جمالية اللغة العربية
محمد علي الحلبي
من خلال بحثي عن الثقافة وجدت أن عنصرين أساسين لكل ثقافة من ثقافات شعوب العالم وهما الحرية واللغة فكلما تجذرت الحرية في المجتمع وامتلكها جميع الأفراد ازداد العطاء والإبداع في جميع ينابيع الثقافة وفروعها وحرية الثقافة تزهر وتعبق وتنشر العطور من خلال اللغة المعبرة عنها وعندما تتوسع اوجه الثقافة كان على اللغة أن تلبي احتياجاتها في دقة التعابير و أناقتها وجماليتها
الحب بأنواعه وهو حالة وجدانية سامية ومشاعر رائعة – حب الإنسان لله، وحب الله لعباده ، وحبنا للآخرين لابد من مضامين تعبيرية تتماشى مع جماله وسموه، وإلا ضاعت الكثير من معانيه واصبح جافاً جفاف العيدان اليابسة
في كتاب حلية الأولياء يقول حاتم الأصمعي : " من ادعى حب الله بغير ورع عن محارمه فهو كذاب وفي نفس الكتاب يقول عبد الله الساجي " من علامات حب الله أن تكون بزيادة آخرتك أسمى منك بزيادة دنياك "
وحب الله لعباده حدده القرآن الكريم في 13 آية ، كان نصيب المحسنين " يحب المحسنين " 5 منها، وللمتقين 4 منها، وحب المطهرين المتطهرين 2، وحب التوابين مرة واحدة وكذلك حب الذين يقاتلون في سبيله مرة واحدة
وحب الآخرين إيثار لهم على الذات وتقديم ما يسعدهم في حياتهم
كانت الكلمة، وجاءت المضامين التعبيرية لتحددها بدقة لفظية كل ما في حياتنا يحدده التعبير واللغة، ويصفه ويعطيه حقه ومكانه وموضوعيته، فاللغة عماد ترسم وتغني معاني الطبيعة والعلوم والمشاعر، وتقدس الإله وتمجده، والوجود بكامله ينطبع بكلمات اللغة
قادني ذلك كله وزاد من حماسي لهذا البحث، خوف وتحذير المفكر فهمي الهويدي وهو يقول " إن البعض يريد أن يشوه لساننا العربي أو يقطعه وتلك من علامات الساعة الثقافية الحضارية " وويل لأمة اغتصب لسانها واستسلمت لما يفعل بها، ويضيف د. عبد العزيز التو يجري – المدير العام للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة تحذيراً جديداً ويقول اللغة العربية ركن أساسي من أركان الأمن الثقافي والحضاري والفكري للامة العربية والإسلامية حاضرها ومستقبلها، واللغة هي القاعدة المتينة للسيادة الوطنية والقومية الإسلامية ومع السيد التو يجري نضيف إلى أنواع الأمن العسكري والاجتماعي أمننا الثقافي والحضاري والفكري وهو القاعدة المتينة للسيادة، وأي خلل يصيب هذا الأمن ينفذ إلى أعماق وجودنا ويروح ينهش به ، ويترك التشوهات فيه، والموت اسهل من حياة التشوه وفقدان الذات
ومن جامعة الشارقة يطل علينا – د. رشاد سالم – ويقول " اللغة العربية ككل اللغات لها علاقتها الوشيجة بنفسية الأمة الناطقة بها وهي على مدى الزمن وعاء تاريخها وأمجادها وتقاليدها وشمائلها وفضائلها وتراثها الفكري والشعوري والأخلاقي والاجتماعي،هي المستودع الذي عنده يطلب أفراد الأمة الألفاظ و التعابير التي هي أداة الفكر "
ومن أمجاد الماضي يتساءل مؤلف كتاب " مناهل العرفان " سؤال العارف المتأكد إذ يقول " فسائل التاريخ عن وحدة المسلمين وعزتهم يوم كانت اللغة العربية صاحبة الدولة والسلطان في الأقطار الإسلامية شرقية وغربية،عربية وعجمية "
ويكمل الإمام الشافعي بنظرته العميقة الشمولية وعلو فكره ونضج عقيدته وهو المعروف بهيمنة المنهج الأخلاقي على شعره يقول " من تعلم القرآن عظمت قيمته، ومن نظر في الفقه نبل قدره، ومن كتب الحديث قويت حجته ومن نظر في اللغة رق طبعه ، ومن نظر في الحساب جزل رأيه ، ومن لم يصن نفسه لم ينفعه علمه "
فدقة الكلام والتعبير وصحته ، يجعلنا نؤمن الإيمان كله بان رقة الطبع ملازمة لمعرفة اللغة ، ورائع أن نعرف ونتعرف أكثر وأكثر على لغتنا ليرق طبعنا ، والسيادة الوطنية يعبر عنها المرحوم زكي الأرسوزي أحد كبار مفكري القرن الماضي فيقول " إن الأمة التي تخضع لمشيئة غيرها تتلقى منه قواعد فكرها وعملها فيمسخ أبناؤها ويصبحون (( جوا كر)) لدى من يقود شؤونها ، إن الأمة التي تفقد استغلالها تتخلى عن مقدساتها فتزول بهذا حكمة وجودها أما أبناؤها فلن يبرروا تخاذلهم بالغفلة أثناء المحن إلا حين يغسلون عارهم بدمائهم "
ومن الماضي نجد أريج ابن حزم وهو ينبه " إلى أن اللغة يسقط أكثرها بسقوط همة أهلها ، ويقول إن الدفاع عن اللغة الوطنية هو دفاع عن الذات ، وإن احترامها هو احترام للذات وانتهاك حرمتها من أعمال احتقار الذات
ويكشف د. محمود قاسم الوجه البشع والأهداف الوضيعة للاستعمار فيقول " أهم ما عني به الاستعمار الإنكليزي والفرنسي لتثبت أقدامهما هو تفكيكه المنظمة التعليمية في العالم العربي والإسلامي "
أظنني وبتواضع جمعت من أقوال المفكرين باقة عطر عبقه ، فيها الشذى ، وبه نولع، ونخاف ونحذر من إزالته .
