدة وهذا الركن الحيوي من أركان الفهم الصحبح للإسلام فنصت عليه مبكرا في كتابات مؤسسها الأول الإمام الشهيد حسن البنا ـ حيث قال رضي الله عنه:

 " إن نظم الإسلام فيما يتعلق بالفرد أو الأسرة أو الأمة حكومتها وشعبها ، أو صلة الأمم بعضها ببعض ، نظم الإسلام في ذلك كله قد جمعت بين الاستيعاب والدقة وإيثار المصلحة وإيضاحها ، وإنها أكمل وأنفع ما عرف الناس من النظم قديما أو حديثا . هذا حكم يؤيده لتاريخ ويثبته البحث الدقيق في كل مظاهر حياة الأمة .

ولقد كان هذا الحكم يشهد به كل منصف ، وكلما تغلغل الباحثون في بحوثهم كشفوا من نواحي الجمال في هذه النظم الخالدة ما لم يكن قد خطر ببال سلفهم ، وصدق الله القائل :(سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ) (فصلت:53) .

رسالة نحو النور

ومن هنا حرص الإمام الشهيد على التأكيد في البناء الفكري للجماعة على المعالم الرئيسية المحددة لفهم أبنائها في هذا الخصوص .

فالإخوان المسلمون يعتبرون الناس في حكم دعوتهم ( إخوة : أصلهم واحد ، وأبوهم واحد ، ونسبهم واحد ، لا يتفاضلون إلا بالتقوى و بما يقدم أحدهم المجموع من خير سابغ وفضل شامل (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالاً كَثِيراً وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً) (النساء:1) .

   فنحن لا نؤمن بالعنصرية الجنسية ولا نشجع عصبية الأجناس والألوان ، ولكن ندعو إلى الأخوة العادلة بين بنى الإنسان .

   كما أنهم يعدون ما عدا ذاك من مقاييس تفاضل تقوم على عنصرية بغيضة أو تمايز مصطنع بين يني البشر " مزاعم باطلة " و " نزوات من غرور الإنسان وطيش الوجدان لا يمكن أن تستقر علي أساسها نهضات أو تقوم على قاعدتها مدنيات ، وما دام في الناس من يشعر بمثل هذا الشعور لأخيه الإنسان فلا أمن ولا سلام ولا اطمئنان حتى يعود الناس إلى علم الأخوة فيرفعونه خفاقاً ، ويستظلون بظله الوارف الأمين ، ولن يجدوا طريقاً معبدة إلى ذلك كطريق الإسلام الذي يقول كتابه : (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللهِ أَتْقَاكُمْ) (الحجرات:13) . ويقول نبيه r : (ليس منا من دعا إلى عصيبة ، وليس منا من مات علي عصيبة) رواه أحمد من حديث جبير بن مطعم . ولهذا كانت دعوة الإخوان المسلمين ربانية إنسانية " .

رسالة " دعوتنا في طور جديد "

ولعله من يمن الله على هذه الدعوة المباركة ، ومن بصيرة إمامنا الشهيد، أن وفقه الله سبحانه وتعالى للحديث عما أسماه رضي الله عنه " العالمية " منذ أكثر من خمسين عاما .. وهي القضية التي اضحت تشغل عالم اليوم تحت مسيات شتى من " عولمة - قرية كونية واحدة ... " حيث قال رحمه الله " أما العالمية : أو الإنسانية فهي هدفنا الأسمى وغايتنا العظمي وختام الحلقات في سلسلة الإصلاح . والدنيا صائرة إلى ذلك لا محالة فهذا التجمع في الأمم ، والتكتل في الأجناس والشعوب ، وتداخل الضعفاء بعضهم في بعض ليكتسبوا بهذا التداخل قوة ، وانضمام المتفرقين ليجدوا في هذا الانضمام أنس الوحدة ، كل ذلك ممهد لسيادة الفكرة العالمية وحلولها محل الفكرة الشعوبية القومية التي آمن بها الناس من قبل ، وكان لا بد أن يؤمنوا هذا الإيمان لتتجمع الخلايا الأصلية ، ثم كان لا بد أن يتخلوا عنها لتتألف المجموعات الكبيرة ، ولتحقق بهذا التآلف الوحدة الأخيرة. وهي خطوات إن أبطأ بها الزمن فلا بد أن تكون ، وحسبنا أن نتخذ منها هدفاً ، وأن نضعها نصب أعيننا مثلاً ، وأن نقيم هذا البناء الإنساني لبنته وليس علينا أن يتم البناء ، فلكل أجل كتاب ".

