المشروع الإسلامي في سورة الحشر
عبد العزيز كحيل
بدأت السورة بنهاية المشروع الصهيوني ولم تذكر بالاسم لا اليهود ولا بني إسرائيل رغم أنهم أبطال السوء للواقعة لكنها نسبت الغدر والخيانة إلى '' الذين كفروا من أهل الكتاب '' ، كأن انحرافهم العقدي جعلهم يخونون المرجع السماوي الذين ينتسبون إليه ، وهي إذاً ليست قضية عرقية إثنية لكنها مسألة إفشال مخطط عدواني يستهدف الدين الإسلامي وأهله ورسالته ، وابتداء سورة الحشر بوقائع غزوة بني قريظة فيه إيماء بضرورة التصدي للمشروع الصهيوني في كل زمان كما أن فيه لطيفة تفتح كوّة أمل وتفاؤل لأهل الإيمان هي تولّي الله تعالى لقضيتهم مباشرة ليس عبر المعية فحسب وإنما عبر الحضور الإلهي في المعركة ، فقد نسب سبحانه وتعالى الفعل للصّفّ المسلم '' ما قطعتم من لينة أو تركتموها قائمة على أصولها فبإذن الله '' ، ونسب لذاته العليّة الفعل والنتيجة :
-'' هو الذي أخرج الذين كفروا من أهل الكتاب من ديارهم لأوّل الحشر ''
-'' فأتاهم الله من حيث لم يحتسبوا وقذف في قلوبهم الرعب ''.
فإذا هزم المشروعُ الإسلامي المشروع الصهيوني برزت خصائصه ومقوماته: *أوّلا :العدالة الاجتماعية : هي أوّل بند في المشروع الحياتي التحرّري ، تطمئن الناس على أرزاقهم عبر شبكة اجتماعية تسودها المساواة كممارسة سياسية تتجاوز الشعار إلى التطبيق المؤسسي : '' ما أفاء الله على رسوله من أهل القرى فلله وللرسول ولذي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل ''
وهذا ردٌّ واضح على الطرح العلماني المستوحَى من القراءة الكنسية للإسلام والذي يسحب المسائل الحياتية من الاهتمام الديني ، وقد جيَّشت الدولة الإسلامية الراشدة الجيوش لمحاربة الممتنعين عن دفع الزكاة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم في سابقة تاريخية فريدة تحمل فيها الدولة السلاح من أجل استيفاء حقوق الطبقات المحرومة من الأثرياء المحتكرين للمال.
*ثانيا : التداول الحضاري : أسّس قول الله تعالى '' لكي لا يكون دُولة بين الأغنياء منكم '' , قاعدة اقتصادية تضمن التوازن الاجتماعي هي تداول المال بين أطراف متعددة في المجتمع ضمن دورات الانتاج والتوزيع والاستهلاك والادخار ، حتى لا يبقى حكرا على طبقة مترفة قليلة العدد تتصرف في شبكة التداول المالي وتكتسب النفوذ السياسي والاجتماعي ، وفي هذا إشارة جلية إلى التداول على السلطة ، فالاحتكار هنا باسم الحق الإلهي أو السلطة أو الثورة أو نحوها شرّ على المجتمع تماما كالاحتكار هناك بذريعة الملكية الخاصة.
*ثالثا : الإحسان بعد العدل : تحقيق العدل مطلب عظيم هو من أركان الإسلام المدنية إلى جانب الحرية والشورى لكنه ليس المقصد الأسمى إذ تعلوه الأخلاق الإيمانية الكريمة التي لا تكفلها دساتير ولا قوانين ولا تشريعات وإنما تلتزم بها القلوب المفعمة بالإيمان والنفوس التي زكتها تربية السماء : '' ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة '' .
