أصداء خلدونية
عبد الواحد محمد
من أي طريق نبحث عن مكنوننا العربي الثقافي المسجون بين عالميين حائرين وهما الوهم والتقليد دون إرادة حقيقية من أهل الضاد وكأن تطورنا الأجتماعي أصبح سبة في تاريخنا بفضل نزعة الأنا غير المسؤولة عن واقعنا المتردي وما وصلنا إليه اليوم من ابتذال معرفي وسلوكي وإدراكي وأدبي انكشفت فيه كل آليات التزيف وقصائد المدح المعروفة بتتويج كتاب لانعي منه غير شهادة وفاة وفقدان حضارتنا بطرق ملتوية على رأسها لم نكن صناعها من المصدر والمجهول؟
لتتحول أقلامنا إلي عالم مخيف لايقدم سوى ردة في نشيدنا الثقافي وحانات نواسية وفوضي مقصودة لاستبدال عباءتنا العربية بـ(تيشرت وشورت وكاب) وفوق ذلك بث فضائيات لاتخاطب سوي عقول مراهقة جدا ثم نجد من يشتكي علنا من ضعف خطابنا الثقافي في المؤتمرات والندوات والمؤسسات الرسمية من جامعات .. ومعاهد وأكاديميات .. وصحف .. ومسرح منوم مغناطيسياً لتفوح منه رائحة التجريب وكأنها ايضاً شمس أسوانية .. وحدائق بابلية .. واهرام مصرية. ثقافة تخفي وراءها علامات استفهام؟ وربما تأخذني أصداء خلدونية إلى واقعنا أكثر وأنا أرى كماً رهيباً من فلسفات ماجنة في كل صورها المعتمة كأن عقولنا فقدت حريتها وتحولت إلي شيء كرتوني يحلم بالقط الذي يلتهم الفأر .. ومن عجب أن ترى بعض هؤلاء المتشدقين بضعف ثقافتنا لايهتمون بما يعلقون عليه ويقذفوننا بحجارة بل يصبون غضبهم على كل خلدوني جاد ويحولونه إلى مدعي ثقافة محتال لا وزن له مما أكسبوا جيلنا الشاب انكسارا وخيبة أمل فيهم.
كل قصيدة غير مكتملة البحور .. ورواية بلا أشخاص وتاريج .. ومقال لا موسيقى تسكرك وأنت تقرأه .. وحوار صحافي مسروق من أستاذ .. وبحث مغشوش .. ومبدع حقيقي مغرور .. ليل كئيب فيه السفر عنوان لكل حماقاتهم المتعمدة فمن يعمل بجهد ودأب وانتماء ليقدم لنا كل خلدوني يعي حقيقة وطن؟
فنجد أساتذة مهدوا لعصر ابن خلدون من أمثال ابن حزم ..الطرطوشي .. الفارابي .. وغيرهم لبناء مجتمع عربي ثقافي مبدع لايعرف أهواء وفيما اورده ابن حزم في هذا السياق (عن أستاذه ابن كتان ) من يبقى في هذا العالم دون معاونة لبني نوعه على مصلحة أما يرى الحراث يحرث له والطحان يطحن له والنساج ينسج له والخياط يخيط له .. وسائر الناس كل يتولى شغلا له فيه مصلحة وإليه ضرورة ؟ أفما يستحي هو أن يكون عيالا على كل العالم؟ ألايعين هو أيضا بشيء من المصلحة؟ ونجد ابن حزم يعلق على أستاذه بوعي وإدراك اجتماعي بناء بقوله: لقد صدق وعمري إن في كلامه مايستشير الهمم الساكنة إلى ما هيئت له وأي كلام في نوع هذا أحسن من كلامه في تعاون الناس كما أمرنا الله.
ونجد ابن خلدون في كتابه عن ابن حزم الأندلسي يشيد بفهمه المبكر لقيمة التعاون الاجتماعي الذي فقدناه اليوم مما خيم على ثقافتنا الضعف والهوان والأدهى دون اعتراف .؟!
ونجد بعض المستشرقين من أمثال الفرنسي لاووست يشيد بما جاء به ابن خلدون مفتاح التقدم الأوروبي الذي حرمنا منه دون إرادة كتابنا العربي القديم .. فغابت شمس الفكر مع تقديري لتوفيق الحكيم.
فالحضارة والريادة الثقافية في عصورنا السابقة جاءت من رحم العلم وفلسفة الاحتكاك بالفرس وغيرهما لنقل كل ما هو إيجابي وليس هزلي لتصبح اسماً على مسمى فلم ينعدم الضمير الثقافي ويتحول إلي الدجل الذي يمنحنا ابتسامة مؤقتة فكفى هذا العبث لأننا نريد إبداعاً نسترد به طهرنا ونستر به عوراتنا ونسدد قروضنا قبل فوات الأوان.
ومما لاشك فيه أن العرب لم يتركوا علماً إلا وكان لهم فيه شهادة وبصمة لاتمحى من التاريخ فكان الارتحال إلى الديار عمل وجهد ليل نهار كما فعل ابن بطوطة الذي طاف ببلاد العالم شرقا وغربا وجنوبا وسجل كل ماشاهده وسمعه في بلاد الهند ومن قبله الطبري الذي طاف بفارس والشام والعراق ومصر وباع ملابسه ليواصل طريقه نحو التقدم لا من أجل تغييب عقولنا؟
فالطبري كان يكتب كل يوم تقريباً أربعين صفحة وقد ظل علي عهده وفيا للعلم أربعين عاماً دون فيها تاريخ الشرق قبل الإسلام وبعده بحيادية وأمانة مثقف وكذلك المسعودي 956 ميلادي والذي لقب بهيرودوت العرب وطاف ببلاد آسيا والصين ومدغشقر وترك لنا عملاً ضخماً يقدر بثلاثين مجلد في تاريخ العلم قبل الإسلام وبعده فلسفة مثقف يؤمن أن الطريق مجاهدة لنيل لقب يستحق بجدارة وفعلها ابن حيان فقد ألف خمسين كتاباً أحدهم عن تاريخ آسيا وابن عساكر كتب حوالي ثمانين مجلداً عن اعلام دمشق وغيرهم كثير وكثير وللأصداء الخلدونية عبق ننهل منه لكي لا نمر مرور العابرين على ثقافة وحضارة عربية يجب أن تعود.