رسالة " دعوتنا في طور جديد "

ولم تقف الجماعة عند حد تقرير هذه المبادئ العامة الجامعة فقط بل فصلت في مواضع كثيرة وعبر سنين طويلة موقفها الواضح والصريح من كثير من القضايا التي تتصل بهذه المبادي الجامعة وتلك الأسس الكلية .

   فحول " موقف الإسلام من الأقليات والأجانب يقول الإمام البنا : " يظن الناس أن التمسك بالإسلام وجعله أساساً لنظام الحياة ينافي وجود أقليات غير مسلمة في الأمة المسلمة ، وينافي الوحدة بين عناصر الأمة ، وهي دعامة قوية من دعائم النهوض في هذا العصر ، ولكن الحق غير ذلك تماماً ، فإن الإسلام الذي وضعه الحكيم الخبير الذي يعلم ماضي الأمم وحاضرها ومستقبلها قد احتاط لتلك العقبة وذللها من قبل ، فلم يصدر دستوره المقدس الحكيم إلا وقد اشتمل على النص الصريح الذي لا يحتمل لبساً ولا غموضاً في حماية الأقليات ، وهل يريد الناس أصرح من هذا النص: (لا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَلَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَتُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ) (الممتحنة:8) ... فهذا نص لم يشتمل على الحماية فقط، بل أوصى بالبر والإحسان إليهم " .

ولم يقف فهم الجماعة كما حدده الإمام البنا عند هذا الحد ، بل امتد ليشمل تقديس الوحدة الإنسانية .

وفي هذا يقول الإمام البنا رحمه الله : " إن الإسلام الذي قدّس الوحدة الإنسانية العامة في قوله تعالى: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوباً وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا) (الحجرات:13) .

ثم قدس الوحدة الدينية العامة كذلك فقضى على التعصب وفرض على أبنائه الإيمان بالرسالات السماوية جميعا في قوله : (قُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطِ وَمَا أُوتِيَ مُوسَى وَعِيسَى وَمَا أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَنَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ ، فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ مَا آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ، صِبْغَةَ اللهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللهِ صِبْغَةً) (البقرة:136-138) .

ثم قدس بعد ذلك الوحدة الدينية الخاصة في غير صلف ولا عدوان فقال تبارك وتعالى : (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ) (الحجرات:10) .

هذا الإسلام الذي بني على هذا المزاج المعتدل والإنصاف البالغ لا يمكن أن يكون أتباعه سببا في تمزيق وحدة متصلة ، بل بالعكس إنه أكسب هذه الوحدة صفة القداسة الدينية بعد أن كانت تستمد قوتها من نص مدني فقط .

وقد حدد الإسلام تحديدا دقيقا من يحق لنا أن نناوئهم ونقاطعهم ولا نتصل بهم فقال تعالى بعد الآية السابقة :(إِنَّمَا يَنْهَاكُمُ اللهُ عَنِ الَّذِينَ قَاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَأَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيَارِكُمْ وَظَاهَرُوا عَلَى إِخْرَاجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَمَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولَئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ) (الممتحنة:9) .

أما موقف الجماعة من الأجانب عموما فقد بينه الإمام البنا بقوله :

" وموقفنا من الأجانب موقف سلم ورفق ما استقاموا وأخلصوا ، فإن فسدت ضمائرهم وكثرت جرائمهم فقد حدد القرآن موقفنا منهم بقوله: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطَانَةً مِنْ دُونِكُمْ لا يَأْلُونَكُمْ خَبَالاً وَدُّوا مَا عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ، هَا أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَلا يُحِبُّونَكُمْ) (آل عمران:118-119) .