عبقرية الأمة العربية في لغتها – الأرسوزي – الدفاع عن اللغة دفاع عن الذات – ابن حزم – ورقة الطبع ملازمة لمعرفة اللغة – الإمام الشافعي – واللغة هي القاعدة المتينة للسيادة الوطنية والقومية والإسلامية – د. التويجري – إذن يتأكد لنا أن اللغة الدرع الحامي لوطنتا ، وزاد رحلة الحياة والق الماضي والحاضر والمستقبل ، وروح العطاء في وجودنا ، إذا آمنا بهذه الثوابت – وحتماً جميعنا مؤمن بها – عرفنا إن قدرنا وقدر الأمم العريقة يفرض الحفاظ على اللغة ، وتحريكها على الواقع واستنتاج كل جديد والتعبير عنه بما يلازمه من دقة وأمانة وعلمية ، بل علينا أن نحرك اللغة في أذهاننا فهي وليدته و معشوقته وهو عاشقها المتيم بها . إن سكون اللغة في الواقع والذهن بدايات الاحتضار ولا أظنني ولا في ظن الجميع أن يحب أحدنا السكون المميت
ونتساءل لم كل هذا الترغيب والترهيب ؟! . . . لا بد من ذلك لأنه الدافع للترغيب وللأمل والتطلع للحركة . . . هل من ظواهر وأدٍ جاهلي للغتنا ؟ ! . . . أقول نعم و ألف نعم والخوض في هذا المجال يحتاج إلى بحث خاص وطويل ، وسؤال متمم وضروري بماذا ننعت العاملين - الفاشلين حتماً – على هدم أركان اللغة
أليس تخفيض نسبة علامات النجاح في اللغة العربية في جميع مراحل التعليم المؤشر على شحذ سكين الوأد
أليس استعمال اللهجات المحلية في الإعلام الرديف للشحذ
أليس الضعف في التعبير لدى خريجي الجامعات بفروعها وحتى المختصين باللغة العربية " المسن الشاحذ " والقدوة السيئة
بالله ماذا نسمي التدريس باللغات الأجنبية في فروع من بعض جامعاتنا ؟! . . . وفي جامعة دمشق وفي كلية الطب تأكيداً تدرس جميع العلوم بلغتنا الأصلية بل وبماذا نسمي السماح للمدارس الأجنبية وهي تستهدف أول ما تستهدف الينابيع وهم أطفالنا وأولادنا ، وهم في باكورة أعمارهم يدرسون لغة غير لغة أهلهم . . . هل في ذلك حب المعرفة أو تدمير الأمة
وارى مع الشاعر العربي المصري صالح الشرنوني نفس رؤيته بل أعممها على أرجاء الوطن العربي
أرى الكنانة تبكي عهد عزتها والنيل في شجن كالعاشق العاني
هذه اللغة الفصحى تئن فمن يحنو عليها ويأسو جرحها القاني
في روضة الخلد سقياها ومنبتها وفي سماء المعالي فرعها الداني
ثمارها من معاني الفكر تقطفها يد الخيال وتهديها إلى الجاني
كفاك يا لغة الأحرار مفخرة وشاهداً بيننا عن رفعة الشأن
وبعد تذكرت و ألم يعتصرني وقلق يشوش ذهني ، يقطعهما إيمان بدوام لغتنا دوام الوجود وحتى إلى ما بعده ، قلت تذكرت بديهة من بد يهات الحياة البسيطة وهي أننا لا نرمي حجارتنا على شجرة خاوية بلا ثمر ، أذن هل في لساننا العربي ثمر يضرب وهل فيه جمالية ليغتصب ويشوه ، ورحت أجوب وابحث عن منابع لغتنا ، واستجدي إرشادي ممن كتب عنها خلال العصور الماضية ، واستجدائي حملني بالكثير من الشكر والعرفان لمن قدموا لنا ولامتهم الكنوز واللؤلؤ الثمين بعد أن غاصوا في أعماق المعرفة ، وفعلاً وصلت إلى حقائق علمية ثابتة تؤكد :
1. قدسية لغتنا
2. أصالتها وقدمها قدم التاريخ
3. لغتنا يضج فيها الجمال وهي آية سحر وعطاء
4. لغتنا حوت واحتوت علوم العصور السابقة وقد قصرنا عن مؤآمتها للعلوم الحديثة
5. لغتنا أخذت من اللغات القديمة بعضاً من مفرداتها كما بادلتها و أهدت لتلك اللغات مفردات منها
ومع شاعرنا " الشر نوبي " أحببت أن أبين ما في لغة الأحرار من مفاخر و أستميحه عذراً لتبديل المفخرة الواحدة إلى جمع مفاخر فقد اضطرته ضرورات الشعر لذلك ، بينما تحللت في الكتابة منها
قدسية اللغة :
لا أغالي إن استعملت اللفظ في هذا المجال ، ولربما استغرب البعض ذلك ، لكن رحلة البداية في القدسية عميقة قديمة قدم التاريخ قال تعالى " إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم خلقه من تراب ثم قال كن فيكون " – آل عمران الآية 59
وقال تعالى " إنا خلقناهم من طين لازب " – الصافات الآية 11 واللازب هو اللازق والثابت وفي معجم " جمهرة اللغة " كل شيء ما تداخل بعض ببعض واختلط
وقوله تعالى " ولقد خلقنا الإنسان من سلالة من طين " – المؤمنون الآية 12
