إنسانية القرد

محمد حايك

"لا أخجل أن يكون القرد من أجدادي، ولكني أخجل أن أكون من أقرباء رجل لا يستخدم عقله".

- توماس هنري هوكسلي، إنجلترا عام 1860.

إن أصل الإنسان لا يرجع إلى القرد، بل هناك قرابة بينه وبين القرد.  فلماذا يتضايق الإنسان إذا قيل له أن أصله يرجع إلى القرد، مع العلم أن أصل الإنسان يرجع إلى التراب، والتراب ندوسه بأقدامنا كل يوم، وتبول عليه الحيوانات بجميع أشكالها بما فيها الكلاب والقردة والخنازير؟

أحب أن أذكر هنا تجربة جرت على القردة تبين للناس طبيعة ذلك المخلوق المكروه عند بعضهم.  فأكثر الناس عندها اعتقاد بأن القرد مخلوق سافل، ليس عنده ضابط خلقي يقيد تصرفاته، فهو يتصرف كما يحلو له بدون تفكير ولا تقدير، كل ما يعهده في حياته هو الطعام والشراب واللعب والقفز في الغابات.  وكلمة القرد تستخدم في عادات بعض المجتمعات للإهانة، وذلك بإطلاق اسم القرد على الشخص المزعج غير المرغوب فيه.  فأفراد هذه المجتمعات لا تستطيع التصور أن هناك رابطة حيوانية قوية بين مخلوق الإنسان ومخلوق القرد من ناحية النشأة، وليس عندها الاستعداد لتقبل ذلك أو حتى طرحه للنقاش.  فمجرد التصور أن الإنسان له قرابة مع مخلوق القرد أو الشمبانزي، يجعلهم ينظرون إلى أنفسهم باحتقار، فهذا يصطدم مع الناحية الأخلاقية المشبعة من خلال عادات مجتمعهم للنظرة السلبية تجاه القردة.

وجد في المختبرات أن الإنسان لا يعتبر المخلوق الوحيد في مملكة الحيوانات عنده المقدرة على أن يفكر بشكل أخلاقي أو أن يتخذ قراراً ينم عن قيم عالية.  فبعض التجارب على القردة في المختبرات أشارت إلى أن القرد يحمل قيماً أخلاقية تشارك قيم الإنسان وقد تسبقها بكثير.  فعدم مقدرة الحيوان على النطق لا تجعله مخلوقاً غير عاقل عديم الإحساس لمشاعر الآخرين، أو متدني الأخلاق، لا يفكر ولا يعي ما يفعل.

ففي إحدى التجارب في المختبرات التي ذكرها كلٌ من الدكتور كارل ساكان والدكتور آن دريون في كتابهما "ظل الأسلاف المنسي" على أحد أنواع القردة الأكثر انتشاراً، اسمه قرد المكاك الذي يعيش ما بين اليابان وأسيا ويشترك مع الإنسان بمورثات كثيرة.  وضعت مجموعة من القردة في غرفة منفردة، يأتيهم الطعام بطريقة غريبة وذلك عن طريق حبل يشده القردة داخل الغرفة.  وكلما شد أحد القردة الحبل من أجل الطعام فإنه سيسبب صدمة كهربائية لقرد آخر لا يعرفونه موجود في غرفة مقابلة، يرونه من حيث لا يراهم من خلال مرآة ذات اتجاه واحد.  وإذا لم يشد القردة الحبل فلا طعام، وستصيبهم المجاعة.  فهذا خيار شائك، إما أن يحصلوا على الطعام ويسببوا ألماً للقرد في الغرفة المجاورة، أو أن يمتنعوا عن الطعام ويختاروا الموت، خيار صعب.  فبعد أن تعلم القردة أن شد الحبل للحصول على الطعام سيسبب ألماً للقرد الموجود في الغرفة المقابلة، تجنب أكثرهم شد الحبل وآثروا المجاعة على عذاب غيرهم.  وفي إحدى التجارب فإن 13% من القردة شدوا الحبل و87% امتنعوا.  وفي تجربة أخرى، آثر أحد القردة أن يبقى بدون طعام، واختار المجاعة حتى الموت حتى لا يسبب ألماً لأخيه القرد، وبعد أسبوعين متواصلين من إضرابه عن الطعام اضطر الباحثون لإيقاف التجربة خشية أن يموت القرد.[i]

التجربة أثبتت أن القردة عندها المقدرة لأن تتخذ قراراً أخلاقياً وتلتزم به.  ولنقارن بالمقابل مقدرة الإنسان على اتخاذ القرار الأخلاقي والالتزام به، وهل الإنسان الصائم المصلي سيلتزم بالقرار الأخلاقي الذي تعلمه من خلال دينه.  فالوقائع التي نسمعها عن الإنسان، هي تجارب واقعية تعبر عن سلوكه.