وبذلك يكون الإسلام قد عالج هذه النواحي جميعا أدق العلاج وأنجحه وأصفاه .

رسالة " نحو النور "

وحول موقف الإسلام من العلاقة مع الغرب، كان فهم الجماعة الذي حدده الإمام الشهيد :

"قد يظن الناس كذلك أن نظم الإسلام في حياتنا الجديدة تباعد بيننا وبين الدول الغربية ، وتعكر صفو العلائق السياسية بيننا وبينها بعد أن كادت تستقر ، وهو أيضاً ظن عريق في الوهم ، فإن هذه الدول إن كانت تسيء بنا الظنون فهي لا ترضى عنا سواء تبعنا الإسلام أم غيره ، وإن كانت صادقتنا بإخلاص وتبودلت الثقة بينها وبيننا فقد صرح خطباؤها وساستها بأن كل دولة حرة في النظام الذي تسلكه في داخل أرضها ، مادام لا يمس حقوق الآخرين فعلى ساسة هذه الدول جميعاً : أن يفهموا أن شرف الإسلام الدولي هو أقدس شرف عرفه التاريخ ، وأن القواعد التي وضعها الإسلام الدولي لصيانة هذا الشرف وحفظه أرسخ القواعد وأثبتها.

فالإسلام الذي يقول في المحافظة على التعهدات وأداء الالتزامات: (وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً) (الاسراء:34) ، ويقول: (إِلا الَّذِينَ عَاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَلَمْ يُظَاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلَى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ) (التوبة:4) ، ويقول: (فَمَا اسْتَقَامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ) (التوبة:7) ، ويقول في إكرام اللاجئين وحسن جوار المستجير: (وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ) (التوبة:6) ، وهذا بالمشركين فكيف بالكتابيين؟

فالإسلام الذي يضع هذه القواعد ويسلك بأتباعه هذه الأساليب: يجب أن يعتبره الغربيون ضمانة أخرى ، تضمن لهم . نقول إنه من خير أوربا نفسها أن تسودها هذه النظريات السديدة في معاملات دولها بعضها لبعض، فذلك خير لهم وأبقى ".

رسالة " نحو النور "

وبعد أن وضعت الحرب العالمية الثانية المأساوية أوزارها، وقبل أن تبرد نيرانها التي اكتوت بها البشرية عامة والشعوب الأوروبية خاصة، خاطب الإمام الشهيد في إبريل من عام 1945 المؤتمر العالمي الذي انعقد في واشنطن وسان فرنسيسكو وضم الفحول من أقطاب الأمم وزعماء العالم للبحث في شئون أمم العالم المختلفة بمقال تحت عنوان " الإسلام شريعة الحضارة الإنسانية " ، قال فيه:

" ... إن عدة آلاف من من زعماء الشعوب والدول قد احتشدت في هذه البقاع الآن تفكر في مستقبل الإنسانية وتتلمس سبل السلام والهداية والخير والطمأنينه للناس .

.. هذه فرصة لنا نحن العرب ، ونحن المصريين لنقول للعالم : هاؤم أقرءوا كتابيه .. إننا لسنا كما يظن الناس همجا ولا متأخرين ، ولكنا منذ القديم وقبل أن تتفتح عين أوروبا على النور ، أو تكتشف أمريكا في العالم المتمدين المعروف .. كنا نتعامل بشريعة سامية المبادئ عالية المقاصد خصبة فصيحة تماشي العصور والأجيال وتسد حاجة من شاء من الأمم والشعوب.

.. هذه فرصة لنا وللعالم ، نريد أن نقول فيها للناس عامة وللمؤتمربن خاصة بملء أفواهنا .. إنكم تنشدون السلام وقد اجتمعتم هنا للناس ، وهذه الأمم كلها ترقب على أيديكم الطمأنينه والسلام .

