الحصاة والدرة
هموم الأبناء في شعر الأميري وابن عبيد الله
عبد الحكيم الزبيدي
تعد عاطفة الأبوة والأمومة من أسمى العواطف الإنسانية، ذلك أن الإنسان يرى في ابنه قطعة منه تمشي على الأرض – كما عبر بحق حطان بن المعلى في بيته الذي سار على الألسنة وجرى مجرى الأمثال:
وإنـمـا أولادنـا لو هبت الريح على بعضهم | بـيـنناأكبادنا تمشي على لامتنعت عيني عن الغمضِ | الأرضِ
ولعل العلماء العاملين الذين بلغوا منزلة عالية من العلم وعلو الهمة فتركوا الذكر الحسن والعلم النافع الذي لا زالت الأجيال تنهل منه، أقول لعل هؤلاء هم أكثر من يحرص من الآباء أن يروا أبناءهم قد تحلوا بما كان آباؤهم يتحلون به من سمو الهمة وعلو الطموح والإقبال على العلم والرغبة في الاستزادة منه. ذلك أنهم قد أدركوا لذة هذا العلم وتذقوا حلاوة التفوق والنجاح، فرغبوا أن يرأوا أبناءهم كذلك. إضافة إلى أنهم قد كدوا وكدحوا في سبيل الحصول على هذا العلم الغزير وارتادوا للحصول عليه شتى الموارد، وتجشموا المصاعب والعناء، لذلك يريدون لأبنائهم أن ينهلوا من علمهم الذي جمعوه بعد عناء، يريدون لهم أن ينهلوا منه بيسر وقليل عناء، ذلك أنهم سيعينونهم على التحصيل ويذللون لهم عقباته التي قد تجشموها هم. فإذا صادفوا من هؤلاء الأبناء بعض العزوف عن طلب المعالي، وعدم الرغبة في إعطاء العلم كليتهم، ورأوهم قد أرادوا أن يعيشوا كمعظم الشباب في زمنهم، يستمتعون بشبابهم – ضمن ما أحل الله لهم- ويعطون للعلم حقه ولكن في نفس الوقت يعطون لأنفسهم حظها من الراحة والاستجمام، أقول إذا صادفوا ذلك من أبنائهم نراهم قد غمهم الأمر، وانقبضت له قلوبهم، وانبروا يوجهون لأبنائهم النصح، بل ربما اللوم والتقريع، يستحثونهم على ترك اللهو واغتنام فترة الشباب في التحصيل والنصب في طلب العلم والترقي إلى أسباب المعالي، وعدم الرضاء من الغنيمة بالإياب، بل عليهم أن ينصبوا ويبذلوا كل ما لديهم من طاقة في سبيل تحصيل العلم وطلب المعالي وجلائل الأمور، ليتبأوا الصدارة في المجتمع، لا أن يكونوا من العامة التي لا تؤثر ولا تقود غيرها إلى الخيرات.
وإذا كان هؤلاء العلماء ممن يجيد التعبير عن عواطفهم بأبيات من الشعر الرائع الجميل، إذا كانوا كذلك نراهم قد سطروا مشاعرهم وهمومهم تلك في قصائد نابضة بالصدق تعبيراً عن تلك العواطف الجياشة وذلك الهم المؤرق الذي يشغل بالهم ويقض مضجعهم وهو أن يروا أبناءهم مقبلين على العلم وقد تحلوا بعلو الهمة والنصب في طلب العلم وبلوغ أقصى ما يمكنهم من مواقع في متن الحياة لا على هامشها.
ومن هؤلاء العلماء الشعراء الذين تبأوا مكانة عالية في عالم الفكر والأدب الشاعر والعالم الجليل السيد عبدالرحمن بن عبيدالله السَّقاف، والشاعر والمفكر الإسلامي الكبير الأستاذ عمر بهاء الدين الأميري، رحمهما الله تعالى. وسنحاول في السطور التالية أن نقارن بين قصيدتين لكل منهما تشابهتا في الموضوع والنصيحة الأبوية المخلصة، وإن اختلفتا قليلاً في طريقة التناول.
