القوامة في بعض التفاسير القديمة والحديثة
دراسة نقدية
د.أبو اليسر رشيد كهوس/المغرب
يقول ربنا تبارك وتعالى في كتابه العزيز: }الرجال قوامون على النساء بما فضل الله بعضهم على بعض وبما أنفقوا من أموالهم{(سورة النساء:34).
إن القوامة في الشريعة الإسلامية وسيلة تنظيمية ضرورية لتحقيق الأمن والاستقرار للأسرة والمجتمع، وقد حملت الشريعة الإسلامية الرجل تبعاتها ومسؤوليتها، لأنه المؤهل لهذه الوظيفة التي تنوء بالعصبة أولي القوة، نظرا لما ميزه به الله من شجاعة وقوة في العقل والجسم تجعله الأقدر على القيام بهذه الأمانة وتوفير الحاجيات للأسرة والذب عنها وجلب المنافع لها ودرء المفاسد عنها.
وفضلا عن ذلك فقد اختارت الشريعة الإسلامية المرأة لوظيفة أخرى أنبل وأشرف فجعلتها أما وزوجة لما امتازت به من خصائص في تكوينها الجسمي والعقلي يتناسب مع أنوثتها والمسؤولية الملقاة عل عاتقها، فكانت بذلك مكملة للرجل وأهم عناصر إسعاده بل كانت دعامة الأسرة السعيدة، وبهذه الوظيفة وتلك يتحقق ذلك البناء الذي يشد بعضه بعضا وتلتحم تلك اللحمة التي تلاشت في الجاهلية وفي عصرنا الحديث، فالرجل مكمل للمرأة والمرأة مكملة للرجل، ولا يمكن أن يعيش أحدهما بمعزل عن الآخر، فكانت الحكمة الإلهية عادلة في ذلك.
انظروا معي إلى التعبير القرآني: (وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ) (الروم:21).. فالمرأة جزء من الرجل فهي منه خلقت منه.. بالحب يتحقق التكامل بالحب يتحقق السكن الحقيقي..وبالمودة تتحقق السعادة بالرحمة تصل سفينة الأسرة إلى شاطئ السلامة وبر الأمان... لا بالعنف لا بالضرب لا بالتنازع لا بالقهر لا بالتنقيص من مكانة المرأة لا..لا .. لا..
ولتتضح معاني القوامة وحقيقتها، ولأزيل الستار عن أهميتها ومكانتها أرجع إلى كتب التفسير لأقطف مزيدا من الأطايب حتى يتبين لنا الخيط الأبيض من الخيط الأسود، وحتى نزيد يقينا إلى يقين.
جاء في تفسير الإمام القرطبي رحمه الله: (الرجال قوامون على النساء...) ابتداء وخبر أي يقومون بالنفقة عليهن والذب عنهن، وأيضا فإن فيهم الحكام والأمراء ومن يغزو، وليس ذلك في النساء. يقال: قوام وقيم، ويقال: إن الرجال لهم فضيلة في زيادة العقل والتدبير، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك. وقيل للرجال زيادة قوة في النفس والطبع ما ليس للنساء، لأن طبع الرجال غلب عليه الحرارة واليبوسة، فيكون فيه قوة وشدة، وطبع النساء غلب عليه الرطوبة والبرودة، فيكون فيه معنى اللين واللطف، فجعل لهم حق القيام عليهن بذلك ([1]).
وفي تفسير التحرير والتنوير: تستمد القوامة مشروعيتها من أمرين، الأول: المزايا الجبلية التي تقضي حاجة المرأة إلى الرجل في الذب عنها وحراستها لبقاء ذاتها، والثاني: أن هذا التفضيل ظهرت آثاره على مر العصور والأجيال فصار حقا مكتسبا للرجال، وهذه حجة برهانية على كون الرجال قوامين على النساء، فإن حاجة النساء إلى الرجال من هذه الناحية مستمرة وإن كانت تقوى وتضعف ([2])..
وفي الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل: قال عند قوله تعالى: (الرجال قوامون على النساء) يقومون عليهن آمرين ناهين كما يقوم الولاة على الرعايا، وسموا قواما لذلك والضمير في "بعضهم" للرجال والنساء جميعا، يعني إنما كانوا مسيطرين عليهن بسبب تفضيل الله بعضهم وهم الرجال على بعض وهم النساء... ([3]).
وفي المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز: الرجال قوامون على النساء...: قوام فعال: بناء مبالغة، وهو القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه وحفظه بالاجتهاد، فقيام الرجال على النساء هو على هذا الحد، وتعليل ذلك بالفضيلة والنفقة يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما، قال ابن عباس: الرجال أمراء على النساء ([4]).