في بداية الوجود الإنساني كان " آدم " عليه السلام وهو اسم سماه الله جلت قدرته به ، وقد تماشت لغتنا ومنذ ذلك العصر القديم مع قدسية التكوين لمن خلق من تراب وسجدت الملائكة له فأضافت إلى اسمه ياء فكان " أد يم " وأديم الأرض يمتلأ بالتراب ، ولنكمل مع عملية الخلق في سيرنا لنبحث عن زوج آدم إنها " حواء " وفي تفسير" القرطبي" للقرآن الكريم يقول " وزوج أدم عليه السلام حواء عليها السلام ، وهو أول من سماها بذلك حين خلقت من ضلعه قيل ولم سميت امرأة قال لأنها من المرء أخذت ، قيل ولم سميت حواء قال لأنها حيّ وريّ ، وجربته الملائكة فسألته لتجرب علمه وقالوا له أتحبها يا آدم قال نعم وقالوا لحواء أتحبيه يا حواء قالت لا وفي قلبها أضعاف ما في قلبه من حب "
آدم. . . أديم . . . إمراة من المرء . . . حواء حيّ وريّ . . . وفي الري ماء لحياة العطاش ، وفي كتاب " الأغاني " يروي أن الشاعر العربي " ذو الرمة " قال " إن أول ما قاد المودة بينه وبين (( مية )) – وهو اسم الفتاة التي كان اغرم بها – إنه خرج هو وأخوه وابن عمه بغاء إبل لهم قال بينما نحن نسير إذ وردنا على ماء وقد أجهدنا العطش فعدلنا إلى حواء عظيم فقال لي أخي وابن عمي ائت الحواء فاستسق لنا " وذهبت إلى الحواء العظيم وصبت " مية " الماء له فعاد إلى أهله ومعه ماء وولعه بها
والرسول العظيم صلى الله عليه وسلم يقول للمغيرة بن شعبة وقد خطب امرأة " لو نظرت إليها فإنه أجدى أن يؤدم بينكما " ويؤدم يعني أن يكون بينكما الاتفاق والمحبة
لقد أضافت اللغة اشتقاق الحب إلى كلمة آدم . . . أديم . . . الآن الحب يؤدم ألم نقل بأن الحب كان متبادلاً بين آدم وحواء وإن أخفته ، والحواء الري للعطش كري الحب للعاشق الولهان . . . واحتوائه . . .
عمر هذه الكلمات – ونؤكد على ذلك – من عمر بدايات الخلق والتوافق والترابط العميق فيما بينها ليس حالة عارضة تمر بل إن أصالة لغتنا وقربها وتقربها ممن أسماه الله يعطيها قدسيتها لتمائل الاشتقاق والمعاني
ولنترك لريشة الرسام رسم اللوحة لهذه الوقائع فتتمازج الألوان في ينابيع الماء والخير والري وتتفجر فيها، ويحتويها ويغلفها غلاف شفاف هو الحب، ولنعترف جميعاً أن من صفات حواء الاحتواء، وكل حواء تحتوي آدمها.
ويقول الله تعالى في كتابه العزيز " إنا أنزلناه قرآناً عربياً لعلكم تتقون " يوسف الآية 2
" وكذلك أنزلناه حكماً عربياً ولئن اتبعت أهواهم من بعد ما جاءك من العلم مالك من الله من ولي ولا واق " - الرعد الآية 37
" بلسان عربي بين " - الشعراء الآية 195
" كتب فصلت آياته قرآناً عربياً لقوم يعلمون " - فصلت الآية 3
" كذلك أوحينا إليك قرآناً عربيا ً" – الشورى الآية 7
" إنا جعلناه قرآناً عربياً لعلكم تعقلون " - الزخرف الآية 3
ولتتمعن بهذه الآيات الكريمة . . . تتقون – ما جاءك من العلم وهنا المقصود في القرآن الكريم - بيّن – غير ذي عوج - لقوم يعلمون - لعلكم تتقون كل هذه المعاني ومضامينها في القرآن الكريم، وهنا نتساءل هل كانت اللغة العربية قادرة على تلبية معاني القرآن ومقاصده، لذا لنعد ثانية إلى رحابها لتؤكد حقيقة القدرة فنجد أن كلمة " آية " كانت تلبية لما قصده القرآن .
فهي المعجزة في قوله تعالى " سل بني إسرائيل كم آتيناهم من آية بينة " البقرة الآية 211، ومعجزات موسى عليه السلام وتنكر بني إسرائيل لها معروفة
وهي العلامة في قوله تعالى " إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم " البقرة الآية 248 وهنا المعنى علامة ملكه
وهي العبرة ومنها قوله تعالى " إن ذلك في آية " البقرة الآية 248
وهي العجيب في قوله تعالى " وجعلنا من ابن مريم وأمه آية " المؤمنون الآية 50وهي البرهان والدليل في قوله تعالى" ومن آيته خلق السماوات والأرض واختلف ألسنتكم وألوانكم " الروم الآية 22
وهي أخيراً ومنها قولهم خرج القوم بآيتهم أي بجماعتهم .
ويضيف الرسول العظيم (ص) في حديثه " أحبوا العرب لثلاث، لأني عربي ، والقرآن عربي ، وكلام أهل الجنة عربي "
وفي حديث آخر للرسول (ص) " ألهم إسماعيل هذا اللسان إلهاماً " رواه الحاكم والبيهيقي عن جابر.
وقال عليه الصلاة والسلام " يا أيها الناس إن الرّب واحد ، وإن الأب أب واحد، وإن الدين دين واحد ، وليست العربية بأحدكم من أب ولا أم فإنما هي اللسان فمن تكلم بالعربية فهو عربي " وعن ابن عمر رضي الله عنهما قال رسول الله " كلام أهل الجنة بالعربية ، وكلام أهل السماء بالعربية ، وكلام أهل الموقف بالعربية " والمقصود بالموقف بين يدي الله- من كتاب الكشف الحثيث لإبراهيم بن محمد الطرابلسي"
وعن عطاء بن أبي مسلم النصري قوله " بلغني أن عمر بن الخطاب قال " تعلموا العربية فإنها تنبت العقل، وتزيد في المروءة "
وبعد كل هذه الثوابت هل من شك بقدسية لغتنا وأصالة أمتنا العربية إنها ملازمة للبدايات ومستمرة استمرار الوجود .