من هو ابن عبيدالله:
بداية لعل من المفيد أن نقدم تعريفاًً موجزاً بالشاعر والعالم الجليل عبدالرحمن بن عبيدالله السقاف، الذي ولد في حضرموت باليمن عام 1300هـ وبها توفي عام 1375هـ، ولد ابن عبيدالله في بيت علم وأدب ونشأ في أسرة عرفت بالصلاح والتقوى، وتلقى تعليمه على بد عدد من الشيوخ والعلماء أولهم أبوه عبيدالله بن محسن الذي كان يصطحبه إلى مجالس شيخه الإمام العلامة عيدروس بن عمر الحبشي. ابتدأ بتعلم القرآن الكريم، وقرأ الفقه والنحو على شيوخ في حضرموت. وكان قوي الذاكرة شديد الذكاء وقد نبغ منذ فجر شبابه وبلغ مرتبة من العلم أهلته لأن يحتل أرفع المقامات، فعرف بعالم حضرموت ومفتي الديار الحضرمية، وكان ذا نفوذ قوي في الشؤون العامة في بلاده، وصلة قوية بالحكام، وإسهام بارز في السعي لتوحيد أجزائها ورفع كابوس الاحتلال البريطاني الذي كان جاثماً عليها. ترك العديد من المصنفات في الفقه والحديث والتاريخ والأدب والنقد، ونشر ديوانه في حياته في مصر بشرح الشيخ حسنين مخلوف، مفتي الديار المصرية. من أشهر مؤلفاته: صوب الركام في شؤون القضاء والأحكام (في الفقه) وبلابل التغريد فيما أفدناه أيام التجريد (في الحديث) وبضائع التابوت في نتف من تاريخ حضرموت (في التاريخ) والعود الهندي عن أمالي في ديوان الكندي (في النقد الأدبي) ([1]).
قصيدة ابن عبيدالله:
أما قصيدة ابن عبيدالله فهي لا تحمل أي عنوان شأن شعراء المدرسة الإحيائية. وهي موجهة إلى ابنه حسن، وقد أنشأها سنة 1351هـ وفيما يلي نص القصيدة([2]):
كـم لـي أنـبّـه منك طرفاً يا حسنْ فـكّـر لـنـفسِك في العواقبِ وادكرْ إنّـي أخـاف عـلـيك قولك في غدٍ واعـلـم بـأن الدّهرَ حربٌ فاعتصم ولـئـن بـقـيتَ مع البطالةِ سادراً لـهـفـي عـلـيك وكلّما فكّرتُ في ولـربّـما صوّرتُ طبعَك في الدُّجى تـزوّرُ عـن نـصحي وتلقي للهوى مـتـخـاذلاً فـي النَّوءِ عمّا تُرتجى وإذا زجـرتُـك ذات شـهـرٍ مـرةً والـحُـرُّ تـكـفيه الملامة والعصا خـالـفْ هـواكَ وزُمَّ نفسَك بالتُّقى واحرص على ساعاتِ دهرِك إنّها الـ والـديـنُ أولُّ خُـطـوة فـاعتن به والعِرضُ أشرفُ خصلةٍ ومتى ارتقى والـمـرءُ مـتـهـمٌ بـفعلِ قرينهِ واحـذر مـعـاشـرة الـلـئامِ فقلّما والـنـاسُ غالبهم على اللؤم انطووا فـلـطـالـمـا أحسنتُ ظنّي بامرءٍ فـالاخـتـلاطُ بـهم من البلوى ولا والـعـلـمُ مـلـكٌ لا يـزولُ وجُنّةٌ مـالُ الـغـريـبِ وأُنسُه من حيثما خـذ بـالـوصّـيـةِ يـا بنيَّ فإنّها وتـكـبّـدِ الأتـعـابَ فـي تنفيذها والـعـجـزُ غـايـتُه الندامةُ والهنا