وفي أحكام القرآن: "قوامون"، يقال قوام وقيم، وهو فعال وفيعل من قام، المعنى هو أمين عليها يتولى أمرها، ويصلحها في حالها، قاله ابن عباس، وعليها له الطاعة ([5]).
وجاء في الظلال:... هذا النص – أي آية القوامة- يحدد أن القوامة في هذه المؤسسة –مؤسسة الأسرة- للرجل، ويذكر من أسباب هذه القوامة، تفضيل الله للرجل بمقومات القوامة، وما تتطلبه من خصائص، وتكليف الرجل الإنفاق على المؤسسة، وبناء على إعطاء القوامة للرجل، يحدد كذلك اختصاصات هذه القوامة في صيانة المؤسسة من التفسخ، وحمايتها من النزوات العارضة.... والمسلم به ابتداء أن الرجل والمرأة كلاهما من خلق الله. وأن الله سبحانه لا يريد أن يظلم أحدا من خلقه، وهو يهيئه ويعده لوظيفة خاصة، ويمنحه الاستعدادات اللازمة لإحسان هذه الوظيفة. وقد خلق الله الناس ذكرا وأنثى زوجين على أساس القاعدة الكلية في بناء الكون.. وجعل من وظائف المرأة أن تحمل وتضع وترضع وتكفل ثمرة الاتصال بينها وبين الرجل.. وهي وظائف ضخمة أولا وخطيرة ثانيا، وليست هينة ولا يسيرة... . فكان عدلا كذلك أن ينوط بالشطر الثاني –الرجل- توفير الحاجيات الضرورية، وتوفير الحماية كذلك للأنثى، كي تتفرغ لوظفتها الخطيرة، ولا يحملها أن تحمل وترضع وتكفل...([6]).
ومن معاني الآية الكريمة كذلك، أن الرجال من شأنهم المعروف المعهود القيام على النساء بالحماية والرعاية والولاية والكفاية، وعلل ذلك بأمرين أحدهما وهبي والآخر كسبي وهم أيضا يقومون بما يحتجن إليه من النفقة والكسوة والمسكن، وجاء بصيغة المبالغة في قوله (قوامون) ليدل على أصالتهم في هذا الأمر([7]).
وقبل أن أنتقل إلى التفاسير الأخرى لابد من إبداء بعض الملاحظات فيما سبق ذكره من تفسيرات قديمة وحديثة، ولعل المتأمل فيها يجد في بعضها نوعا من التضييق والتشدد في تفسيرهم لآية القوامة، واستعمال بعض المصطلحات التي تتميز بالغلظة والخشونة كقولهم: "يقومون عليهن آمرين ناهين... مسيطرين عليهن.." والقوامة ليست كذلك لأنها مبنية على الرحمة والمودة والرأفة والتشاور والمجادلة بالتي هي أحسن، وهي ليست مؤسسة عسكرية، لأن الهدف من هذه القوامة هي تحقيق ذلك السكن الحقيقي وذلك الذوبان الروحي فيصبح الزوجان روحا واحدة وجسدا واحدا، إذا اشتكى منه عضو تداعت له سائر الأعضاء بالسهر والحمى وبهذا يتحقق قوله تعالى:}ومن آياته أن خلق لكم من أنفسكم أزواجا لتسكنوا إليها وجعل بينكم مودة ورحمة{([8]). وقوله عز من قائل:}هن لباس لكم وأنتم لباس لهن{([9]). وقوله جل وعلا: }هو الذي خلقكم من نفس واحدة وجعل منها زوجها ليسكن إليها{([10]). من هنا فالبيت الذي تسوده المحبة والإخاء والوئام والتفاهم والتراحم والتعاون على الخيرات تتحقق فيه السعادة الأبدية في الآخرة والدنيا.
أما إذا كان الرجل آمرا ناهيا صلبا فظا غليظ القلب، لا حنان ولا عطف ولا تشاور ولا تعاون فلا محالة أن هذا سبب كل الآفات والمصائب التي تتخبط فيها الأسر المسلمة في عالمنا المعاصر.
وعلاوة على ذلك فإنه إذا غابت المحبة والمودة والرحمة والتفاهم ساد الحقد والبغض والكراهية والقسوة والخراب والانهيار والنتيجة واضحة الخسران المبين في الدنيا والآخرة.