أصالة اللغة وقدمها :
إضافة إلى أن الحديث عن قدسية اللغة وإثباته لقدمها منذ بدايات الخلق، فالثابت علمياً وبالقرائن العلمية لدى علماء اللغة. أن الأصوات الطبيعية كانت مصدر الوحي والإبداع اللغوي منها ومن الصور الحسية المرافقة لها اشتقت الكلمات وطورت المعاني ، لكن بشكل يجعل أغلب الاشتقاقات اللغوية تتلبس نفس هذه الصور.
فمن صوت الألم والمعاناة كانت الكلمات أنَّ، أنين، وبإبدال الحرف الأول إلى حرف (( ز )) يقال زنين أي قليل وزنَّ عصبه أي يبس، وزنَّ الرجل أي استرخت مفاصله وبإبدال نفس الحرف إلى حرف (( ش )) نجد الشن وفي (( معجم العين )) الشن هو السقاء البالي، وشنشة الرجل غريزته.
ومن صوت فقفأة الماء المغلي قال الأعراب فقأ الدمل، وفقع، و فقص البيض، وفقه العالم الحقيقة
ومن صوت خرير الماء في النهر والصور المرافقة له . . . كان خرير النهر، وخرج – الخروج من المنبع- وشقه لمجراه خرم - خرق- وكان الحت على جوانبه وتخريبها- خرب - ومن صوت تر صوت سقوط الماء جاءت الكلمات در الحليب وإن أبدلت ت بـ (( ذ )) فكان ذر بمعنى نثر.
وفي حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه وقصته معروفة يوم أراد مساعدة المرأة الفقيرة والتي كانت تخدع أطفالها بطبخ الحجارة لهم، فجاء بالدقيق والسكر والسمن وقال لها " ذري أحر لك " أي ذري الدقيق في القدر لأعمل لك حريرة، جاء هذا الحديث في تاج العروس من جواهر القاموس وتوسع التلون في الخيال المرئي فكانت الذرية وتعددها وانتشارها كالذرات . . . ولم يكتف العربي بالاستفادة من صور الطبيعة ، بل عاد إلى صور الذات فكان من تقاطع النبرة مع أطباق الشفتين كلمة بتَّ ورافق القطع في اللفظ بتر – بتل – بطل
ويجول الذهن العربي في الآفاق مستوحياً منها روائع التعابير ، فمع إطباق الشفتين ، والتأكيد والإلزام المرافق لها كانت الكلمات : نبت – نبق – نبع – نبغ – نبأ جميعها تتوافق ومعاني النمو والصعود والنبوغ فنجد أيضاً النبأ - و النبؤة - والنبي ونبأ الشيء أي ارتفع والنبيء الطريق الواضح والنابيء المكان العالي
هل في جميع هذه الاشتقاقات ما يخرج عن المشاهد المرافقة لها أليست النبؤة والتنبأ هو استنباط ويقال بينته تبيان الطريق الواضح ، وكذلك النبؤة والنبي والنابيء وعلو وسمو جميعها
كثيرة هي الأصوات والاشتقاقات ومنذ النشأ الأول ، فالمؤيدات كثيرة وتحتاج إلى بحث وكتاب خاصين
جمالية اللغة :
رائعة أن تتزين المرأة الغزلة والمحببة إلى قلب زوجها والتي أسمتها اللغة " بعروبة و عربة " بعقد من اللؤلؤ غاص زوجها في عمق البحر وجمعه لها ، منيته أن يزداد حبها له ، وبازدياد فيض المشاعر والعواطف بينهما كفيضان النهر فيغمر كل شيء ، وتلألأ اللؤلؤ على جيدها تلألأ النجوم في السماء ، فكان الألق والنور وحرارة صدرها يخففها برد اللؤلؤ
إنه الحب بضم الحاء وهو كالحب بفتحها ينبت الأول من القلب والثاني من عمق الأرض ويزدادان نمواً ويطرحان الزهر وعبق المشاعر وعبق الرائحة ويطرحان الثمار ومنها " الأسرة والخير . . .
وهما سواء بسواء " إن أغفلنا رعايتهما، بالماء للأول وبالود الشديد للآخر ينتهيان ، وصور شاعرية تموج في الذهن وتتراقص على نغم حلو ومنسجم في صورها اللؤلؤ ، الحب ، الحب ، والماء والميل ويتوجها الله العزيز الكبير باسمه المحب ، والمفكر المرحوم " خليل السكاكيني " يسبقني ويقول " كلمة حب لا تعادلها كلمة أخرى في جمالها وقوتها ، بل هذه اللفظة تكاد تشم منها رائحة الحب لانها تخرج من أعماق القلب – ولنجرب لفظها – مصحوبة بنفس الحب وليس اجمل من ضم الحاء واطباق الشفتين على بائها المشددة مما يستشف معه الحزم والثبات و أضيف الحركة والديمومة كما في معنى الحروف "
والحب غزير فياض يغمرنا بالمشاعر الحلوة والسعادة ولقد أكد ذلك قديماً " المرزوقي " في كتابه " الأزمنة والأمكنة " يقول للمتهلل وجهه عرابة وبئر عرابة أي كثيرة الماء
ولنجمع هذه الباقة لنرى عروبة – عرابة – المرأة – الوجه الباسم والبئر جميعها تقدم الهدايا من عطاءات كبيرة .