وأرح فـؤادي إنـني من صدِّك الـ ويـحـقُّ لـي أن أسـتـريحَ لأنني ويـسـرُّنـي مـنك العفافُ ولم تزل ولـديـك أخـلاقٌ تـلـيقُ بعنصرٍ فـاجـمـع إلـيها العلمَ واعرف أنّهُ وبـحبِّ أصحابِ الكساءِ يضاعفُ الو وعـلـيهم الصّلواتُ والبركاتُ والرَّ | وأبـيـتَ إلا أن تـمادى في إنّـي أخـافُ عـلـيك عاديةَ الزّمنْ يـا لـيـتني والصَّيفَ ضيّعتِ اللبنْ بـوسـيـلـةٍ تُـنجيك من شرِّ الفتنْ والـعـجـزِ أخـلِق أن تُذال وتُمتهنْ مـسـتقبلَ الحال امتلأتُ من الحزنْ فـأبـيتُ مضطربَ الفؤادِ من الشَّجنْ ولـفـاسدِ الرأي الذي يُردي الرَّسنْ ثـمـراتُـه ومـع التواني في قَرَنْ لـم تـنـبـعث إلا وأدركك الحَرَنْ لـلـعـبـدِ والتلميحُ يُغني ذا الفِطنْ ودعِ الـتـمـكُّـثَ إنّه سببُ الوهنْ ـعِـلـقُ الذي ما في الوجود له ثمنْ وبـهـمّـةٍ أدِّ الـفـرائضَ والسُّننْ لـلـعـرضِ ريـبٌ لم يفارقه الدّرنْ فـالـحزمُ بالإنسانِ هجرُ أولي الظِّننْ تُـفـضـي إلى غير العداوةِ والإحنْ لا يـبـذلـون الـوُدَّ إلا عـن دَخَنْ ومـنـحـتُه صدقَ الموّدةِ فاضطغنْ سـيـمـا لـمـتّفقِ السَريرةِ والعلنْ لـلـمرءِ في الدارينِ من أوقى الجُننْ يـأتـي تـكون له المنازلُ كالوطنْ سـبـبٌ بـه ترقى إلى أعلى القُننْ وعـلـى زمـانِك إن عملتَ بها تمَنْ بـالـكـدِّ فـي نيل المعالي مرتهنْ ــمشؤومِِ عن طلبِ المعارفِ مرتهنْ فـوّضـتُ أمـرك للإله بحسن ظنْ عـنـدي على هذي الرُّعونةِ مؤتمنْ مـن سِـنـخِ عدنانٍ وظئرٍ من يمنْ وقـفٌ عـلـى تعبِ القريحةِ والبدنْ هّـابُ لـي ولـك الـلطائفَ والمِننْ حـمـاتُ والـرُّضوانُ ما غيثٌ هتنْ | الوسنْ
الشرح والتحليل:
بدأ ابن عبيدالله قصيدته بكلمة (كم) لتدلنا -ولينبه ابنه- أنها ليست المرة الأولى التي يوجه له فيها النصيحة. و(كم) توحي بالكثرة، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة أن الشاعر كان ينصح ابنه في كل المرات نصحاً مباشراًَ، بل ربما كانت النصيحة بطرق مختلفة منها المباشر ومنها غير المباشر، منها –بل أكثرها- الرفيق وقليل منها الشديد والحازم، يدلنا على ذلك قوله:
وإذا زجرتك ذات شهر مرة
و(ذات شهر) تعني أن ذلك يكون على فترات متباعدة تقدر بالشهور. إذاً هو قد لجأ إلى الأسلوب الشديد –الزجر- ولكن في مرات قليلة جداً، حينما يرى ابنه لاهياً لا يقدر عاقبة انصرافه عن الجد وعن طلب المعالي. وفي إيراد الشاعر لاسم ابنه (حسن) وبناء القافية عليه نوع من التودد والتحبب إلى ابنه، كما ان اختيار البحر الكامل بتفعيلاته الراقصة، بالإضافة إلى تسكين القافية، يجعل