ونحن العرب ، ونحن المسلمين ونحن الشرقيين قد ورثنا السلام في فلسفاتنا وفي أدياننا وفي كتنبا وفي تاريخنا الطويل العريض الزاهي المشرق ، حتى صار قطعة من أرواحنا ومعنى من معاني وجودنا وكياننا فقرآننا هدى ورجمة ونور وشفاء يقول لنبيه صلى الله عليه وسلم " وما أرسلناك إلا رحمة للعالمين " .. وإنجيلنا يعلن في الناس ´المسرة وعلى الأرض السلام ..

وليس في الدنيا كلها دين ولا نظام اجتماعي جعل السلام تدريبا عمليا يطبع به أنصاره ومعتنقيه كما جعل ذلك الإسلام في شريعته " الحج " وهي شريعة السلام .. فمنذ يحرم الحاج فقد صار سلاما لنفسه ، فلا يقص ظفرا ولا يحلق شعرال .. وصار يلاما لغيره من بني الإنسان فلا يجادل أدا ولا يعلن حربا ولا يثأر من خصم حتى ولو لقي قاتل أبيه لما استطاع أن يبسط له بالقول لسانا ولا بالأذى يدا " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " .. بل إنه ليكون سلاما لغيره من من الحيوان والنبات فلا يصطاد حيوانا ولا يعلم طائرا ولا يعضد شجرا ولا يقطع نباتا .

   وهكذا يظل الحاج في هذا الميدان من السلام ختى يتحلل .. فهل في الدنيا شريعة فرضت على أبنائها السلام كما فرضه على الحاج ، الإسلام ؟.

   نريد أن نقول للناس في هذه الفرصة ، ونصيح في أذن الدول القوية والشعوب القادرة المتحكمة .. هذه عناوين حياتنا ... سلام في سلام ، فمم تحافون !!؟ .

   لا تقفوا في طريق حريتنا ولا تحولوا بيننا وبين أن نستكمل قوتنا ولا تتهيبوا العدوان في وحدتنا بل ساعدونا على ذلك وإعينونا عليه ، وسترون من هذه النفوس التي طبعت بالسلام سدا منيعا يقف دون المبادئ الهدامة والأفكار المدمرة والثورات المخربة والمطامع الفاسدة، ويشيع في الدنيا كلها معنى الطمأنينة الحقة والسلام الدائم الصحيح .

نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم .. إنكم تريدون أن تعلنوا فكرة الإخاء والمساواة ، وهذه من مواريثنا وذخائر كنوزنا نحن المسلمين.. فإنما جاء ديننا ليقضي على نعرة الأجناس والألوان ، ويعلن المساواة بين بني الإنسانية " يا أيها الناس اتقوا ربكم الذي خلقكم من نفس واحدة وخلق منها زوجها وبث منهما رجالا كثيرا ونساءا واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحام إن الله كان عليكم رقيبا " .

   .. نريد أن نقول لهؤلاء المؤتمرين ولغيرهم إنكم اجتمعتم هنا لتقروا فكرة العدل لتكون دعامة السلام ومبدأ العقوبة لمن أبي إلا سبيل الإجرام ، وهذا بعض ما يحفظه صبياننا في المكاتب ويدرسه علماؤنا في المساجد، ونعلنه في مجتمعاتنا في الصباح وفي المساء ، لأن القرآن يقول:

   في العدل المقرون بالرحمة " إن الله يأمر بالعدل والإحسان " .

   وفي العدل في الحكومة " وإذا حكمتم بين الناس فاحكموا بالعدل ".

   وفي العدل مع الخصوم " ولا يجرمنكم شنآن قوم على أن لا تعدلوا ، اعدلوا هو أقرب للتقوى " .

   وفي العدل مع الأقارب والأصدقاء " كزنوا قوامين بالقسط شهداء لله ولو على أنفسكم أو الوالدين والأقربين، إن يكن غنيا أو فقيرا فالله أولى بهما ، فلا تتبعوا الهوى أن تعدلوا وإن تلووا أو تعرضوا فإن الله كان بما تعملون خبيرا "

   ثم يقول في حماية العدل بالقوة حين لا يجدي إلا العقاب " فإن بغت إحداهما على الأخرى فقاتلوا التي تبغي حتى تفئ إلى أمر الله ، فإن فاءت فاصلحوا بينهم بالعدل وأقسطوا إن الله يحب المقسطين " .