ففي أزمنة الضائقة الاقتصادية قد يعجز العدل عن مواجهة حاجات الناس المتعدّدة والملحّة فيكمن الحلّ في الإيثار وتواري الذات خلف الاستجابة لمطالب المحرومين ، وقد حدثت في تلك الربوع العربية معجزة اجتماعية فريدة تستعصي على الدراسات الانسانية في هذا الزمن المادي لأنها من صنع العقيدة الحيّة و الأخلاق الإيمانية ، وهي التي نقلت يثرب إلى مصافّ المدينة حيث المدنيّة الحقّة والحضارة المتكاملة والرقيّ الانساني في ظلّ دين قيّم ، هو وحده الدين القادر على استنساخ تلك التجربة مرّة أخرى كلّما أتيح للمشروع الاسلامي أن يُثبت وجوده في دنيا الناس.
* رابعًا : التواصل الجيلي : يؤسّس الاسلام لأفكار ومشاعر ومجتمعات لا انقطاع في خطّ سيرها ، يعيش الناس حاضرا يقيمونه بجهودهم المتضافرة مهتدين بالماضي ودروسه وتجاربه الإيجابية والسلبية وما فيه من نجاحات وإخفاقات مع تفكير مستقبلي يخصّص مساحة كبيرة للأجيال القادمة وحاجاتها الاقتصادية والاجتماعية ليحدث تواصل عاطفي تنسج خيوطه الأخوّة الإيمانية : " والذين جاؤوا من بعدهم يقولون ربنا اغفر لنا ولإخواننا الذين سبقونا بالإيمان ولا تجعل في قلوبنا غلاّ للذين آمنوا ، ربنا إنك رؤوف رحيم " ، ولن تحتفظ الأجيال اللاحقة بذكر حسن لسلفها إلاّ إذا اقتصد هؤلاء في الإنفاق وتركوا لمن بعدهم موارد تكفل لهم العيش الكريم ، وهذا ما جعل عمر بن الخطاب رضي الله عنه يُحجم عن توزيع الأراضي الزراعية المفتوحة في العراق على أبناء جيله كما كان متوقّعا لأنّ ذلك كان يعني حرمان مَن بعدهم من أوّل مصدر اقتصادي إذا استأثر به الجيل الحاضر وحده.
*خامسا: عود على بدء : و تعود السورة قبل نهايتها إلى اليهود وتسلّط الضوء على علاقتهم بالمنافقين الذين يمثّلون في كلّ زمان ما يسمّى " الطابور الخامس " أي تلك الفئة من المواطنين الذين يرتمون في أحضان الأعداء الخارجيّين ويقومون من أجلهم بأعمال تخريبية في الداخل أكثرها نفسي كبثّ الإشاعات المغرضة والتضليل الإعلامي وتعبئة الجماهير ضدّ قضاياها ومصالحا بطرق خبيثة والانتصار للخصوم ، كلّ ذلك من أجل المآرب المادية ولرفض قيم المجتمع افتتانا بالثقافة الوافدة ، وهي ظاهرة متجدّدة نكاد نلمسها بأيدينا كلّما تقدّم المشروع الاسلامي في طريق الانجازات الكبيرة ، وكما كان المنافقون عيونا وأسماعا لليهود في المدينة المنوّرة فهم بنفس الشكل اليوم ، يتواعدون معهم سرّا وعلانية لاجتماع مصالحهم حول رفض الاسلام ووحدة الأمة وخيار المقاومة والجهاد ، لكن ليس لهذا التحالف الشيطاني سوى وجود ظرفي تصيبه الهزيمة كلما أحيت الأمة عزماتها والتفّت بقوّة حول مشروعها التحرّري والحضاري ، ولا تكاد العين تخطيء التواجد اليهودي العلماني خلف مؤامرات إجهاض جهود الإحياء الإسلامي منذ مدّة طويلة ، لكن هل لهذا المحور الشرّير من القوّة ما يدّعيه أو يوهم به ؟ تصوّر سورة الحشر الحقيقة على نحو بيّن : "ألم تر إلى الذين نافقوا يقولون لإخوانهم الذين كفروا من اهل الكتاب لئن أخرجتم لنخرُجنّ معكم ولا نطيع فيكم أحدا أبدا وإن قوتلتم لننصرنّكم والله يشهد إنهم لكاذبون ، لئن أخرجوا لا يخرجون معهم ولئن قوتلوا لا ينصرونهم ولئن نصروهم ليُوَلنّ الأدبار ثم لا ينصرون " ،
