بَحْرُ الْمَحْمولِ
بَحْرُ الْمَحْمولِ
الدكتور محمد جمال صقر
كنت قبل شراء هاتفي المحمول ، في مَنْدوحَةٍ وبُحْبوحَةٍ !
أغيب أغيب أغيب ، ثم أحضر فجأة ؛ فلا يكون أحسن في الغياب من غيابي ، ولا أحسن في الحضور من حضوري !
ثم ماذا ؟
ثم لم أجد محيصا ولا مناصا من أن أستعمله ، فاشتريت جهاز نوكيا 6610 - هكذا هو فيما ما أظن ! - الذي يسمونه " العصفورة " ، ولو سموه " الغراب " ، كان أشبه ، إلا إذا كانوا لمحوا في تسميتهم معنى التَّجَسُّس والتَّحَسُّس الواضحين في عبارة المصريين كلما عرفوا أمرا خفيا " العَصْفورا قالِتْ لي " ، أو إلا إذا كانوا أشاروا إلى الباب الصحفي الساخر الشهير " العُصْفورَة " ، الذي أظن أننا كنا نَتَفَقَّدُه قديما أول ما نتفقد من صحيفة الوفد المصرية !
علم ذلك أحد أستاذتي العلماء الفنانين ؛ فكتب لي هذه الرسالة باللهجة المصرية الساخرة ، في أول ما كتب الناس لي :
" مَبْروكِ الْمَحْمولْ
عُقْبالِ الْمَحْمولْ فيهْ " !
هكذا من دون تشكيل ، بلا ريب - وإنْ دَقَّقْتُ به تَسْجيلها - فاستثارني تَوًّا إلى هذه الرسالة باللغة العربية :
" وَإِذا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا أَتْعَبَتْ في مُرادِها الْمَحْمولا " !
التي سرقتُها من قول سيدنا أبي الطيب - وما أكثر السارقين منه ! - :
" وَإِذا كانَتِ النُّفوسُ كِبارًا تَعِبَتْ في مُرادِها الْأَجْسامُ " !
فلسفة بفلسفة ، والبادئ أظلم !
ثم ضرب الدهر ضَرَبانَه ، حتى سهرنا معا أنا وبعض أساتذي وأصدقائي ، في كرامة أستاذي ذلك العالم الفنان نفسه ؛ فكان بهجةَ المجلس ؛ إذ استطرد بحديثه إلى " شِعْرٍ إِخْوانيٍّ بَريديٍّ " حدث بينه وبين بعض أصدقائه ؛ فاستطردت إلى " شِعْرٍ إِخْوانيٍّ مَحْموليٍّ " حدث بيني وبين بعض أصدقائي ، من مثل رسالة بعضهم :
" طَفِئَتْ آدابُنا وَانْدَرَسَتْ غَيْرَ ما خَلَّفَ مَحْمودُ بْنُ شاكِرْ " !
التي جاملني فيها بالثناء على أبي فِهْرٍ محمود محمد شاكر - رحمه الله ! - أستاذي .
ورسالتي في جوابه :
" كَيْفَ وَالْعَبْسيُّ يَزْدادُ عَلى ما دَهاهُ الدَّهْرُ نورًا وَنَوادِرْ " !
التي جاملته فيها بالثناء على أبي مسلم البهلاني - رحمه الله ! - أستاذ أساتذته .
وبينت وَجْهَ شَبَهِ تلك المراسلات بفنون المساجلة والمماتنة والإجازة ، القديمة التي كان العربيان يتطارحان فيها النظم ، قولا بقول ، وأنه لَمّا زادني صديقي هذا بيتا آخر ، وكنت في عمل لازم ، لم أستطع إلا أن أقول له في رسالة أخيرة رَحِمَني بَعْدَها :
" أَعْجَزَتْني عَنْ إِجازاتِ الْأَكابِرْ خَطَراتُ الْعِلْمِ في وَهْمِ الْأَصاغِرْ " !
ثم استطردت ثانيا إلى رسالة أردت أن أعتذر بها عن تقصيري في حق بعض أصدقائي ؛ فلم يتيسر لي غير قول الشاعر المصري عبد الوهاب محمد ، باللهجة المصرية :
" يا سيدي مَسِّ عَلينا
أَوْ حَتّى صَبَّحْ بِكِلْمَهْ
يِعِزِّ زَعَلَكْ عَلينا
وِتِصْبَحِ الدُّنْيا ضَلْمَهْ " !
