كَلِمَةٌ أُخْرى فِي الْمَنْهَجِ
كَلِمَةٌ أُخْرى فِي الْمَنْهَجِ
د. محمد جمال صقر
يَرى أبناؤنا المدارس والجامعات وأهلَها ، ونُغريهم ؛ فَتَتَعَلَّقُ أفئدتهم . يدخلون مع الداخلين ، ويخوضون مع الخائضين ، وغايتُهم التي يرونها غاية أهل المدارس والجامعات ونغريهم بها ، أن يختطفوا شهادة تؤهلهم لعمل مُريح مُربح يضمن لهم حياة ناعمة !
تَطْبَعُهم هذه الغايةُ ( نَعيمُهُمْ ) من مُبتدئهم إلى مُنتهاهم ، بطابعها الذي يُصَرِّفُ شؤونهم ، فيمضون إليها على مَنهجٍ مُرَبَّعٍ واضح لا يزيغ عنه إلا أحمق :
لا عُذْرَ لتَعَبٍ |
لا عُذْرَ لخَسارَةٍ |
لا ذَنـْبَ لراحَةٍ |
لا ذَنـْبَ لرِبْحٍ |
ولما كانوا في أصولهم مختلفين طاقة فطرة الله التي فطرهم عليها ، صاروا في أعمالهم مختلفين درجة ، ولكن بقي كلٌّ منهم يحسد الآخر على نصيبه من النعيم !
ويَرى أبناؤنا المدارس والجامعات وأهلَها ، ونُغريهم ؛ فتتعلَّقُ أفئدتهم . يُداخلون ويُمازجون ، وغايتُهم التي يرونها غايةَ أهل المدارس والجامعات ونغريهم بها ، أن يستوعبوا حضارتهم على الوجه الذي يَكْفُلُ لها حياة ناعمة !
تَطْبَعُهُمْ هذه الغايةُ ( نَعيمُ حَضارَتِهِمْ ) من مبتدئهم إلى منتهاهم ، بطابعها الذي يصرف شؤونهم ، فيمضون إليها على مَنهجٍ مُرَبَّعٍ لا يزيغ عنه إلا أحمق :
لا عُذْرَ لراحَةٍ |
لا عُذْرَ لرِبْحٍ |
لا ذَنـْبَ لتَعَبٍ |
لا ذَنـْبَ لخَسارَةٍ |
ولما كانوا في أصولهم مختلفين طاقةً فِطرةَ الله التي فطرهم عليها ، صاروا في أعمالهم مُتعاونين خِدمةً ، ولكن بقي كل منهم يغبط الآخر على نصيبه من خدمة الحضارة .
تلك الأولى حال الغفلة حين تضرب أطنابها على الناس فتُرْديهم ، وهذه الآخرة حال الوعي حين يبسط حُلَلَهُ للأمة فيُنْجيها . فإن كانت هذه حالنا وجب أن نتمسك بها ، وإن كانت الأخرى وجب أن نَتَحَوَّلَ عنها ، وإن اجتمعت في حالنا صفات منهما وجب أن نصطنع من الدواء ما نعالجها به ؛ فإن غلبت عليها صفات الغفلة ، استخلصنا صفات الوعي وحميناها حتى تشتد ، وإن غلبت عليها صفات الوعي ، انتزعنا صفات الغفلة وحبسناها حتى تضمر .