   ... نريد أن نقول كل هذا ، وأن نؤدي بهذا القول واجبنا نحو أنفسنا وميراثنا وديننا ووطننا ، ونحو العالم كله .. فنحن مطالبون ولا شك بأن نضع لبنة في هذا البناء الإنساني الجديد ، والعجيب أن عندنا نحن أفضل اللبنات .. بل إننا لنستطيع أن نقيم على دعائم حضارتنا ، للناس لو أرادوا ، بناء على أمتن القواعد وأحدث النظم والمبتكرات وصدق الله العظيم : " قد جاءكم من الله نور وكتاب مبين يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذنه ، ويهديهم إلى صراط مستقيم " .

   فإلى الذين يستطيعون القول ويكون لقولهم أثره وخطره ، وإلى الذين يستمعون القول فيتبعون أحسنة .. نتقدم بهذه الكلمات .

وإذا كان العالم يجتاز هذه الأيام مرحلة غير مسبوقة في تاريخه ، تتمثل في السرعة الكبيرة التي تحدث بها التغيرات الكبري في الأفكار والنظم والقيم ، وفي موازين القوي السياسية والإقتصادية والعسكرية ، والمسلمون وهم جزء من هذا العالم لا يقفون بعيدا عن ذلك كله ... ولا يملكون أن يديروا أمورهم كما لو كانوا أصحاب جزيرة نائية يستطيع أصحابها أن يعفوا أنفسهم من تبعات هذه المرحلة التاريخية ومن مخاطرها وتحدياتها .

   وإن من أخطر الظواهرالتي صاحبت ، ولا تزال تصاحب هذه المرحلة التاريخية عند ملتقي مسارات الانسانية المختلفة ، إختلاط المفاهيم، وتشابك الخيوط والخطوط ، وذيوع الإنطباعات الخاطئة عن الآخرين ، وكلها أمور لعب الإعلام العالمي في خلقها وتزكيتها دوراً بالغ الخطورة ، جسيم الضرر .

   وقد أصاب المسلمين من ذلك كله سهام طائشة مسمومة صورتهم كما لو كانوا شعوبا بدائية همجية مجردة من الحس الإنساني ، والوعي العقلي ، والتجربة العملية لسنة التطور والتقدم ، منكرة لحقوق الآخرين في الحياة وفي الحرية وفي إختلاف الرأي وتباين النظر .. حتي أوشكت الدنيا أن تسئ الظن بكل ما هو إسلامي وكل من هو مسلم .

 

    ومن الأمانة أن نعترف - جميعا - بأن جزءا من المسئولية من هذا الخلط الظالم يقع علي عاتق المسلمين لما يقدمه بعضنا من أفكار ورؤي ، وما يمارسونه من مواقف عملية تشهد لهذا الظن السيئ وتفتح أبواب التوجس المشروع وغير المشروع وتنسب الي الإسلام - وسط ذلك كله - أمورا لا أصل لها فيه ، ولا شاهد لها من مبادئه وقواعده ونصوصه ، فضلا عن قيمه العليا ومقاصدة الكبري .

وإذا كان الاخوان المسلمون قد رأوا أن من حق الناس عليهم وحقهم علي أنفسهم أن يعلنوا - بنبرة عالية وصوت جهير وحسم لا تردد فيه - عن موقفهم الواضح من عدد من القضايا الكبري التي هي موضع الحوار القائم بين أصحاب الحضارات المختلفة ... فإن إستمرار محاولات التشكيك وسوء الظن المتعمد ، وإختلاق الأقاويل والأراجيف ، إضراراً بالتيار الحضاري الاسلامي في عمومه ، ورداً علي من يحاربونه ويحرصون هلي إزاحته من الطريق ، يجعلنا نعود من جديد لنعلن في وضوح كامل موقفنا من :

