ثلاثة عشر عاما مع الجزيرة! -1

ثلاثة عشر عاما مع الجزيرة!

1-4

"لعبة الصوت الإعلامي الإسلامي"

نوال السباعي *

[email protected]

وجود قناة "الجزيرة الفضائية القطرية " على الرقم واحد في قائمة القنوات التلفازية لدى معظم الناس في بلادنا وفي المهجر ، ظاهرة تدعو الى الكثير من التأمل والدرس ، وذلك بعد مرور ثلاثة عشر عاما على ولادة القناة ، وعلى الرغم من التراجع الكبير والخطير الذي تعانيه بعض برامجها ، والهدر الذي لايستهان به من ناحية متابعة الجماهير لها ، فمازالت قناة الجزيرة تتصدر قائمة القنوات التلفازية التي يمكن لكل مشاهد في المنطقة العربية أن يتابعها ويشاهدها في أي ساعة من ليل أو نهار وأن يخرج من مشاهدته تلك بشيء يهمه ويتعلمه .

ثلاثة أمور محورية جاءت بها قناة الجزيرةإلى حياتنا الفكرية والسياسية والاعلامية الراكدة ، أولها  استحضار الصوت الاعلامي الاسلامي لأول مرة في تاريخ الاعلام في المنطقة العربية ، وثانيها تعليم الحوار كطريقة لتوجيه الرأي العام ، وثالثها ربط  شرق المنطقة العربية بمغربها بعد بُعد شقة وعميق هوة بينهما ، وقد كانت هذه الأمور ومازالت في بعض القنوات الاعلامية من الممنوعات المحظورة في حياتنا ، فهزت الجزيرة بها ركود التفكير الجماعي السياسي لدى الجماهير في المنطقة العربية .

 استحضار البعد الديني  في لحمة المنظومة الفكرية السياسية السائدة ، بعد أن كان ذكر الدين في الإعلام السياسي الفكري العربي من عاشر المستحيلات ، كان من أهم انجازات قناة الجزيرة ،  لقد قامت الجزيرة بعملية تطبيع مع المصطلحات السياسية الاسلامية ، ومع الفكر السياسي الاسلامي ، ومع رجال هذا الفكر بما  لهم وماعليهم ، وبما يستحقونه من تكافؤ للفرص مع غيرهم من أصحاب الفكر والسياسة ، وبعد تغييب لهذا الفكر عن الاعلام طيلة عقود سيطر فيها الفكر القومي ومن ثم العلماني والتغربي على هذا الإعلام  ، ولقد كان لقناة الجزيرة السبق في استخدام مراسلين بل ومعدي ومقدمي برامج ذوي اتجاهات إسلامية معروفة ، مما منح القناة روحا شعبية جديدة ، ومصداقية لدى الجماهير لم تكن تتمتع بها من قبلها غير إذاعة لندن الموجهة إلى العالم العربي ، والتي كانت بدورها قد بدأت بدغدغة عواطف ملايين المستمعين من المحيط إلى الخليج باستخدامها الفكر الاسلامي والصوت الاسلامي ، وخاصة ماتعلق بموضوع حرب الابادة في البوسنة والهرسك ، ولاأنسى أن اذاعة البي بي سي الناطقة بالعربية في تلك الحقبة ، بدأت بتلقح برامجها بقضايا دينية ، حتى أن برامج كانت وقفا على الاسئلة السياسية والعلمية مابين سؤال وجواب ، صرنا نسمع فيها أسئلة فقهية بحتة ، تختص بأمور لم يعتد المستمع العربي عليها في مثل تلك الاذاعة وفي الحصص السياسية والفكرية ، فلقد كان الاعلام العربي يحصر الاسلام في برامج فقهية محددة لاتخرج عن قضايا الحيض والنفاس والطلاق وعدة الأرملة ومفطرات الصائم !! ، ولعل من أخطر الأسئلة التي لايمكن نسيانها في تلك الحقبة من حرب البوسنة ، والتي ذهلت وأنا أستمع إلى طرحها في برنامج سياسي ، وأذهلني أكثر الجواب الدقيق العجيب عليها ، كان السؤال عن دين الطفل المولود من أم بوسنية مسلمة  وأب صربي أرثودكسي قد اعتدى عليها أثناء الحرب"1" ، وكان ذلك السؤال علامة فارقة في تغيير سياسات اذاعة لندن الموجهة للعرب من دغدغة العواطف القومية لدى هؤلاء القوم إلى اللعب بوتر الدين الحساس في زمن غيرت فيها حرب البوسنة كثيرا من المعادلات في تركيب الفكر في المنطقة العربية ومن إعادة التفكير بالهوية لدى كل شعوب المنطقة الذين وجدوا شرائح عريضة من أبنائهم يذودون عن أهل البوسنة في هاتيك الأيام السوداء .

قناة الجزيرة الاخبارية ، ومنذ ولادتها كانت أكثر رصدا وأعمق فهما لمتطلبات تلك المرحلة ، وبدا أنها عقدت العزم على خوض تلك اللعبة بمهارة عالية وبأصالة متميزة وبتوازن مهني ، وكان مراسلوها من البوسنة والهرسك أصواتا حية تعبر عن ضمير أمة مجروحة ، مباشرة جاءت حرب البوسنة بعد حرب لبنان ، وكانت قناة الجزيرة قد عبرت عن الحربين في قدرة مذهلة على تقديم الصورة الحقيقية بمصداقية عالية الجودة ، ندر أن تحاكيها أية جهة إعلامية عربية أو أجنبية أخرى لقد كانت البرامج الوثائقية التي أعدتها القناة وأنمتجتها عن حرب البوسنة وعن حرب لبنان برامج وثائقية استثنائية غير مسبوقة ليس في الإعلام العربي وحده بل في الإعلام العالمي كذلك .