مما تقدم فإن المحبة والتعاون والتشاور أساس الحياة الزوجية السعيدة واللبنة الأساسة في البناء الأسري، فهي بمنزلة الروح في الجسد، وهي العمود الفقري للحياة الطيبة. وبعد هذه الملاحظات نعود إلى كتب التفسير لنقطف مزيدا من الأطايب.
نرجع إلى بعض التفاسير الأخرى:
وفي تفسير القرآن العزيز: "الرجال قوامون على النساء": أي مسلطون على أدب النساء، والأخذ على أيديهن([11])، «فقوام بناء المبالغة من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه»([12])، "والقوام هو القائم بالمصالح والتدبير والتـأديب أي مسلطون على أدب النساء يقومون عليهن، آمرين ناهين، قيام الولاة على الرعية"([13]).
ويفسر المراغي الآية بقوله: «"الرجال قوامون على النساء" أي إن من شأن الرجال أن يقوموا على النساء بالحماية والرعاية، وتبع هذا فرض الجهاد عليهم دونهن، لأن ذلك من أخص شؤون الحماية، وجعل حظهم من الميراث أكثر من حظهن ، لأن عليهم النفقة ما ليس عليهن... والمراد بالقيام الرياسة التي يتصرف فيها المرءوس بإرادة الرئيس واختياره، إذ لا معنى للقيام إلا الإرشاد والمراقبة في تنفيذ ما يرشد إليه، وملاحظة أعماله، ومن ذلك حفظ المنزل وعدم مفارقته إلا بإذنه ولو بزيارة القربى، وتقدير النفقة فيه، فهو الذي يقدرها بحسب ميسرته، والمرأة هي التي تنفذ على الوجه الذي يرضيه، ويناسب حاله سعة وضيقا» ([14]).
وخلاصة المرام في تحقيق المقام:
إن الإسلام يرفض كل العبارات التي لا طائل من ورائها، ولا تساهم في البناء السعيد للأسرة المسلمة، ولا تجلب المحبة العميقة بين الزوجين، ولا تحقق الأمان والاستقرار والسعادة والرحمة للبيت والمجتمع، كما يرفض كل العبارات التي تحمل بين ثناياها الأنانية والاستعلاء، ودعا الرجل والمرأة أو الزوج والزوجة إلى السعي قدما لبناء أسرة متماسكة يسودها التعاطف والتراحم والأخلاق الحميدة والمعاشرة الحسنة بعيدا عن الرذيلة والخصومة والنزاعات والخلاف وحب الظهور الذي يقصم الظهور.
وقد مر بنا أن رأينا في بعض التفسيرات بعض العبارات مما سبق ذكره، وربما كان استعمالهم لهذه العبارات من غير قصد أو لطبيعة الوقت التي عاشوا فيها، ومن هذه التعابير مثلا "قوامون: وهو من القيام على الشيء والاستبداد بالنظر فيه... يقتضي أن للرجال عليهن استيلاء وملكا ما... مسلطين... آمرين ناهين...
جزى الله علماءنا الجلة على ما قدموه لنا وللأمة الإسلامية، لكن هذا لا يمنعني من إبداء بعض الملاحظات وخصوصا في وقتنا الراهن الذي كثرت فيه الادعاءات والأقاويل والاتهامات والدعوة إلى التحرر ونبذ العنف ضد المرأة كل هذا كان السبب فيه أن هؤلاء "دعاة التغريب" اتهموا ديننا الحنيف بالانتقاص من كرامة المرأة وشخصيتها، وقد انطلقوا من بعض الأقوال الشاذة وبعض التفسيرات القديمة فجعلوها مطية للترويج لسلعتهم ألا وهي التشكيك في دين الإسلام، وخاب والله من كانت هذه بضاعته.
فالإسلام دين الرحمة والرفق يدعو الأزواج إلى التعاون على البر والتقوى، والتشاور في اتخاذ القرارات والعفو عن الزلات، والصبر وقضاء الحاجات، والاستعداد للقاء مع الديان الباري جل وعلا فهي الغاية التي أمرنا أن نسعى من أجلها وهي رضا الله تعالى والفوز بجنة النعيم.
وبهذه الأخلاق الحميدة وتلك المعاشرة الطيبة تحس الزوجة أنها في كنف رحيم وفي بيت سعيد وتحت رعاية كريمة.
