حتى ننتصر ...

د . أسامة عثمان - كاتب وباحث من فلسطين

[email protected]

بالرغم من التقدم الملموس في مسيرة الأمة نحو الاعتصام بهذا الدين ؛ وما يؤشر على ذلك من ارتفاع في منسوب الوعي على الإسلام ، واهتمام متزايد من أبناء الأمة بقضاياها في فلسطين والعراق وأفغانستان وغيرها ، وبالرغم من التضحيات الغالية التي يبذلها أبناؤها شبابا وكهولا وشيوخا ... بالرغم من ذلك وغيره ، فإن الأمة لا زالت دون المستوى الجدير بتنزل نصر الله عليها ، وهذا يدعونا إلى إعادة النظر ؛ لتلمس الأسباب ، أو السبب في ذلك ؛ فأين مكمن الخلل ؟ وهل من حل؟

ولدى النظر في النصوص الشرعية نجدها تشترط في نزول النصر حالة معينة ، سماها الله سبحانه نصرتنا له ، وهذا الانتصار يرجى ،و يترقب   حين تدب العافية في جسم الأمة ؛ ذلك أن الأمة لا تنتصر بعدد ولا عدة ، وإنما تنتصر بهذا الدين ؛ فإن لم تتمثله كما تمثله سلفنا الصالح ؛ فإنها تغدو وعدوَّها موحدين أمام المقاييس المادية للغلبة التي تنحاز للأقوى ماديا ، ونحن إنما نمتاز عن غيرنا بالدين ؛ فإن كانت مصيبتنا في ديننا فلا فضل لنا عليهم  فلا بد أن يدرك المسلمون الداء ، حتى يتوجهوا جادين للتلبس بالدواء ، ويتوجب هنا التفريق بين أساس الداء وأعراضه الناجمة عنه ؛ حتى لا نقدم العرض على السبب الجوهري .

فليست المعضلة في الجهل السياسي ، ولا في التدني العلمي ، ولا في الانحطاط الفكري ولا في التخلف التقني  ، ولا في غير ذلك ، وإن كانت المذكورات مشكلاتٍ تستلزم معالجة ومجهودات من أبناء الأمة الغُيُر .

الخلل يعرفها الكثيرون ؛ ولكن أكثرهم يتجاهله ، أو قد يستهين به ؛ إنه إيثار الدنيا على الدين ، واتباع الهوى ؛ والنتيجة  مراهنة على الأوهام ، وتضييع للطاقات .

ولا أريد في هذه المقالة التوسع في ذكر النصوص الشرعية التي دلت على هذه الملازمة بين حب الدنيا والتراجع ، ولا أدل على ذلك من حديث الرسول – صلى الله عليه وسلم – :"      يوشك الأمم أن تداعى عليكم كما تداعى الأكلة إلى قصعتها . فقال قائل : ومن قلة نحن يومئذ ؟ قال : بل أنتم يومئذ كثير ؛ ولكنكم غثاء كغثاء السيل ، ولينزعن الله من صدور عدوكم المهابةَ منكم ، وليقذفن الله في قلوبكم الوهْن . فقال قائل : يا رسول الله ! وما الوهن ؟ قال : حب الدنيا وكراهية الموت " رواه أبو داود ، وصححه الألباني . وقد جاء في شرح الحديث في كتاب عون المعبود :" يأخذون ما في أيديكم بلا تعب ينالهم أو ضرر يلحقهم أو بأس يمنعهم . قاله القاري قال في المجمع : أي يقرب أن فرق الكفر وأمم الضلالة أن تداعى عليكم ، أي يدعو بعضهم بعضا إلى الاجتماع لقتالكم وكسر شوكتكم ؛ ليغلبوا على ما ملكتموها من الديار , كما أن الفئة الآكلة يتداعى بعضهم بعضا إلى قصعتهم التي يتناولونها من غير مانع فيأكلونها صفوا من غير تعب "