ولننتقل إلى لوحة جديدة واللوحات كثيرة وبحاجة إلى متاحف تضمها فالعقل العربي تميز بالإضافة إلى نقل صور الطبيعة بحس إبداعي فالكون من كان – مكان – كائن
ومن وجد – الوجدان – التواجد – الوجود – الوجد ( الشوق )
فمن حرف الباء بابا – أب – أبَّ أي اشتاق وأبه أي نطق والأبهة النخوة والعظمة وأبى ترفع عن الدنيا
ومن حرف الميم ماما – أم – أمَّ ( من الإمامة والقصد ) والأمة في ترابطها وحنوها كحنو الأم على أبنائها ، والإمام
ولوحة موشاة مزينة بزخارف أنيقة إنها ( الرحابة ) وهي السعة ومن علا يعلو ، والعلو ، و العلاء ، والبعد عن المكان وعن الصغائر وفي العلو رؤى أوسع وشمولية ارحب لذا نجد أن العالم رحب وسيع لا حدود له ، وكذلك العلم لا آفاق تحده وتتوحد جميعها أيضاً باسم الله " العليم " وكل من سعى نحو الأشياء وعمل بها ولها فهو سعيد والسعادة تترافق أحياناً مع اللذة ، وهي محدودة الزمن لكن السعي الأوسع نحو المثل والعلوم يجلب السعادة اللا محدودة ولربما كانت دائمة ، وحقيقة أن الإيمان بالله وحبه وحب رحابة خلقه وكونه يولد الطمأنينة والسعادة والثقة بالنفس
ويطول الطريق ولا نهاية له ، فجمال اللغة والتي أكدنا قدستها تستمد من الجمال الإلهي جزءاً منه ، نحن ساميون من أبناء نوح عليه السلام واسمنا اشتق من سما – يسمو – سماء ولقد ذكر أحد المفكرين " أن العبقرية السامية قد تميزت بالنبوة والأخلاق فأفصحت بالأولى عن الملأ الأعلى ورسمت بالثانية الصورة التي تتحقق بها في النفس ، والعبقرية الآرية قد كشفت بالعلم عن هذا النظام كما فتحت بالصناعة طريق السيطرة على الطبيعة التي انطوت عليها "
أن عبقرية الأمة العربية في عقيدتها الأصيلة ونزوعها الخير وهي تشبه في عطائها الزهر عندما يزهر – وهنا العقيدة وعقد الزهر – وهي رحيمة تضم الجميع كالرحم وقديماً أطلق اسم صبأ على من اسلم ومنها صبا – يصبو والصبا . . . مقتبل العمر وربيعه والصبا أيضاً ريح تهب من ناحية الشرق وفي الإسلام توجه نحو الأعلى صبأ وتوج نحو الشرق كريح الصبا
وقال امرؤ القيس
إذا قامت تضوع المسك منها نسيم الصبا جاءت بريا القرنفل
ونترك الكلام للحروف والكلمات لوحدها نجدها تتقارب مع بعضها البعض فالحصان بفتح الحاء العفيفة التي حصنت نفسها من الزلل و جمعها حواصن ، والحصاة الفهم وقيل العقل وهو أيضاً يعصم صاحبه من الزلل وجاء " في البصائر والذخائر لأبى حيان التوحيدي " تجميع لطيف لحكم ثابتة وفيه يقول أبو العباس ابن سريج " من أنكر الحسن أنكر نفسه ، ومن أنكر العقل أنكر صانعه ، ومن أنكر الغيرة أنكر أباه وأمه ، ومن أنكر خير الإجماع أنكر نبيه ومن أنكر عموم القرآن أنكر حكمته ، ومن أنكر الواحد أنكر الشريعة ومن أنكر اللغة أنكر المحاورة "
والدكتور فاضل السامرائي يشرح لنا دقة تعبير الحمد لله إذ يقول كان يمكن أن يقال المدح لله أو الشكر لله ، والمدح هو الثناء وذكر المحاسن من الصفات والأعمال ، وقد يكون للحي ولغير الحي وللعاقل وغير العاقل ، لكن الحمد فهو الثناء وذكر المحاسن مع التعظيم والمحبة ويخلص للحي العاقل ويضيف شروحاً جديدة ويقول الحمد لله جملة اسمية والجملة الاسمية تدل على الدوام والثبات بينما الجملة الفعلية ترتبط بزمن معين ولا تفيد بأن المفعول مستحق للفعل فقد نشكر من لا يستحق الشكر بينما الاسمية تفيد استحقاقه للحمد تأكيداً والحمد صنعه القلب ، والفرق بين أحمد الله أو نحمد الله أو احمد الله ، فجملة الحمد لله معرفة بأل وأل تفيد العهد وتفيد استغراق الجنس وهي تفيد الإحاطة والشمول " وكما عودنا رسولنا العظيم يضيف بعداً قيما وجمالياً للحمد في حديثه صلى الله عليه وسلم " من لم يحمد الله لم يمجد الله "
التعابير أنيقة تترابط مع صورها وهي كذلك واشتقاقها كل موحد وفيها دقة العلم والأمانة تحددها في تناسقها الجمل ونوعية الجملة
ولنتوسع في البحث والتنقيب لنجد أن سحر اللغة لا يتواجد في تركيب الكلمات بل في الحركة المضافة إليها ، وحتى الحرف الواحد فهو نبع عبقرية وعطاء وليجرب واحدنا الحركات بلسانه وليدرك كنهها بعقله فالفتحة الحاصلة من ركون اللسان تعبر عن السكون كما يعبر الفعل الماضي الذي ما ينتهي غالباً بالفتحة عن انتهاء الفعل وسكون حركته الآن ، والكسرة الصادرة عن صدور الصوت بكسر الشفتين ورجعهما تعبر عن النسبية أو عودة الحال إلى الذات وآمل أيضاً أن يجرب واحدنا ذلك ويضبف لوحده من إلى عقلي وقلبي ، وروحي ، ومن أعماقي ، وكياني وحتى جيبي أيضاً ، و الضمة الحاصلة عن تدافع الصوت عند خروجه تعبر عن الفعالية المتواصلة والدائمة ، فالفعل المضارع ذو فعالية متواصلة ويعرب مبدئياً بالضم فإن أردنا إيقاف الفعالية بدلنا الضمة بالسكون لم يكتب وحتى لو أمرناه بالكتابة فهو قبلاً لم يكتب وربما لا ينفذ ما نأمره به ، والفاعل مرفوع ومتحرك ، ونرى أن المفعول به لكي يحتمل فعل الفاعل يعرب بالفتحة وكذلك الفعل الماضي ، أما الأمر والنهي فيجزمان " من الجزم والحزم والأمر "