لا ريب في أن أبناءنا أصغر أحيانا من أن يدركوا جلال الغاية الجليلة ، ولكن لا ريب في أنهم بذور المدركين التي إن أُهملت عَطِبَتْ وفَسَدَ الزرع ، وإن رُعيت سَلِمَتْ وصَلَحَ الزرع . إن أبناءنا ينابيع التَّخَيُّل الثَّرَّةَ ، إن خَيَّلْنا لهم ثمرةَ الغاية الجليلة تَخَيَّلوها وطلبوها وتمسكوا بها ، فلم لا نفعل ؟
حَضارتنا كغيرها ، شجرة حية ، جذرها المعنويات ( الثقافة ) وفرعها الماديات ، ولا حياة للفرع إلا بالجذر ، ولا سُطوع للجذر إلا بالفرع ، ولا يخرج ما يعرض لنا نحن وأبنائنا كل يوم ( خبر ، هاتف ، مقال ، صحيفة ، حديث ، مذياع ، خطبة ، تلفاز ، قصيدة ، كتاب ... ) - عن أن يكون من معنويات الحضارة أو من مادياتها ، فلم لا نحفز أبناءنا كل يوم بالأعمال المُوفَّقة إلى أن يعملوا مثلها ، وبالعمال المُوَفَّقين إلى أن يكونوا مثلهم ، وبافتقار الماديات والمعنويات كلٍّ منهما إلى الأخرى ، إلى ألا يحقروا منها شيئا أو ينسوا بشيء منها شيئا ؟
لم أنشأ على هذا الذي صرت أعيه وأنشئ عليه أبنائي ، ولكنني رُزِقْتُ أبـًا فَقيهًا حافظًا نَديًّا شاعرًا لغةً ولهجةً مُزَخْرفًا خَطّاطًا ، حَمَلَني – أَحْسَنَ اللهُ إليه ! – على حفظ القرآن ، وتسرَّبت إليَّ من هذا الذي وُهِبَهُ ولم يكتمه ، لطائفُ إشاراتٍ دَبَّ بها فيَّ العلمُ والفنُّ العَرَبيّانِ ، ورُزقتُ من أفاضل المدرسين – ولا سيما الأستاذ محمد عثمان بالابتدائي ، والأستاذ عبد القادر إسكاف بالثانوي ، والأستاذة منى عبد الحميد ( أختي ) بمدى العمر – مَنْ رَعى ذلك حتى اخْتَلَطَ بنفسي .
ولما لم أنشأ على ذلك الذي صرت أعيه وأنشئ عليه أبنائي ، تَلَعَّبَتْ بي أحوال الحياة فارتفعتْ وانخفضتْ غيرَ مُستثنيةٍ ما اختلط بنفسي ، ثم ارتفعتْ ؛ فانتصحتُ بنصيحة من أشار عليَّ بكلية دار العلوم من جامعة القاهرة ، حَرَسَها الله !
في هذه الكلية تفرح اللغة العربية بطلابها ( الأساتذة والتلامذة ) الذين يَتَتَبَّعونها منذ أن هَلْهَلَها عَديٌّ إلى أن هَلْهَلَها صَلاحٌ ، لا يَفْتُرون ! فَرَجَعْتُ حاليَ الأولى ، وَرَعَيْتُها ، وهَذَّبْتُها ؛ حتى أخذتْ بيدي إلى مجلس الأستاذ محمود محمد شاكر ، رحمه الله !
في هذا المجلس تجول الحضارة العربية الإسلامية ، وتصول بلسان أستاذنا على غيرها مما كان ويكون . فعرفتُ غايتي وطلبتُها وتمسكتُ بها .
لقد وُفِّقْتُ عَفْوًا إلى الوجهة الصحيحة ، حتى لأراها لم تكن تصلح إلا لي ولم أكن أصلح إلا لها . فكيف لو لم أوفَّقْ إليها ؟ لَكَأَنّي بِيَ عندئذ أُعادي عملي ويعاديني ؛ فأضيع لديه ويضيع لديّ .
مَشْغَلَةُ الحياة التي نَشِبَتْ فينا ، أَبْخَلُ من أن تسمح لنا بأن نَتَعاهد أبناءنا كما ينبغي ، ولكنها أضعف من أن تمنعنا توجيههم إلى ما يلائمهم ، وتَيْسير سُبُلِهِ لهم ، أو عدم تعسيرها عليهم ، وهذا أضعف الإيمان !
وتلامذتنا أبناؤنا ، أَسْرارُنا التي ستَفْتَضِحُ ، من رآهم ورأى أعمالهم رآنا ورأى أعمالنا ، ينبغي أن نَتَأَتّى :
1. بحسن صُحبتهم ليرتاحوا لنا ؛ فيَوَدّونا ،
2. وبتَحَرّي مصلحتهم ليثقوا بنا ؛ فينتصحوا بنصحنا ،
3. وبرعاية إنجازهم أعمالهم ليستوعبونا ؛ فيزيدوا علينا .
لا سَبيلَ غَيرُ ذلك .