هذا وحب الدنيا ،  موطن الابتلاء ، ومكمن الافتتان     فالناس به مبتلون ، من لدن كُلّفوا إلى أن يلاقوا ربهم ؛ لا فرق في ذلك بين خاصة وعامة ، ولا علماء  وجهلة ، ولا حكام ومحكومين ، قال سبحانه "  زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَوَاتِ مِنَ النِّسَاءِ وَالْبَنِينَ وَالْقَنَاطِيرِ المُقَنطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ وَالْخَيْلِ المُسَوَّمَةِ وَالأَنْعَامِ وَالْحَرْثِ ذَلِكَ مَتَاعُ الحَيَاةِ الدُّنْيَا وَاللَّهُ عِندَهُ حُسْنُ المَآبِ{آل عمران : 14}  وفي تفسير الطبري "      زين للناس محبة ما يشتهون من النساء والبنين وسائر ما عد . وإنما أراد بذلك توبيخ اليهود الذين آثروا الدنيا وحب الرياسة فيها على اتباع محمد صلى الله عليه وسلم بعد علمهم بصدقه . وكان الحسن يقول : من زينها ما أحد أشد لها ذما من خالقها . .. , عن أبي بكر بن حفص بن عمر بن سعد , قال : قال عمر : لما نزل : { زين للناس حب الشهوات } قلت : الآن يا رب حين زينتها لنا ! فنزلت : { قل أؤنبئكم بخير من ذلكم للذين اتقوا عند ربهم جنات تجري من تحتها الأنهار } . .. الآية ." فالآية الكريمة ألفاظها عامة " للناس "  فليس أحد بمنأى عن الوقوع في حبائلها ؛ إلا الأنبياء المعصومين  ، حتى الصحابة الكرام ، خشي عليهم من الدنيا أن تستدرجهم إلى متعها ، ونعيمها.

وقد لفت القرآن الكريم إلى أن بعض الصحابة الكرام  قد تسرب إلى نفوسهم في يوم أحد حبُّ الدنيا ؛ حتى دفعهم ذلك إلى مخالفة أوامر الرسول – صلى الله عليه وسلم –  وفي الطبري  " عن ابن عباس , قال : كان ابن مسعود يقول : ما شعرت أن أحدا من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم كان يريد الدنيا وعرضها حتى كان يومئذ . .. , عن ابن إسحاق { منكم من يريد الدنيا } أي الذين أرادوا النهب رغبة في الدنيا وترك ما أمروا به من الطاعة التي عليها ثواب الآخرة , { ومنكم من يريد الآخرة } أي الذين جاهدوا في الله لم يخالفوا إلى ما نهوا عنه لعرض من الدنيا رغبة في رجاء ما عند الله من حسن ثوابه في الآخرة . " هذا مع ما عُرف عن الصحابة الكرام – عليهم رضوان الله – واشتهر من زهد في الدنيا ، وتعلق بالآخرة .

ولا يخفى أن لزوم هذه الخشية على المسلم من الدنيا ؛ أن تأخذه ناجم عن الحب الشديد المركوز في الإنسان لها ، وقد أطلق القرآن الكريم على هذا الميل للدنيا دون ضابط من الشرع اسم الهوى ، وذمّه في كل المواضع ، وأمر المؤمن بمحاربته ، دون هوادة ، قال تعالى : "  فَإِن لَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّمَا يَتَّبِعُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَمَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَوَاهُ بِغَيْرِ هُدًى مِّنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لاَ يَهْدِي القَوْمَ الظَّالِمِينَ{القصص : 50} والهوى قد يُرْدي متّبعَه إلى الكفر ، كما أنه يورطه في الفسوق والعصيان .

وكثير من المسلمين اليوم استبدت بهم الدنيا واستحوذت عليهم ، حتى  صرنا لا نميز كثيرا مِن المسلمين في سلوكاتهم ومواقفهم عن غير المسلمين ؛ فهم يحرصون على المنفعة الذاتية أكثر من حرصهم على نصرة قضايا الدين والأمة ، ويلهثون وراء الدنيا كمن يخشى فواتها ، ويبددون أعمارهم في لهو منظم ... فكان من جراء ذلك ضياعُ قسم من مقدسات الأمة ، وكثير من مقدراتها ... فلسطين ...أفغانستان... والعراق ...، ولا ندري هل يتوقف هذا الانحدار ، أم يستمر حتى حين ، ومن جراء حب الدنيا لم تأمر الأمة بالمعروف ، ولم تنهَ عن المنكر ، إلا من رحم ربي ، وقليل ما هم ، ومن أجل الدنيا دبَّ الخلاف والشقاق بين المسلمين ، حتى في البلد الواحد ، وصار ، ويا لَلأسف ، بأسُ المسلمين بينهم شديد ، هذا فضلا عن الاستهانة بحرمات الله وانتهاكها جهارا ؛ كالتعامل في الربا ، والاختلاط المحرم بين الرجال والنساء ، وقضاء الأوقات في اللهو المحرم ، على حساب تربية النفوس والأزواج والأبناء ؛ حتى أفضى ذلك إلى خروج قسم من الأبناء على سلطة الآباء إلى أحضان المُلهيات المحبطة والممارسات المحرمة ، وباختصار فقد أودى حب الدنيا بالناس ، وأفقدهم كثيرا من المناعة المكتسبة من هذا الدين ومعانيه الإيمانية ؛ فأين المخرج ؟ وكيف الخلاص ؟