قلت أن الحروف تكمن في ذاتيتها ومن مكان لفظها الفم وحركات اللسان المتمشية مها خصوصيات دقيقة
لنلفظ حرف (( غ )) ولندقق في قطعنا له انه يصدر من جوف الفم وفي العمق ، ولذا نجد الغموض والغيبوبة ، والغب ، والغروب ، وغشم الليل وأغشى أي غطى ، والغبوة ولنلفظ حرف (( س )) يعبر في لفظه عن الحركة أو الطلب أسيل ، سأل ، سار ، سيق ، سخرت السفينة ، سعى ، سبر ، سور وحرف (( ب )) يغلب عليه الظهور والوضوع بان ، بدا ، باح ، برعم ، بزغ ، بلج ، بنى ، بشرّ
وسؤال يطرح هل للشدة وتشديد الحرف من معنى وقيمة ، نعم وبكل تأكيد ولنأخذ الكلمات التي تنتهي بألف وراء نجد معظمها تدل على هيجان واضطراب وانفعال ثار ، مار ، حار ، جار ، طار
ولنضف إلى هذه الأفعال الشدة فنجد أن تصميماً وارادة وعقلانية أضافتها هذه الحركة البسيطة ولنحاول مع فعل " حار " في أمره ولنغيره بالشدة فنقول حوَّر الأمر أي غيره وكذلك ثوَّر الأمر أي درسه وبحثه وصفة المبالغة من الكلمات تضيف إليها الشدة ولنقارن الفرق بين كاذب وكذّاب ففي الأخيرة مزيد من الإرادة وتكرار الفعل والكذب
ويشدنا العربي القديم لنشاركه لعبة تغير الأحرف والتغيير هنا لحرف واحد وسنجد رائعة جديدة ، فالإبهام هو الغموض وتتناقض الكلمتان مع الذكاء وكلمة إبهام مشتقة من بهم وهذه حاصلة من اصل بها ، وعندما أبدلنا حرف الألف إلى ميم وهذا الحرف بحسب مخرجه من الفم يفيد الحدودية والانغلاق فيحّول ( بها ) الإيجابية وبها البيت أي وسع والبهو والبهاء والحسن إلى بهم السلبية والبهيم ، دليل بهيم لا نور فيه والبهيمة الدابة ، والأبهم الأصمت وكلمة غموض مشتقة من غم مع إضافة (( ض )) وغموض العينين ، والظلمة والغم والحزن ، أليس في الغموض ظلمة وحزن
ودعونا نترك الجد في بحثنا ولننتقل إلى الدعابة أمن دعابة أو دعابات في لغتنا وفكاهة نتفكه بها كما نتلذذ بأكل الفاكهة ، أجل إن بها النكتة والاستمتاع بها في بداهة التعبير ، ففي رواية قديمة أن " العماد الكاتب " رأى زميلاً له وكان قاضياُ وكان يعرف بالقاضي الفاضل فداعبه العماد وقال له (( سر فلا كبا بك الفرس ))
وجاراه الفاضل في دعابته وببديهته الحاضرة أجابه (( دام علا العماد))
لربما سئلت أين الدعابة . . . فأجيب فليحاول واحدكم قراءة التعبيرين بالعكس فسيجد أن قراءتهما على أي وجه تكون الحروف ذاتها والمعاني ذاتها وللقاضي الأرجاني بيت شعر وفي ذات الطريقة أي القراءة بطريقتين يقول :
مودته تدوم لكل هول هل كل مودته تدوم
والحريري صاحب المقامات الفكهة الحلوة وعلى نفس المنوال يقول :
أسى أرملاً إذا عرا وارع إذا المرء أسا
ولنتابع الدعابات في شذرات الذهب فشمس الدين محمد بن منصور السلمي الدمشقي والمعروف بابن الخطيب وله باع في ضروب الشعر وله مدح جميل لا علاقة له بالدعابة يقول فيه :
وأشقر في وجهه غرة كأنها في نورها فجر
بل زهرة الأفق لأني أرى من فوقها قد طلع البدر
لكن الدعابة في مديح له أيضاً إذ يقول :
التاج بالحق فوق الرأس يرفعه إذ كان فرداً حوى وضعا مجالسه
فضلاً وصنعاً فاخراً وسخا و أسال الله يبقيه ويحفظه
وسخا هنا أجزل العطاء
ولنصحف مع ابن الخطيب والتصحيف تغيير بعض الحروف فنرى أن المدح انقلب إلى ذم وهجاء فيقول :
الباخ بالخف فوق الرأس يرقعه إذا كان قردا حوى وضعاً مخالسه
فضلاً وندلاً وضيعاً فاجراً وسخا فأسأل الله ينفيه ويخرسه
كان تجوالنا في القدسية والقدم ، والجمالية ، ويشكك البعض في إمكانية لغتنا أن تتماشى والعصر وعلومه ، بل ويسبغ عليها آخرون بأنها لغة الخيال والشعر فقط ولا علاقة البتة لها بالعلوم المعاصرة ، وفيها عجز عن استيعابها ، وهذا الرأي سليم في جزء منه ويتحمل مسؤوليته أعضاء مجامع اللغة العربية وجامعاتنا ، ولطالما انحصر البحث في اللغة أورد ما جاء في كتاب " شذرات الذهب " وعن الإمام الشافعي رضي الله عنه قال