وبمقارنة سلوك القردة مع سلوك الإنسان، نجد أن الأمر يختلف تماماً.  رغم وجود الديانات بين أيد الناس تدعوا إلى مكارم الأخلاق، وتعاليم الوصايا العشر لنبي الله موسى، إلى قول آخر الرسل: {إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق}.  رغم هذا كله، فنجد تاريخ الإنسان مليء بالقتل والدماء ليس بسبب قلة الطعام والشراب، بل من أجل السيطرة والسلطة وإخضاع الأخرين لسيطرتهم، أو من أجل جمع المال والشهرة، حتى ولو كان ذلك عن طريق الكذب والنفاق والسلب والنهب والغش والغدر والتعذيب وسفك الدماء.  لا يهمهم آلام غيرهم، بل يهمهم سعادة أنفسهم.  فالإنسان يعتبر أكثر مخلوق أناني في مملكة الحيوانات، فلكم سمعت قصصاً تقشعر لها الأبدان.  فمنهم من يساوم على أخيه وابنه وأمه وأبيه من أجل غرض من أغراض الدنيا.  فهناك قصص في تاريخ الإنسان مروعة، فمنهم من ضحى بابنه وأخيه الرضيع من أجل أن يبقى على كرسي العرش، أو من أجل غاية من غايات الدنيا.

لقد سمعت بقصص كثيرة عن الآباء والأمهات يقتلون أبناءهم، حتى الرضع منهم من أجل غرض من أغراض الدنيا.  وأغرب قصة سمعتها في التسعينات عن أم أغرقت طفليها في بحيرة، أحدهما عمره ثلاث سنوات والثاني عمره 14 شهرا، إرضاءً لعشيقها الذي رفضها بسبب أولادها.[ii]  وفي مقالة في مجلة تايم، قدرت أنه حوالي 250 إلى 300 طفل يقتل سنوياً في أمريكا من قبل أبويه.[iii]  وفي تقرير لمنظمة الصحة والخدمات الإنسانية في أمريكا لعام 2009، فإن 27.3 بالمئة من الأطفال الذين قتلوا في تلك السنة كان بسبب الإساءة في المعاملة من قبل الأم، مقارنة إلى 14.8 بالمئة بسبب الأب، فأين حنان الأم وقلب الأم الذي صم أذاننا منذ الصغر؟  على نقيض القردة، فبعض الناس عندها الاستعداد لأن تضحي بأغلى ما عندها وبأقرب المقربين لها من أجل متاع زائل من متاع الدنيا.

وبالمقارنة، رغم أن القرد يعيش في الغابات مع الوحوش ولم يذهب إلى الكنيسة أو المعبد أو المسجد، ولا يصلي ولا يصوم، ولم تأته رسالة سماوية.  ولم يعلمه أبواه الحلال والحرام والأخلاق والسلوك، فإنه يرفض أن يفعل بأخيه القرد ما يفعله الإنسان بالإنسان.  لقد اختار القرد المجاعة على ألا يرى قرداً آخر في وضع مؤلم.  ويتساءل الدكتور ساكان والدكتور دريون في كتابهما: "هل يا ترى سيكون لدينا رؤيا متفائلة أفضل لمستقبل للإنسان إذا تأكدنا أن أخلاقنا يمكن أن تصل إلى مستوى أخلاق القردة؟"، سؤال وجيه.

هذا ما أثبتته التجارب عن القرد، أروني ما فعله الإنسان؟ وهل ما زلت تُعابُ من أن يكون القرد قريبك أيها الإنسان؟

أظن لو قيل أن أصلنا يعود إلى الغزلان، لتقبل ذلك الإنسان.

وفي تجربة أخرى موجودة على يوتيوب في الإنترنت، تدل على التعاون والعدل والثقة المتبادلة بين القردة.[iv]  وضع قردان في قفصين معزولين عن بعضهما بحائط من زجاج فيه نافذة صغيرة.  وضع في قفص أحد القردة إناء زجاجي فيه ستة من المكسرات وفي قفص القرد الأخر حجرة.  فالقرد الذي عنده الحجرة أعطاها للقرد الذي عنده المكسرات من خلال النافذة ليستعين بها على كسر الإناء الزجاجي ليحصل إلى المكسرات، وبعد أن حصل على المكسرات أعطى نصفها للقرد الأخر بدون تردد.

كان بمقدور القرد الذي عنده المكسرات أن يحتفظ بها كلها لنفسه بعد أن أخذ الحجر، لأن القرد الآخر لا يستطيع الدخول إلى قفصه وأخذ المكسرات منه، ولكنه أبى أن يغدر بجاره القرد الذي ساعده على فتح الإناء الزجاجي بأن أعطاه الحجر الذي في قفصه.

أثبتت التجربة أن الغدر ليس من صفات القردة، فإن القردة تُخلِص مع من أَخلَص معها وساعدها ووقف معها عند الحاجة، فالنذالة لبست من صفات القردة.  وبالمقارنة مع تعامل الإنسان، فإنه يرى في الإنسان المخلص معه فرصة للغدر والاستغلال.  هذا السلوك رأيته يصدر حتى من بعض المصلين الصائمين العابدين الواعظين لغيرهم على المنصات والمنابر، يعظون غيرهم وينسون أنفسهم وهم يتلون الكتاب.

يقول ديفيد اتينبروه David Attenborough المشهور ببرامجه وأفلامه الوثائقية عن الطبيعة والحيوانات على قناة BBC: "إنه بحق يبدو غير عادل بأن الإنسان اختار الغوريلا كرمز للعداوة والعنف، مع العلم أن هذا الشيء غير موجود في الغوريلا، ولكنه موجود فينا".

               

[i] - Carl Sagan and Ann Druyan, Shadows of Forgotten Ancestors. Page 117.

[ii] - Wikipedia, Susan Smith.

[iii] - Maia Szalavitz, Psychiatrist Phillip Resnick on Why Parents Kill Their Own Kids, Time Magazine, February 1, 2011.

[iv] - YouTube, Monkey cooperation and fairness, Video,