قضية الموقف العام من الناس جميعا مسلمين وغير مسلمين

وهنا نبادر فنقول ، إن موقفنا من هذه القضايا ومن غيرها ليس مجرد موقف انتقالي واختياري قائم علي الاستحسان ، وإنما هو موقف منتسب الي الإسلام ملتزم بمبادئه صادر عن مصادره ... وعلي رأسها كتاب الله تعالي والسنة الصحيحة الثابته عن نبيه صلي الله عليه وسلم ، والاخوان المسلمون يرون الناس جميعا حملة خير ، مؤهلين لحمل الأمانة والاستقامة علي طريق الحق ، وهم لا يشغلون أنفسهم بتكفير أحد إنما يقبلون من الناس ظواهرهم وعلانيتهم ولا يقولون بتكفير مسلم مهما أوغل في المعصية ، فالقلوب بين يدي الرحمن ، وهو الذي يؤتي النفوس تقواها ، ويحاسبها علي مسعاها .

   ونحن الإخوان نقول دائما أننا دعاة ولسنا قضاة ، ولذا لا نفكر ساعة من زمان في إكراه أحد علي غير معتقده أو مايدين به ، ونحن نتلوا قوله تعالي : لا إكراه في الدين .

 وموقفنا من إخواننا المسيحيين في مصر والعالم العربي موقف واضح وقديم ومعروف ... لهم مالنا وعليهم ماعلينا ، وهم شركاء في الوطن ، وأخوة في الكفاح الوطني الطويل ، لهم كل حقوق المواطن ، المادي منها والمعنوي ، المدني منها والسياسي ، والبر يهم والتعاون معهم علي الخير فرائض إسلامية لا يملك المسلم أن يستخف بها أو يتهاون في أخذ نفسه بأحكامها ، ومن قال غير ذلك أو فعل غير ذلك فنحن برءاء منه ومما يقول ويفعل ...

   إن ساسة العالم وأصحاب الرأي فيه يرفعون هذه الأيام شعار " التعددية " وضرورة التسليم بإختلاف رؤي الناس ومذاهبهم في الفكر والعمل .

   والاسلام ، منذ بدأ الوحي الي رسول الله صلي الله عليه وسلم يعتبر إختلاف الناس حقيقة كونية وإنسانية ، ويقيم نظامه السياسي والاجتماعي والثقافي علي أساس هذا الاختلاف والتنوع وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا ، والتعددية في منطق الإسلام تقتضي الاعتراف بالآخر ، كما تقتضي الاستعداد النفسي والعقلي للأخذ عن هذا الآخر فيما يجري علي يديه من حق وخير ومصلحة ... ذلك أن " الحكمة ضالة المؤمن أني وجدها فهو أحق الناس بها "

   لذلك يظلم الاسلام والمسلمين أشد الظلم من يصورهم جماعة مغلقة منحازة وراء ستار يعزلها عن العالم ، ويحول بينها وبين تبادل الأخذ والعطاء مع شعوبه ... والإخوان المسلمون يؤكدون - من جديد - التزامهم بهذا النظر الإسلامي السديد الرشيد ... ويذكرون أتباعهم والآخذين عنهم ، بأن علي كل واحد منهم أن يكون - فيما يقول ويعقل - عنوانا صادقا علي هذا المنهج ... يألف ويؤلف ... ويفتح قلبه وعقله للناس جميعا ... لا يستكبر علي أحد ... ولا يمن علي أحد ... ولا يضيق بأحد ... وأن تكون يده مبسوطه الي الجميع بالخير والحب والصفاء ، وأن يبدأ الدنيا كلها بالسلام ... قولا وعملا ... فبهذا كان رسولنا صلي الله عليه وسلم إمام رحمة ومهداه الي العالمين ... وبهذا وحده يصدق الانتساب اليه صلي الله عليه وسلم والي الحق الذي جاء به .. ولو كنت فظا غليظ القلب لانفضوا من حولك ، وإنه لذكر لك ولقومك وسوف تسألون .