" من أراد أن يتبحر في النحو فهو من عيال الكسائي وعنه قال " من يتبحر في النحو اهتدى إلى جميع العلوم "
والنحو كما هو معروف الأصل في تعابير اللغة وحركاتها والمعارف المرافقة لما يعبر عنه ، وقد يُظن أن قصد الفقه والحديث وتفسير القرآن ، نعم قصد ذلك واكثر لأننا سنجد في القرآن الكريم شواهد كثيرة على العلوم ، والنتيجة تقودنا إلى أن النحو والصرف قاعدتان أساسيتان لمن قصد التعبير والحديث والكتابة
علمية اللغة :
الموضوعية تقتضينا أن نعترف أن علوم العصور الغابرة كانت تتراكم رويداً . . . رويداً وكان الإنسان يومها يبحث كعادته عما يصلح به حاله ، وعن الأخطار التي تحيق بحياته ليجد الحلول لها ولتجنبها ، بل تطلع إلى اكثر وذلك في الابتكار والتطوير للأشياء التي يحتاجها مما يسهل عليه الزمن والأيام وتخفف من أعبائه ، لكنه خرج من الإطار المادي لبرود القضايا الفكرية من فلسفة ومنطق وعلوم الأخلاق
لكن التطور الكبير في مختلف العلوم سيما التطبيقية منها حدث في القرون الأخيرة فكانت الطفرة العلمية وتنوعاتها ، وما يعنينا أن نعرف أكان للعرب ولغتهم مساهمة في ذلك ، وفي تقديري انهم برعوا وفاقوا أقران زمانهم وتفوقوا عليهم ، وقصص العلم والعلماء تزخر بها كتب التاريخ لتلك الأيام ، ولنثبت علمية اللغة العربية إضافة إلى تعدد مضامينها الجميلة التي أكدناها قبلاً ، وجدت كتاباً خصصه مؤلفه " صديق بن حسن القنوحي " 1248 – 1307 بكامله للعلوم باسم " أبجد العلوم الوشي المرقوم في بيان أحوال العلوم " وفي كتاب ثان " شذرات الذهب في أخبار من ذهب " لعبد الحي بن احمد العكري الدمشقي 1032 – 1089 مواضيع علمية عدة ومثله " معجم البلدان " وكذلك كتاب " سير أعلام النبلاء " لمحمد بن احمد الذهبي 673 – 748 و العديد من الكتب خصص واحداها جزءاً أو اكثر للعلوم وفي أبجد العلوم تعريفات متعددة للعلم منها أنه يقول " اعلم أن العلم وإن كان واحداً وحقيقة واحدة إلا أنه ينقسم إلى أقسام كثيرة من جهات مختلفة فيقسم من جهة قديم ومحدث ومن جهة إلى تصور وتصديق ومن جملة طرقه إلى ثلاثة أقسام قسم ينبت في النفس وقسم يدرك في الحس و قسم يعلم بالقياس وينقسم من جهة اختلاف موضوعاته إلى أقسام كثيرة بعضها علوم وبعضها صنائع
وفي الفوائد الخاقانية يقال " اعلم أن ههنا تقسيمين مشهورين أحدهما أن العلوم أما نظرية أي غير متعلقة بكيفية عمل أو عملية متعلقة بها والإمام الشافعي يحدد العلوم الحكمية بخمسة عشر فناً إلا أن فروعها أكثر من خمسين علماً
وكلمة ((فن )) في اللغة تعني تحويل العلم إلى واقع والصناعة من فنون العلوم ويبحر العلماء في التعداد فهناك علم المنطق ، والعلم الإلهي ، والعلم الطبيعي ، والعلوم الرياضية ، ومن فروع العلم الطبيعي علم البيطرة ، وعلم النبات ، وعلم الحيوان ، وعلم الفلاحة ، وعلم المعادن ، وعلم الجواهر ، وعلم الكيمياء وجعلوا من فروع الطب علم التشريح ، وعلم الكحالة (( العينية )) ، وعلم الأطعمة ، وعلم الصيدلة ، وعلم الحجامة ، وعلم المقادير والأوزان ، وعلم الجراحة ، وعلم الفصد ، بل أكدوا وفي تلك الحقبة على علم إعجاز القرآن و أسموه في تلك الفترة علم العلوم وتكثر التصانيف حتى أن أحدهم وضع تصنيفاً شاملاً في مؤلفه الجميل " مدينة العلوم " وفي كتاب المبسوطة للإمام فخر الدين بن الخطيب الرازي يضع علم الأخلاق في قمة العلوم
قصدت من كل هذه الشواهد أنها كتبت بالعربية عناوين وتفاصيل والمنطق الاستنتاجي يحتم علينا أن نقر أن جميع هذه العلوم عاشت في اللغة ، ولغتنا عاشت وستعيش وتدوم حتماً لشموليتها المعبرة عن كل ما في الكون ، وفي هذا السياق نقول أن الباحثين في مجالات الإعجاز العلمي في القرآن الكريم قديماً وحديثاً وتأكيد إعجازه اللغوي ، والعلمي ، والرقمي ، وإعجازه في تفسيره للطبيعة ، وإيراده الحوادث التاريخية يجدون الحروف والكلمات خادمة وفية مطاوعة ، لما أراد الله جلت قدرته إيصاله إلى عباده ، ولمزيد من المتابعة والتفصيل أجدني معجباً بما استنتجه المهندس الحمصي عبد الدائم كحيل في تحليله للآية الكريمة
" تبارك الذي جعل في السماء بروجاً وجعل فيها سراجاً وقمراً منيراً " – الفرقان الآية 61