للقصيدة وقعاً خفيفاً على النفس وجرساً لطيفاً على الأذن ويجعل القصيدة سهلة الحفظ، وهو ما أحسب الشاعر قصد إليه لتكون هذه الكلمات بمثابة الأنشودة التي يحفظها ابنه (حسن) ويرددها كلما فترت همته عن طلب المعالي لتشحذ عزيمته وتدفعه دفعاً إلى النصب والتعب في طلب العلم والترقي في مسالك العلا. يؤكد ذلك أن هناك قصيدة أخرى في الديوان كتبها الشاعر في نفس العام في ذات الموضوع، ولكنها مصاغة بألفاظ جزلة وعبارات فخمة، يبدو فيها الشاعر متأثراً ومعارضاً لقصيدة تأبط شراً (يا عيدُ ما لك من شوقٍ وإيراقِ)، مما يوحي بأن الشاعر لم يكتبها لابنه بل لينفس بها عن لاعج همه وخواطر فؤاده، ومطلعها([3]):
لا يرأم العجزَ إلا غيرُ مشتاقِ=ولا ينال المعالي غيرُ سبَّاقِ
وكلتاهما نظمتا في نفس العام، ولا ندري أيهما أسبق في التأليف، ولكننا سوف نقتصر هنا على القصيدة الأولى، لحلاوة جرسها، وسلاسة ألفاظها وسهولتها، ولأن الأفكار بين القصيدتين تكاد تكون متطابقة.
لم يترك الشاعر ابنه في حيرة من الأمر عن سبب تخوف أبيه عليه فبيَّن له سبب ذلك وهو أنه يخشى عليه (عادية الزمن) فالأب بتجاربه في الحياة يدرك –أكثر مما يدرك الصبي اللاهي الذي لم يخبر الحياة بعد- من أمور الحياة الكثير وهو يريد أن يسجل خبرته هذه لإبنه ليفتح وعيه على ما يستقبله من تقلبات الزمان، التي لن ينجيه منها إلا تسلحه بالعلم: (واعلم بأن الدهر حرب) ولن ينتصر فيها إلا (بوسيلة تنجيه من شر الفتن) هذه الوسيلة هي العلم، فبين له أنه يخاف عليه أن يندم في المستقبل أن أضاع صباه وشبابه في اللهو والعزوف عن تلقي العلم الذي يصبح –حين يكبر- بأمس الحاجة إليه ولكن هيهات فقد فات الأوان:
إني أخاف عليك قولك في غدٍ: يا ليتني، والصيف ضيعتِ اللبن
(ياليتني) هذه الكلمة التي تقال عند فوات الأوان، ويأتيه رد الأب الحنون بمثل مشهور عند العرب: (الصيف ضيعتِ اللبن) ليقول له أنت الآن مازلت في الصيف وفي إمكانك أن تتدارك اللبن قبل أن لا يكون هناك صيف ولا لبن.
وقد لخص ابن عبيدالله مشكلة ابنه- التي هي مشكلة معظم الأبناء- في كلماتٍ قصيرة هي (البطالة والعجز والتمكث):
ولئن بقيت مع البطالة سادراً والعجز أخلقْ أن تُذال وتُمتهنْ
ودعِ التمكُّثَ إنّه سببُ الوهنْ
البطالة هنا هي تضييع الوقت فيما لا فائدة فيه وعدم الانشغال بالعلم النافع المفيد –في نظر الأب- والعجز هو التكاسل وإيثار الراحة على النصب في تلقي العلوم وأخذ النفس بالشدة فيها، والتمكث هو التسويف. وهي- كما نرى- مشكلة كل إبن ومشكلة كل جيل، إلا من رحم الله.