الاخوان ... وقضية العنف والارهاب

   وسبق أن أوضح الإخوان موقفهم من قضية العنف والارهاب بكل الصراحة والوضوح وهو :

   أنهم يدينون العنف ويستنكرونه ويرفضون كل اشكاله وصوره وايا كانت مصادره وبواعثه ، وذلك علي اساس فهمهم لقيم الاسلام ومبادئه وتعاليمه . كما سبق وأكد الاخوان مرارا علي ضرورة إيقاف أعمال العنف والعنف المضاد من منطلق وقاية البلاد من نزيف الدم الذي حرمه الله والحفاظ علي المجتمع من الإنهيار الإجتماعي والخراب الاقتصادي والذي لن يستفيد من ورائه إلا أعداء الإسلام وخصوم المسلمين .

   وقد أدي الاخوان المسلمون دورهم بالنسبة لهذه القضية علي أكمل وجه ممكن ، وبما تتيحه طاقاتهم وامكاناتهم ، فعقدوا لذلك العديد من الندوات والمحاضرات والمؤتمرات واللقاءات العامة ، واصدروا البيانات والنشرات والكتيبات لتوعية المواطنين ( وبخاصة الشباب ) وتنبيه الرأي العام لمخاطر العنف والعنف المضاد وأثره السلبي علي أمن واستقرار مصر ، فضلا عن دورها الريادي تجاه امتها العربية والإسلامية ، كما أن الاخوان حالوا - من خلال التربية المستمرة والتوجيه المباشر للشباب - دون وقوع عشرات الآلاف منهم في براثن أعمال العنف ، وكم لهذا آثاره وانعكاساته البعيدة المدي علي تحجيم هذه الاعمال وعدم تناميها وانتشارها .

    وقد ظهر للشعب المصري ، بل وللعالم كله في شتي بقاع الارض ما تحمله دعوة الاخوان المسلمين من حكمة واعتدال وبعد نظر وحرص علي إسعاد البشر ، كل البشر ، ولم يحدث خلال الأزمات الماضية والحالية علي كثرتها - والتي كان من الممكن أن تعصف بأمن الوطن وإستقراره - أن استغل الاخوان اية فرصة لتصفية حسابات ، أو ممارسة أي عمل من أعمال العنف ( ولو علي المستوي الفردي ) ، أو عقد اتفاقات أو تشجيع ممارسات من شأنها أن تضر بالصالح العام ، بل كانوا حريصين كل الحرص علي أمن وسلامة وطنهم وهدوء واستقرار مجتمعهم ، وذلك من منطلق إيمانهم بربهم ، وحبهم لإسلامهم والتزامهم بأصول دعوتهم .

بيان الإخوان بتاريخ 18 يونيو 1994

   وقد تعددت البيانات الصادرة عن الجماعة والتى تدين العنف وتعبر فيها عن رأيها فى هذا الخصوص .. وقد قامت كل الصحف فى العالم بنشرها فى حينها إما كاملة أو مقتطفات منها ، بحيث لم يعد أحد يجهل رأى الإخوان فى هذه القضية . وكان من ابرز البيانات التى صدرت ، ذلك البيان الجامع الصادر فى 30 من ذى القعددة 1415 هـ /30 من ابريل 1995مـ ، والذى جاء فيه :

" لقد أعلن الإخوان المسلمون عشرات المرات خلال السنوات الماضية أنهم يخوضون الحياة السياسية ملتزمين بالوسائل الشرعية والأساليب السلمية وحدها ، مسلحين بالكلمة الحرة الصادقة ، والبذل السخى فى جميع ميادين العمل الاجتماعى ...مؤمنين بأن ضمير الأمة ووعى ابنائها هما فى نهاية الامر الحكم العادل بين التيارات الفكرية والسياسية التى تتنافس تنافسا شريفا فى ظل الدستور والقانون ، وهم لذلك يجددون الإعلان عن رفضهم لأساليب العنف والقسر لجميع صور العمل الإنقلابى الذى يمزق وحدة الأمة ، والذى قد يتيح لأصحابه فرصة القفز على الحقائق السياسية والمجتمعية ، ولكنه لا يتيح لهم أبداً فرصة التوافق مع الإرادة الحرة لجماهير الأمة ... كما أنه يمثل شرخا هائلا فى جدار الاستقرار السياسى ، وإنقضاضا غير مقبول على الشرعية الحقيقية فى المجتمع .