العلاج  :

لن أستفيض في وصف  العلاج فله حكماؤه وأطباؤه ؛ ولذلك مظانُّه ، من مُؤَلفات أئمة الإسلام العظام وكتبهم في تزكية النفوس ومجاهدتها ،   وإنما أقتصر على الإشارة ، وحسبي في هذا المقام ذلك ؛ فأقول : إن وقوف عامة المسلمين على أبواب المعاني الإيمانية دون  النَّهل من مائها العذب الزلال ؛ عرّضهم للعطش والجفاف ؛ فأضحوا فريسة سهلة للدنيا ومغرياتها البراقة الخادعة ؛ فالدنيا خضرة حلوة ؛ تنازع الإنسان دوما ، وتستدرجه بالشهوات ، يساندها في ذلك من الإنسان دواع ، ومن الشيطان أخرى ؛ فلا يكاد يُنجى منها إلا بالصبر والمجاهدة .

 والحق أن الإيمان  بالعقيدة الإسلامية ، كما آمن بها الصحابة الكرام هو الحل ، والترياق الشافي  من أوجاعنا الفردية والجماعية ؛ فالإيمان بالله والتوكل عليه ، واليقين بأن الأجل بيد الله وحده ، وأن الله مقسم الأرزاق ، وأن قدرته مطلقة ، وأن أمره بين الكاف والنون ، وأنه سبحانه منزل النصر بأمره ووَفق حكمته ، وغير ذلك مما لا إيمان للمرء إلا به ،  يجعل المسلم شديدَ التعلق بالله ، آخذا بالأسباب ، مع اعتقاده ، بأنها تنتج مسبَّباتِها بتوفيق الله ، لا بالحسابات المادية ، إنّ من شأن ذلك أن يرفع الهمم ، فلا عاصم من الهزات والنكبات التي تلحق المسلمين هذه الأيام مثلُ الإيمان بتلك المعاني وغيرها وحسن التصور لها .

ولا بد لهذه العقائد حتى تُؤتي ثمارها من حسن التصور لها ، وليس المعرفة بها ، أو مجرد التصديق بها ،  فالإيمان : ما وقر في القلب وصدقه العمل ونطق به اللسان، والناس في ذلك متفاوتون متفاضلون جاء في شرح العقيدة الطحاوية : " والتصديق بالقلب ليس الناس فيه سواءً، فليس إيمان أبي بكر الصديق كإيمان الفاسق من المسلمين؛ لأن الفاسق من المسلمين إيمانه ضعيف جداً، وإيمان أبي بكر الصديق يعدل إيمان الأمة كلها " وإنك تجد القرآن الكريم حين يتحدث عن الإيمان ، يقرنه بالعمل ومن ذلك قوله‏‏ تعالى : {  الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ طُوبَى لَهُمْ وَحُسْنُ مَئَابٍ{الرعد : 29}   وغيرها الكثير من الآيات ، فالإيمان يُنتج العمل ، وبحسبه يقوى الالتزام أو يضعف ، وحديث الأمر بالمعروف المشهور يربط الأمر والمعروف والنهي عن المنكر وجودا وعدما بالإيمان قوة وضعفا : " من رأى منكم منكرا فليغيره بيده ؛ فإن لم يستطع فبلسانه ، فإن لم يستطع فبقلبه ، وذلك أضعف الإيمان  "  رواه مسلم . وفي صحيح مسلم أيضا :

في موضوع :" الإيمان : بيان كون النهي عن المنكر من الإيمان وأن الإيمان يزيد أن رسول الله ‏ ‏صلى الله عليه وسلم ‏ ‏قال ‏ ‏ما من نبي بعثه الله في أمة قبلي إلا كان له من أمته ‏ ‏حواريون ‏ ‏وأصحاب يأخذون بسنته ويقتدون بأمره ، ثم إنها ‏ ‏تخلف ‏ ‏من بعدهم ‏ ‏خلوف ،‏ ‏يقولون ما لا يفعلون ويفعلون ما لا يؤمرون ، فمن جاهدهم بيده فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بلسانه فهو مؤمن ، ومن جاهدهم بقلبه فهو مؤمن ، وليس وراء ذلك من الإيمان حبة ‏ ‏خردل "