ثم يلتفت الشاعر عن محض النصح إلى تصوير حبه لابنه ولهفته عليه وهمه بأمره، حتى أن النوم يجفو جفنه إذا تذكر أمره في الدجى:
ولربّما صوّرتُ طبعَك في الدُّجى فأبيتُ مضطربَ الفؤادِ من الشَّجنْ
ثم يعود إلى تشخيص المشكلة: عدم قبول النصح (تزوّر عن نصحي) (متخاذلاً )عن طلب المعالي. وبعد أن يذكره بأنه لا يزجره إلا في النادر لأنه (فطن) لا يحتاج إلى الشدة (العصا) ويكفيه التلميح، بعد ذلك يسرد عليه مجموعة من النصائح الغالية التي لو التزم بها ستعينه على دخول معترك الحياة بقلب مطمئن، هذه النصائح هي علىالترتيب : تقوى الله، (زُمّ نفسك بالتقى)، واغتنام الوقت والاستفادة من كل دقيقة فيه فإنه (العِلق الذي ليس له ثمن)، أداء الفرائض والسنن (بهمّة)، الحفاظ على نقاء العِرض من الشوائب، وليس المقصود هنا الابتعاد عن كبائر الفواحش -فابنه بعيد عنها- ولكنه يقصد مجرد أن يضع الإنسان نفسه في مواطن الريب التي تجعله غرضاً لسهام الحاسدين، وقد وضح الشاعر ذلك بالابتعاد عن مسايرة المتهمين:
والمرءُ متهمٌ بفعلِ قرينهِ فالحزمُ بالإنسانِ هجرُ أولي الظِّننْ
والتحذير من معاشرة اللئام، وفرط الثقة في من ليس أهلاً لها، والحث على طلب العلم، فهو (المُلك الذي لا يزول) و(الجُنّة في الدارين) وهو (مال الفقير) و(أنس الغريب). ثم يبين له فضل النصيحة، ويوضح له عاقبة التعب في طلب العلم، وهو الراحة في المستقبل أما الراحة الآن فإنها تقود إلى نصب المستقبل. ثم يعود فيبين له حرصه وإشفاقه عليه:
وأرح فؤادي إنني من صدِّك الـ ـمشؤومِِ عن طلبِ المعارفِ مرتهنْ
وأخيراً يخبره أنه فوّض أمره فيه إلى الله تعالى، وكأنه بهذه العبارة يقول لابنه أنه لن يسمع منه نصحاً ولا زجراً في المستقبل، وأن هذه النصيحة –التي اختار أن تكون شعراً يسهل حفظه وتذكره- هي آخر السهام في جُعبته، وأقصى ما يستطيع بذله، وأنه فوّض الأمر بعد ذلك لله تعالى وهو أحق من يُلجأ إليه سبحانه في كل حال.
وفي ختام القصيدة لا ينسى الشاعر أن يمتدح في ابنه الصفات الطيبة التي يراها فيه- وهو أسلوب حكيم- حتى لا يجعله يسئ الظن بنفسه ويظن أنه لا يصلح لشئ، بل يؤكد على ما فيه من صفات طيبة ويوضح له أن لديه الأدوات التي تعينه –إن بذل بعض الجهد- على الوصول إلى مراتب الكمال، فهو عفيف النفس، كريم الأصل والمحتد، ولا ينقصه إلا أن يجمع إلى هذه الفضائل فضيلة (العلم) الذي يملك أدواتِه ولكنه بحاجة إلى أن يبذل في سبيله (تعب القريحة والبدن).
ولقد أحسن (حسن([4])) اتباع هذه النصائح الغالية فأصبح عالماً وشاعراً خلّف الدواويين الشعرية وترك بصماتِه في الحركة الأدبية في بلاده، فقرت به عين أبيه وعين العلم.