وهذا، فإن سبب قوامة الرجل على المرأة راجع إلى سعيه وكده لضمان استمرارية حياة الأسرة وحمايتها من كل المخاطر والخطوب وتحمله للصعاب وسهره الليالي الطوال، هذا جانب أما الجانب الآخر فإن الله تبارك وتعالى خلق من كل شيء زوجين، وخص كل واحد بخصائص في خلقته، فخلقة المرأة ليست كخلقة الرجل، وأعد كل واحد لوظيفته الخاصة التي تتناسب مع خلقته وطبيعته الفطرية، فجعل من وظائف الرجل صيانة المرأة وحمايتها وجلب المصالح إليها ودرء المفاسد عنها، وجعل من وظائف المرأة تربية أبنائها بعد فترة الحمل التي اختصت بها دون الشطر الآخر، إضافة إلى حفظ مال زوجها وبيتها في حضوره وغيابه فكانت مهمة المرأة أشرف وأنبل، وبهذا التنوع في الوظائف يتحقق ذلك التكامل بين الزوجين فهما وجهان لعملة واحدة، فكانت الشريعة في منتهى العدل والحكمة، وكان ربنا الكريم حكيما وعليما، حيث منح الرجل خصائص في تكوينه النفسي والعقلي والعضوي، .. ما يجعله أهلا لتحمل تلك المسؤولية الضخمة التي تتطلب القوة والحنكة والتؤدة والصبر والأناة (القوامة)... كما منح المرأة خصائص مختلفة عن خصائص الرجل في تكوينها العصبي والنفسي والعقلي، ما يجعلها أهلا لتحمل تلك المهمة الضخمة والمسؤولية الشريفة (الحافظية) من حمل وإنجاب وإرضاع وتربية، فزودها الباري جل وعلا بالعاطفة والحنان والرحمة وسرعة الانفعال وتلبية رغبات طفلها...
وإذا فهمنا معاني الرحمة والإيثار والتجاوب والتآزر فلا شك أن ستار الجهل سيزال عن أبصارنا وبصائرنا، وغشاوة الغلطة تزاح عن قلوبنا، وسيقبل الجميع وعلى رأسهم النساء بهذه القوامة اقتناعا منهن أنها من شرع الله وحكمه، فهو العليم الحكيم فلا راد لحكمه، ويعلم النساء أن هذه القوامة والدرجة والفضل لصالحهن وفيها صون لكرامتهن وحماية لحقوقهن وأعراضهن ودفاع عنهن: }فبأي حديث بعده يؤمنون{([15]).
([1]) الجامع لأحكام القرآن المعروف بتفسير القرطبي، أبو عبد الله محمد القرطبي، 3/168-169.
([2]) تفسير التحرير والتنوير، محمد الطاهر عاشور، 5/39.
([3])الكشاف عن حقائق التنزيل وعيون الأقاويل في وجوه التأويل، أبو القاسم الزمخشري الخوارزمي، 1/523.
([4])المحرر الوجيز في تفسير الكتاب العزيز، القاضي أبو محمد بن عطية الأندلسي، تحقيق : المجلس العلمي بفاس، 4/103.
([5])أحكام القرآن، أبو بكر عبد الله المعروف بابن العربي، 1/530- 531.
([6]) نفسه، 4/354.
([7]) تفسير المنار، محمد رشيد رضا، 5/67- 68./ البحر المحيط في التفسير، محمد بن يوسف الشهير بأبي حيان الأندلسي الغرناطي، 3/623./ التفسير الواضح، محمد محمود حجازي، 1/ 165./ تفسير الجلالين، جلال الدين المحلي وجلال الدين السيوطي، ص: 84./ التفسير المنير في العقيدة والشريعة والمنهج، وهبة الزحيلي، 5/54-55./ تفسير السراج المنير في الإعانة على معرفة بعض معاني كلام ربنا الحكيم الخبير، الخطيب الشربيني، 1/286./ تفسير أبي السعود المسمى إرشاد العقل السليم إلى مزايا القرآن الكريم، أبو السعود محمد بن محمد العمادي الحنفي، 2/173./ فتح القدير الجامع بين فني الرواية والدراية من علم التفسير،محمد بن علي بن محمد الشوكاني، 1/460..
([8]) الروم: 21.
([9]) الأعراف : 189.
([10]) البقرة : 186.
[11]) ) تفسير القرآن العزيز، أبو عبد الله محمد بن عبد الله بن أبي زمنين، 1/366.
([12])تفسير ابن جزي، محمد بن أحمد بن جزي الكلبي، ص : 118.
([13])تفسير القاسمي المسمى محاسن التأويل، محمد جمال الدين القاسمي، 3/130./ تفسير الخازن المسمى لباب التأويل في معاني التنزيل علاء الدين علي بن محمد بن إبراهيم البغدادي الشهير بالخازن، 1/518.
([14])تفسير المراغي، أحمد مصطفى المراغي، 5/27-28.
([15]) الأعراف: 185.