وإذا كان جو الكبت والقلق والإضطراب الذى يسيطر على الأمة قد ورط فريقا من أبنائها فى ممارسة إرهابية روعت الأبرياء وهزت امن البلاد ، وهددت مسيرتها الاقتصادية والسلمية ، فإن الاخوان المسلمين يعلنون - فى غير تردد ولا مداراه - أنهم برءاء من شتى أشكال ومصادر العنف ، مستنكرون لشتى أشكال ومصادر الإرهاب ، وأن الذين يسفكون الدم الحرام أو يعينون على سفكه شركاء فى الاثم ، واقعون فى المعصية ، وأنهم مطالبون فى غير حزم وبغير إبطاء أن يفيئوا الى الحق ، فإن المسلم من سلم الناس من لسانه ويده ، وليذكروا - وهم فى غمرة ماهم فيه - وصية الرسول صلى الله عليه وسلم فى حجة وداعه " أيها الناس إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم الى يوم القيامة كحرمة يومكم هذا فى عامكم هذا فى بلدكم هذا ".

والأمر فى ذلك كله ليس أمر سياسة أو مناورة ، ولكنه أمر دين وعقيدة ، يلقى الاخوان المسلمون عليهما ربهم ( يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم "

الإخوان المسلمون - 30 من ذى القعدة 1415 ه / 30 من أبريل 1995 .

وإذا كان البعض يرفع راية حقوق الإنسان في الوقت الحاضر مدعيا أنه المدافع عنها وحامل لوائها الأول .. فإن جماعة الإخوان المسلمين قبل هؤلاء جميعا قد ارتقت بهذا الحق ورفعته إلى مصاف الفريضة الدينية معلنه " أن الإسلام كان ولا يزال النموذج الفكري والسياسي الوحيد الذي كرم الانسان والانسانية مرتفعا بهذا التكريم فوق اختلاف الألسنة والألوان والأجناس ، وأنه منذ اللحظة الأولي لمجيئه قد عصم الدماء والحرمات والأموال والأعراض وجعلها حراما ، جاعلا من الالتزام المطلق بهذه الحرمات فريضة دينية وشعيرة إسلامية لا يسقطها عن المسلمين إخلال الآخرين "ولا يجرمنكم شنآن قوم علي ألا تعدلوا، اعدلوا هو أقرب للتقوي " ..

   " وبقي - هنا كذلك - أن نقول لأنفسنا ولكل الأخذين عنا وللدنيا من حولنا ، أننا في مقدمة ركب الداعين الي إحترام حقوق الإنسان وتأمين تلك الحقوق للناس جميعا ، وتيسير سبل ممارسة الحرية في إطار النظم الأخلاقية والقانونية ، إيمانا بأن حرية الانسان هي سبيله الي كل خير ، والي كل نهضة وكل إبداع ...

   إن العدوان علي حقوق والحريات تحت أي شعار ولو كان شعار الاسلام نفسه يمتهن إنسانية الانسان ، ويرده الي مقام دون المقام الذي وضعه الله فيه ، ويحول بين طاقاته ومواهبه وبين النضج والازدهار ، ولكننا ونحن نعلن هذا كله نسجل أمام الضمير العالمي ، أن المظالم الكبري التي يشهدها هذا العصر إنما تقع علي المسلمين ولا تقع من المسلمين ، وأن علي العقلاء والمؤمنين في كل مكان أن يرفعوا أصواتهم بالدعوة الي المساواة في التمتع بالحرية وحقوق الانسان ، فهذه المساواة هي الطريق الحقيقي الي السلام الدولي والاجتماعي وإلي نظام عالمي جديد يقو م الظلم والأذي والعدوان " .

"بيان للناس" إبريل 1994

وبعد

   هذا كتابنا في يميننا ، وهذه شهادتنا بالحق علي أنفسنا ، وهذه دعوتنا بالحكمة والموعظة الحسنة الي صفحة جديدة في علاقات الناس والشعوب ، تنتزع بها جذور الشر ويفئ بها الجميع الي ساحة العدل والحرية والسلام .