من هو الأميري([5]):
وُلد عمر بهاء الدين الأميري فى حلب الشهباء بسورية سنة 1336هـ (1915م) فى أسرة من كرائم الأسر الحلبية، وفيها درس المراحل التعليمية الأساسية وأتم دراسته فى الآداب والفلسفة. درس الأدب وفقه اللغة فى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة السوربون فى باريس، والحقوق فى الجامعة السورية فى دمشق. عمل فى التعليم فتولى إدارة المعهد العربى الإسلامى فى دمشق. مثَّل سوريا وزيرًا، وسفيرًا فى باكستان والسعودية، وكان سفيرًا فى وزارة الخارجية السورية. كان عضوًا فى المجمع العلمى العراقى، وعضوًا فى المجمع الملكى للبحوث الإسلامية فى الأردن. دُعِيَ إلى المغرب عام 1386هـ أستاذًا لكرسى «الإسلام والتيارات المعاصرة»، فى دار الحديث الحسنية بالرباط، واستمر فى العمل خمسة عشر عامًا، كما درّس الحضارة الإسلامية فى كلية الآداب والعلوم الإنسانية بجامعة محمد الخامس. دُعِيَ أستاذًا زائرًا ومحاضرًا فى جامعات الرياض، والإمام محمد بن سعود الإسلامية، والملك فيصل، والملك عبد العزيز فى السعودية، وجامعات الأزهر، والجزائر، والكويت، وصنعاء، وقطر، والجامعة الأردنية فى عمان، وجامعة الإمارات العربية فى العين، وعدد من الجامعات الإسلامية فى باكستان، وتركيا، وأندونيسيا. له عشرات من الدواوين والكتب المطبوعة، وعشرات أخرى تنتظر الطبع. توفي إلى رحمة الله فى مدينة الرياض بالمملكة العربية السعودية سنة 1413هـ - 1992م.
من دواوينه الشعرية:
مع الله - ألوان طيف - أب - أمى - من وحى فلسطين - أشواق وإشراق - ملحمة النصر - حجارة من سجيل - قلب ورب - رياحين الجنة - الزحف المقدس - نجاوى محمدية - أذان الفجر.
ومن كتبه المطبوعة:
1 - الإسلام فى المعترك الحضارى.
2 - المجتمع الإسلامى والتيارات المعاصرة.
3 - فى رحاب القرآن (الحلقة الأولى: فى غار حراء).
4 - فى رحاب القرآن (الحلقة الثانية: عروبة وإسلام).
5 - فى رحاب القرآن (الحلقة الثالثة: وسطية الإسلام وأمته فى ضوء الفقه الحضارى).
قصيدة الأميري([6]):
وردت القصيدة في ديوانه (أب) وهي بعنوان (زفرةُ نصوح)، وهي موجهة إلى أبنائه جميعاً ولم يوجهها لواحد بعينه. قدم لمناسبتها المستشار الأديب: علي الزكور بالكلمات التالية:
"وبعد ثلاثين عاماً من المكابدة والمعاناة في ممارسة أبوّة النسب في التربية والتوجيه، إضافة للأبوة المطلقة، التي يتحسَّس بها الأستاذ الأميري منذ فجر شبابه، يشعر بأنه لم يحقق هدفه المثالي، في إنشاء الأبناء، ليكونوا في مجال الريادة الفكرية، والخلقية، والاجتماعية.. فيطلق قصيدته "زفرة نصوح" يقول فيها":