ويشرح بأن رواد الفضاء بمركبة (( أبولو )) عادوا ومعهم عينة من تراب القمر، أخذت لا من الجانب المضيء للأرض بل من الجانب الآخر المعتم ، ولقد اثبت العلم بتحليله لعينة من التراب أن فيه 50 % من أو كسيد السيكيلون ، و هو ما يستعمل لصناعة الإليكترونيات ، وهذا الأ وكسيد يجعله يكتسب خاصية الإنارة ، وتحويل النور إلى تيار كهربائي وقد يحوي هذا التراب على خاصية تحويل الكهرباء إلى نور أن العمليتين متعاكستان ولنفكر في الإنارة وانعكاس ضوء الشمس عليه وعلمية اللغة تمثلت بثلاثة تعابير . . . المنير – السراج – البرج
ولنكمل الفارق بين السراج والمنير فالسراج الوعاء الذي يوضع فيه الوقود ليحترق ويعطي الحرارة والضوء ، والشمس وعاء مليء بالهيدروجين الذي يحترق باستمرار ، وبث الحرارة
الشمس سراجاً و القمر منيراً ، أما البرج في اللغة العربية هو البناء الضخم المحكم وفي السماء البروج وهي محكمة وكبيرة الحجم وكل برج يتألف من ملايين المجرات وكل مجرة تتألف من بلايين النجوم
والدكتور فاضل السامرائي في بحوثه عن الإعجاز العلمي يكتب عن تطور الجنين في القرآن الكريم ووصفه مراحل التطور . . . العلقة ثم . . . المضغة ، و العلقة وهي الطفيلية المعروفة و المضغة في كتب التفسير ليس قطعة لحم عادية بل هو كقطعة اللحم التي مضغتها الأسنان . أمن شك بعد ذلك بان اللغة العربية ليست علمية
لقد واكبت علوم العصور الغابرة وعلى المعنيين بها سيما الجامعات ومجامع اللغة العربية أن يضيفوا لها ما جاءت به العصور الأخيرة بذا يكونون أمناء على لغتهم وعلى أمتهم وشرف الأمة وبذا يسهمون في الحفاظ عليها ويرفعون عنها كيد من أراد بها سوءاً ويزداد قربهم من الرسول العربي والقرب من الرسول يوصل إلى قرب من الله
لقد روى ابن حيان عن ابن عباس قول الرسول صلى الله عليه وسلم " من احب العرب فهو حيي حقاً "
والفقرة الأخيرة من البحث وهي
ما أخذ من مفردات من لغتنا وما أخذناه نحن من اللغات الأخرى :
لقد تفاعلت اللغات منذ نشوئها مع بعضها البعض ، رغم صعوبة الاتصال قديماً لكننا نجد أن تناغماً كان بينها ، فكلمة رجل في العربية يقابلها في الهندية راجا ، ويقترب من اللفظ في اللاتينية فيقال ركس وكلمة سكر نقلت إلى اغلب لغات العالم مع تغيير بسيط بها
وفي كتاب " صبح الأعشى في صناعة الإنشا " يقول " يوجد في اللغة العربية ما لا يوجد في الفارسية وغيرها كالحق والباطل و الصواب و الخطأ والحلال و الحرام فلا ينطق بها أهل تلك اللغة إلا عربياً "
وما يرشدنا إلى الكلمات غير العربية المدخلة إلى لغتنا نشير إلى أن أي كلمة لا تصريف لها ، فهي مأخوذة من لغة أخرى وكمثال لها (( جهنم ))
عود على بدء . . . لقد أكدنا أهمية اللغة بالنسبة إلى الأمة وهي روحها وقد آن الآوان لعودة الروح كما يريد كل من عشق اللغة وعشق الأمة والوطن
أن المنظمة العالمية للتربية والثقافة والفنون (( اليونسكو )) حثت الأمم على أن تدرس كل منها العلم بلغتها لأبنائها ، إذا كانت تريد أن تشارك في تكوين العلماء وافرازهم
في أمريكا 142 كلية طب منها كلية طب في " بورتوريكو" تدرس باللغة الإسبانية لأنها اللغة الأصلية للسكان ، وفي كندا الخاضعة للتاج البريطاني تدرس مناهج التعليم في إقليم كوبيك بالفرنسية لانها لغة سكانها ، وبلدان عدة يدرس طلابها الطب بلغاتهم المحلية – اليابان – كوريا – الدانمارك – السويد – تشيكيا – اليونان – فنلندا – إندونيسيا – رومانيا – ألبانيا – كمبوريا . . .
وفي جامعة دمشق ومنذ نشأتها تعتز بتدريس الطب باللغة العربية لكن المؤلم أن عديداً من جامعاتنا تدرس بغير لغتنا انه الجحود والإنكار لأسس انتمائنا القومي ، بل انه طعن مؤلم وتشكيك بإمكانيات لغتنا وخروج عن المنطق والسير في ركاب من لا يريدون الخير لنا
رحم الله من سبقنا ففي مصر صدر 1958 قرار جمهوري يوجب استعمال اللغة العربية في المكاتبات واللافتات وكان قد سبقه قرار مماثل وقبل أربع أو خمس سنوات في سورية
آمل أن أكون وفقت في تعزيز مكانة لغتنا في بيان مضامينها الجميلة وقدرتها على التطور والاشتقاق لمسايرة علوم العصر ، ونداء إلى المؤمنين بوطنهم ووطنيتهم أن يسعوا لتضمين مناهجنا الدراسية وفي المراحل الاولى للتعليم جمالية اللغة ، فينشأ الحب لها مع أطفالنا لأن الحب مرافق للجمال وبعد حبهم سيستغرقون حتماً في دراسة الفروع اللغوية من نحو وصرف فالود دافعهم والأمل حافز لهم لبناء أمجاد جديدة
وأعتذر أخيراً من السيد فهمي الهويدي لمخالفتي لرأيه فلن يقطع لساننا ولن تقوم الساعة الثقافية الحضارية لإيماني الثابت بقدسية اللغة وديمومتها ، فكانت منذ البدء وهي متواجدة تواجد الحياة ومع انطلاقها المتجدد أليس لسان أهل الجنة ينطق بالعربية ؟! ...