فقال بعض أصدقاء المجلس نفسه : لكن هذا من أغنية " لطيفة " !
فقلت : هذا لأنني أنا ولطيفة طلعنا معا !
فضحكوا كثيرا .
ثم استطردت ثالثا إلى رسائل التهنئة المحمولية ، بمقدم شهر رمضان الكريم هذه السنة 1426 ، التي كانت تصلني ساذجة ، كأن مرسليها مضطرون إليها خشيةَ الإهمال - كيف فكرت في جوابها ، فاستحسنت من تَسْحيرَةٍ باللهجة المصرية للشاعر فؤاد حداد ، قوله :
" دي لَيالي سِمْحَه
نُجومْها سِبْحه
اِصْحَ يا نايِمْ
يا نايِمِ اصْحَ
وَحِّدِ الرَّزاقْ
رَمَضانْ كَريمْ " !
فأحيتْ ذكرى رمضان الموغلة في نفوس المصريين ، وأثرت فيهم وفي غيرهم تأثيرا كبيرا ، حتى راسلوني - ثم قابلوني - بالثناء عليها ! ولكنها عرضتني لظن بعضِ غير المصريين ، أنني أنبهه بـ" اصْحَ يا نايِمْ يا نايِمِ اصْحَ " على شيء ؛ فرتَّبَ لي أمسية ، ثم دعاني إليها دعوة رسمية ؛ لعلي أرضى !
ثم استطردت رابعا إلى رسائل التهنئة بعيد الفطر ، المحمولية الاضطرارية الساذجة كذلك ، كيف عَزَفْتُ عن مجاراتها إلى تدبيج هذه الرسالة الشعرية العربية :
" عيدٌ سَعيدٌ أَنْتَ لي
فَلْتَعُدْ
بِالْعادَةِ الْغالِيَةِ الْوافِيَهْ
بِزَهَراتِ الْعَفْوِ وَالْعافِيَهْ " !
ثم أقبلت أشرح كيف أعاني إحكام الرسائل العربية في مساحة سبعين حرفا فقط ، لا تَبُثُّني " العصفورة " غيرها ، وأنني أخرجت هذه الرسالة الأخيرة مثلا من بحر السريع ، ثم لما ضاقت المساحة حذفت من حق الشعر العربي العمودي شطر البيت الآخر ، ولا ريب في أنني لم أجد مكانا لاسمي ؛ فلم يكن يعبأ بمعاناتي تلك ، غير من يعرف رقم المرسل !
فقال بعض أصدقاء المجلس :
غَيِّرْ مَحْمولَك ، وهات جهازا متطورا يُتيحُ لك مساحة وافية !
من باب " يا أَخي أَرِحْنا " !
ولكنني لم أنتبه ، بل رأيت المجلس فرصة علمية مناسبة لطرح نظرية " شِعْرِ الْمَحْمولِ " ، العبارة التي سمعتها من بعض ممثلي مسلسل كويتي ؛ فلم أنسها !
ربما كتبها كاتب المسلسل عرضا ، ولكنه انتبه بلا ريب ، إلى نوع معاصر من الشعر ينبغي أن يؤصل ويفصل ، كما أُصِّلَتْ تَوْقيعاتُ القُدَماءِ ، وَفُصِّلَتْ !
أَكْثَرْتُ مرة أخرى حتى أَهْجَرْتُ ؛ فاعتدل أستاذي العالم الفنان ، ثم تَأَنّى حتى يستطيع أن يحفظ كلامَه من شاء ، ثم قال :
أَنْتَ رَجُلٌ عَروضيٌّ ؛ فَاجْعَلْ هذا الشِّعْرَ الَّذي عانَيْتَه ، مِنْ بَحْرٍ تُسَمّيه " بَحْرَ الْمَحْمولِ " ، ثم سَجِّلْهُ بِاسْمِكَ " !
ولكنني لم أنتبه ؛ فكتبت هذا المقال ، أُرَوِّجُ لِبَحْرِيَ الْجَديد ، مُسْتَعِدًّا لِتَوْصيلِ الشِّعْرِ مِنْهُ إِلى الْمَنازِل !