في القلبِ نيرانٌ وفـي عينيَّ أمسكُ ألف تـأبى الأبوة ذرفهــا وببسمتي.. ألمٌ وحسرهْ ربَّـيتهم.. وبذرت فيهم للمعالي خيـر بـذرهْ تـخـذوا الحصاة مثالهم وأردتهم في التاج دُرَّهْ * * * أبـنـيَّ.. لا تـتذمّروا وتدبّروا قصدي وغَوْرَهْ وخذوا الصراط المستقيم وبادروا الأهداف عبرهْ وتـمـسّـكـوا بـحبال ربكم فثمَّ المرءُ يبرهْ وبـسـنّـة الهادي الأمين وإنه في الخلق مِدْرَهْ إنَّ الـصـلاة عـمادُ هذا الدين، شدَّ الله أزرهْ وعـلـوّ هـمـتكم من الإيمان والبركات بكرهْ سـيـروا جميعاً في محجَّتهِ وكونوا خير أسرهْ * * * أبنَيَّ.. لا تستثقلوا نُصحي.. طريق الحقِ وعرهْ إنـي لـمـجتهد لكم وسْعي ولستُ دعيَّ قُدرهْ سـلَّـمـتُ لـله الذي فطر البرية خير فطره وإلـيـه قـد أسـلمتكم ودعوته في كل زفرهْ أمـلـي بـكم ما زال وفراً والهموم لديَّ وفره | عَبْرَهْ
مقارنة بين القصيدتين:
تختلف فكرة قصيدة الأميري عن قصيدة ابن عبيدالله، وإن اتفقتا في الموضوع وهو تصوير عاطفة الأبوة الصادقة نحو الأبناء ورغبة الآباء أن يترسم أولادهم طريق العلم والمعالي. فقد وجه ابن عبدالله قصيدته منذ المطلع إلى إبنه (حسن) في صباه أو في صدر شبابه يحثه على ترك اللهو وينصحه بالنصب في طلب العلم، أما الأميري فقصيدته عن أبنائه كلهم، وقد جعل المقطع الأول منها شكوى ذاتية يلمح فيها تلميحاً إلى أبنائه دون أن يواجههم مباشرة بما يكرهون، فهو يتكلم عنهم بصيغة الغائب:
ربَّيتهم.. وبذرت فيهم للمعالي خيـر بـذرهْ
وقد كتبها –كما جاء في المقدمة- بعد ثلاثين عاماً من التربية وغرس حب المعالي في نفوس أبنائه فلم ير الثمرة التي كان يرجوها لهم:
تخذوا الحصاة مثالهم وأردتهم في التاج دُرَّهْ
فقد أرادهم أن يكونوا (درراً) في تاج يوضع على الجباه، ولكنهم رضوا أن يكونوا مجرد (حصىً) في سد. والحصى في السد له دوره وأهميته مهما كان صغيراً، على نحو ما جاء في قصيدة إيليا أبي ماضي (الحجر الصغير)([7])، ولكن الشاعر كان يطمح أن يكون أبناؤه في الصدارة، فإذا هم يقنعون بأن يكونوا أعداداً تضاف إلى الجموع. وهنا يتفق الشاعران (ابن عبيدالله والأميري) في أن كلاً منهما يريد لأبنائه موضع الصدارة، فالأميري أرادهم أن يكونوا (درة في التاج) واختاروا أن يكونوا حصاة، وابن عبيدالله يخاف على ابنه أن (يُذال ويُمتهنْ) في المستقبل.
وكلا الشاعرين حزين لحال ابنائه، ففي
قلب الأميري (نيران) وفي عينيه (ألف عبرة) وكذلك فؤاد ابن عبيدالله (مرتهن) وإذا
تصور حال ابنه فارق النوم جفنه وبات ( مضطربَ الفؤادِ من
الشَّجنْ).