وحتى يتأتى هذا الالتزام المطلوب شرعا لا بد من العناية بالإيمان حتى يغدو المسلم بإيمانه متميزا ؛ لأنه مصدر التميز ، ومبعث القوة ، التي يفتقدها غير المسلم قطعا ، ولا سبيل له إليها إلا بأن يصير إلى ما صار المسلم إليه ، قال تعالى : {  وَلاَ تَهِنُوا فِي ابْتِغَاءِ القَوْمِ إِن تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَمَا تَأْلَمُونَ وَتَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ مَا لاَ يَرْجُونَ وَكَانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً{النساء : 104}  ولا تتحصل آثار الإيمان بمجرد التصديق ؛ بل لا بد من العناية الدائمة به ، والحرص على زيادته ؛ لأنه يزيد بالطاعات وينقص بالمعاصي ، كما أنه يزداد بالتدبر والتفكر ...

فاللافت في نظرة الشرع إلى هذه المسألة ، أعني الإيمان أنه رآه خاضعا للتغيّر  ؛ بقاءً ، وذهابا ، وقوة وضعفا ، فلا يركننْ أحدٌ إلى أنه آمن ؛ فيدفعه ذلك إلى الغفلة ؛ فيغدو نهبا للشياطين ، أو للنفس الأمارة بالسوء ؛ فعليه أن يتعهد إيمانه ، أكثر من تعهده حياته ؛ لأنه حياته الحقيقية ، وحياة أمته أيضا : "  يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُمْ لِمَا يُحْيِيكُمْ وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ المَرْءِ وَقَلْبِهِ وَأَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ{الأنفال : 24} وقد سمّى الله تعالى الوحي روحا : "  وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِّنْ أَمْرِنَا مَا كُنتَ تَدْرِي مَا الكِتَابُ وَلاَ الإِيمَانُ وَلَكِن جَعَلْنَاهُ نُوراً نَّهْدِي بِهِ مَن نَّشـاءُ مِنْ عِبَادِنَا وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ { الشورى : 52 } وفي تفسير القرطبي عن " الضَّحَّاك : هُوَ الْقُرْآن . وَهُوَ قَوْل مَالِك بْن دِينَار . وَسَمَّاهُ رُوحًا لِأَنَّ فِيهِ حَيَاة مِنْ مَوْت الْجَهْل ." والقرآن يتضمن الإيمان ، ولا يكون الإيمان إلا به ، ولا ينتفع بالقرآن إلا به كذلك .

وأخيرا فلا يحتاج الأمر إلى استفاضة في إثبات العلاقة الوجودية بين الأمة ودينها ؛ فلا صيرورة لها ، ولا معنى لوجودها دون التعلق به ، والاعتصام ، ولا شفاء لها ، ولا حياة كريمة تحصلها من سواه ؛ فلم يثبت لها النهوض والشهادة على الناس ، إلا وهي معتصمة به ، مُؤْثرة له على الدنيا الفانية، ومن يقرأ التاريخ يرَ ذلك ماثلا ؛ فلم تتراجع الأمة وتُحتل بلادها وتُدنَس مقدساتُها من الصليبيين والمغول ، وهي تُحْسن فهم دينها ، وتُقدِّمه ، ولا استطاعت التحرر مما سبق ، وتَجاوُز الوهْنَ إلا حين قيَّض الله لها علماء ربانيين ، ودعاة مخلصين ، وقادة كصلاح الدين ، ولا شيء يبعث فيها الروح من جديد غير الإيمان ؛ تأخذه صافيا ، كما نزل ، وتنزله المنزلة التي أرادها الرب المعبود سبحانه وتعالى .

هذا ، ومن يقابل حال المسلمين اليوم بما كانوا عليه منذ بضعة عقود يجد تناميا في الاهتمام بالشأن الأخروي ، ورغبة جادة في معرفة الحلال والحرام ، وزيادة ملحوظة في المظاهر الإسلامية العامة ، سواء في اللباس ، أو غيره ، ما يبشر باقتناع متزايد بالصواب ، ولكنه لم يبلغ أن يَطبع المشهد بطابعه بعد ، وهو في الطريق إلى ذلك  ، كما وعد الله تعالى ورسوله في كثير من النصوص القطعية ؛ أنّ المستقبل لهذا الدين.