 كان الصوت الاعلامي الاسلامي ولأول مرة يلعب ومن خلال قناة الجزيرة دورا مفصليا في صياغة الرأي العام لجماهير هذه المنطقة التي طالما حرمت من هذا الصوت ، إن المهمة الخطيرة جدا التي قامت بها قناة الجزيرة لدى إنشائها في تحييد الصوت الاسلامي وجعله صوتا "عربيا" ضمن مجموعة الأصوات القومية والطائفية واليمينية التي كانت تتحدث إلى الأمة وباسم الأمة في إعلامنا خلال خمسين عاما ، كان من أهم السمات والبصمات التي تركتها قناة الجزيرة على المنطقة إعلاميا وفكريا وسياسيا ، والتي لابد من تفنيدها ودراستها بعمق ، أسماء لامعة مثل سمير حسن ، عمر العيساوي ، تيسير علوني ، أسعد طه ، أحمد الزاويتي ، وغيرهم ممن لايحضرني الآن ، قام أصحابها بدور إعلامي فريد في حينه ، أهم مافي هذا الدور هو تمكن أصحابه من خلال قناة الجزيرة من تقديم عمل صحفي نزيه رفيع المستوى دون أن يؤثر فكرهم أو التزامهم الاسلامي على مهنيتهم أو دورهم الصحفي ، ولايغيب عن أحد من مشاهدين ومراقبين وأعداء و أصدقاء أن أحد الأسباب الرئيسية لمحاولة قصف قناة الجزيرة وفي أكثر من مكان كان هذا الصوت ، الصوت الجديد الذي استطاع أن يتفوق على نفسه فيقدم الحقيقة دون أن يسقط في مهاوي هوية التزامه أو انتمائه الشخصي ، وهو مرض عضال قلّ من لم يصب به من الإعلاميين في مشارق الأرض ومغاربها .

إلا أن قناة الجزيرة وبعد أن بدأت بهذا الزخم الهائل مقدمة الصوت الاسلامي  جنبا الى جنب مع غيره من الأصوات التي كانت قد احتكرت الساحة الاعلامية العربية خلال نصف قرن ، محدثة توازنا جديدا ومعادلات كانت غائبة تماما عن الساحة السياسية والفكرية والاعلامية في المنطقة العربية ، مالبثت الجزيرة أن وقعت في فخ شبه قاتل عندما سمحت لجماعة القاعدة وأخواتها بأن تستخدمها من حيث تدري أو لاتدري بوقا إعلاميا لما سمي فيم بعد بالارهاب!! ، حيث ارتبطت صورة الجزيرة مباشرة بهؤلاء القوم ، الذين حاولوا أن يربحوا مساحات واسعة في نفوس الناس في منطقة يتلذذ سكانها بالشعور بأنهم الضحايا دائما ، فلما أن سقطت القاعدة شر سقطة وانفضح أمرها  وكشفت أهدافها ونبذ الناس أساليبها الدموية غير الانسانية وغير الاسلامية وغير الأخلاقية ، دفعت الجزيرة ثمنا باهظا لذلك من مصداقيتها ومن جماهيرها ، وهو ثمن لايقدر بثمن مقارنة مع المكانة الرفيعة جدا للجزيرة في نفوس سكان المنطقة من المحيط الى الخليج ، أضف إلى ذلك عشرات الملايين من المهاجرين من المنطقة العربية في مشارق الأرض ومغاربها .

لعبة الصوت الاسلامي الاعلامي لم تقتصر في قناة الجزيرة على الأخبار السياسية والتقارير الاخبارية والفكر السياسي ، ولكنها كانت هدفا أساسيا في اطار توجهات هذه القناة الاستثنائية وبكل المقاييس ، "أحمد منصور" رئيس تحرير مجلة المجتمع الاسلامية الكويتية ذائعة الصوت ، استُقدم ليكون مقدم برنامج الشريعة والحياة في قناة الجزيرة الناشئة ، وهذا البرنامج الذي يعرف في أروقة الجزيرة وتاريخها القصير ببرنامج الشيخ العلامة يوسف القرضاوي ، كان فتحا غير مسبوق في تاريخ إعلامنا العربي الرسمي الكئيب الطويل ، "الشريعة والحياة" بدأ طريقا تبعته فيه كل القنوات الاعلامية العربي ودون استثناء ، ربط الجماهير ولأول مرة بدينها فكرا وحياة وسياسة ، وجعل من الشريعة المرجع الأساسي للناس جميعا يجدون فيها الاجابات الشافية لكل مااعترضهم من هموم تتعلق بدينهم أو بدنياهم ، وبعضها كان تاريخيا مزمنا ، لقد شكل الشريعة والحياة في حينه محطة تاريخية فاصلة في علاقة الدين بحياة الناس في المنطقة العربية ، وفي وضع الحركات الاسلامية المعاصرة .

-يتبع-

               

*كاتبة عربية مقيمة بإسبانيا