ونصائح ابن عبيدالله والأميري تتشابه، فكلاهما يؤكد على الدين والتمسك به، فابن
عبيدالله يحث ابنه أن (يزم نفسه بالتقى) وأن (يؤدي الفرائض والسنن بهمة) والاميري
ينصح أبناءه بذلك أيضاً:
وتـمـسّكوا بحبال ربكم فثمَّ المرءُ وبسنّة الهادي الأمين وإنه في الخلق مِدْرَهْ إنَّ الصلاة عمادُ هذا الدين، شدَّ الله أزرهْ | يبرهْ
إني لمجتهد لكم وسْعي ولستُ دعيَّ قُدرهْ
ونرى الأميري يكرر كلمة (أبَني) في مطلع كل مقطع، تودداً إلى أبنائه وإظهاراً لحبه لهم وحرصه على منفعتهم، ويطلب منهم أن (لا يتذمروا) وأن (لا يستثقلوا نصحه) لأنهم بحاجة إلى هذه النصيحة وإن كانت مرة ليتنبهوا ويتداركوا ما فاتهم. وكذلك ابن عبيدالله يتودد إلى ابنه بمخاطبته بقوله (يا بُني) على التصغير، حين يطلب منه التزام نصحه:
خذ بالوصّيةِ يا بنيَّ فإنّها ببٌ به ترقى إلى أعلى القُننْ
وابن عبيدالله فوض أمر ابنه لله:
ويحقُّ لي أن أستريحَ لأنني فوّضتُ أمرك للإله بحسن ظنْ
وكذلك الأميري:
سلَّمتُ لله الذي فطر البرية خير فطره
وإليه قد أسلمتكم ودعوته في كل زفرهْ
وإذا كان ابن عبيدالله قد ظل على ثقة من ان ابنه سوف يستمع لنصحه ويصلح حاله وأنه (لم يزل عنده مؤتمناً) فإن الأميري أيضاً –رغم مضي ثلاثين عاماً على غرسه- ما زال يأمل الخير في أبنائه، ولكنه أمل مشوب بالهموم:
أملي بكم ما زال وفراً والهموم لديَّ وفره
ونلاحظ أن كلا الشاعرين قد اختار البحر الكامل لقصيدته –التام في قصيدة ابن عبيدالله والمُرفَّل في قصيدة الأميري- كما جعلها ساكنة القافية، وهو اتفاق عجيب، ولكنه ذو دلالة، فالبحر الكامل –كما يقول الدكتور عبدالله الطيب غفر الله له- من أصلح البحور لإبراز العواطف الواضحة غير المعقدة كالغضب والفرح والفخر([8]). كذلك فإن لسكون القافية دلالة على سكون النفس واطمئنانها بأن الله لن يخلف ظن كل منهما في أبنائه، يؤكد هذا المعنى كلا الشاعرين في ثقة واطمئنان بأنه أسلم أمر أبنائه لله وهو سبحانه خير من يلجأ إليه.
وهكذا رأينا كيف عبر هذين العالمين الجليلين شعراً عن معاناة كل الآباء خاصة العلماء العاملين منهم إذا وجدوا بعض التقصير من أبنائهم في طلب العلم وارتياد سبل المعالي، ورغبتهم في أن ينشغل أبناؤهم بالعلم النافع وأن يكونوا قادة في مجتمعاتهم يقودون الناس إلى الخير ويعلمونهم ما ينفعهم، ويكونون لبنة صالحة في بناء أوطانهم.
الهوامش
[1] - مقدمة كتاب: العود الهندي- دار المنهاج –بيروت- 2002م (ص )45 وحمد الجاسر /فصلية (العرب) العددان 5/6 1411هـ
[2] - ديوان ابن عبيدالله- مطبعة لجنة البيان العربي- القاهرة-1378 هـ (1959م) ص 312
[3] - ديوان ابن عبيدالله: ص 284
[4] - حسن بن عبدالرحمن بن عبيدالله (1915-1985م) أديب شاعر وفقيه خطيب، ولد وتوفي بحضرموت وبها تلقى تعليمه، عمل بالتدريس حتى وفاته، له مؤلفات أدبية لم تنشر في المسرحية والقصة والمقالة، بالإضافة إلى دواوين شعرية طبع بعضها في حياته، وطبع ديوانه (عبر وعبرات) عام 2001م عن مؤسسة العفيف الثقافية، صنعاء، اليمن.
[5] - عن موقع رابطة أدباء الشام:
http://www.odabasham.net/index.php?lang=0&CODE=02&id=4072
[6] - علي الزكور: عمر بهاء الدين الأميري وديوانه الإنساني (أب)، موقع رابطة أدباء الشام:
http://www.odabasham.net/index.php?lang=0&CODE=02&id=827
[7] - إيليا أبو ماضي: الجداول- دار العلم للملاييت- الطبعة الثالثة عشرة- 1979- ص ص 37-38
[8] - عبدالله الطيب: المرشد إلى فهم أشعار العرب وصناعتها، الجزء الأول، الطبعة الرابعة ، الخرطوم، 1991، دار جامعة الخرطوم للنشر، ص 316