كأنّ الايات الكريمة تصوّر واقعنا العربي الحالي وما يميّزه من تحالف بين العرب المتصهينين واليهود المعتدين وأوجه التناصح والتناصر بين الطرفين لتصفية قضايا الأمة الحرجة ، ولعلّ الفرق الوحيد بين الأحداث الراهنة ووقائع غزوة بني قريظة يكمن في التعاون العلني بين الطرفين وعدم تحرّج " محور الاعتدال " العربي من إعلان تأييده للعدوان الصهيوني على الاسلام والقضية الفلسطينية بذريعة محاربة الارهاب ، بل و يزايد على اليهود في تحميل الاسلاميّين مسؤولية شرور المنطقة والعمل على استئصالهم ، والنفاق من أخطر معاول الهدم التي تنخر في جسد أيّة أمّة قوية ، فكيف إذا كانت تعيش حالات الضعف والعجز وكان بيد الطابور الخامس الجيش والإعلام والمال والتأييد الدولي ؟ لكن هل هي نهاية الأمة إذًا ومشروعها ودورها ؟
تضع الآيات اليد على الحقيقة المحورية حين تشير إلى انّ القضية نفسية قبل كلّ شيء ، وليست العبرة بما يتراءى من قوّة هائلة واستعداد جبّار في صفّ العدوّ ، فوراء ذلك خوف متجذّر في النفوس من الاسلام والمسلمين حين يأخذون بأسباب المنعة والوجود الفعلي ويتجاوزون تهيّبهم وعوائقهم الوجدانية : " لأنتم أشدّ رهبة في صدورهم من الله ، ذلك بأنهم قوم لا يفقهون ، لا يقاتلونكم جميعا إلا في قرى محصّنة أو من وراء جدر ، بأسهم بينهم شديد تحسبهم جميع وقلوبهم شتّى، ذلك بأنهم قوم لا يعقلون " ، اعتمد اليهود في الماضي على تحصّنهم وإشرافهم على المعارك من بعيد ، وهم يفعلون ذلك اليوم ، وخشيتهم من المنازلة الميدانية لم تتغيّر ، ثمّ هم يحملون في طيات تواجدهم غير الشرعي في فلسطين عوامل التفرّق والتقاطع بناء على أصولهم الإثنية ، وكان من الممكن الولوج من هذه الثغرة لتشتيت جمعهم من خلال عمل إعلامي سياسي ممنهج لو كان لقضيانا من يحمل همَّها ويتفانى في خدمتها من حكّام ومثقفين وصحفيّين ، فإذا تحوّل كثير من هؤلاء إلى خدَمَة للمشروع الصهيوني وناصبوا المشروع الاسلامي العداء السافر المستحكم كانت المعادلة عرضة لخلل عضوي قاتل يصيب الأمة في عوامل حياتها وبقائها ، ومع ذلك يمكن للشعوب الاعتماد على القلّة النزيهة من نُخَبها لاستثمار الوهن النفسي عند الأعداء لقلب المعادلة وتحقيق الأهداف المبتغاة ، مع العلم أن الوهن قد انتقل في المدّة الأخيرة إلى الصفّ العربي الاسلامي فأنتج المهرولين والمطبّعين ودعاة استئصال " الارهاب " أي المشروع الاسلامي الذي يطلقون عليه " الاسلام السياسي " وهم يقصدون الدين الاسلامي ذاته ، وهذا شأن المنافقين دائما : " وإذا لقوا الذين آمنوا قالوا آمنا وإذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم إنما نحن مستهزئون " .
وقد تغلّب الرعيل الأوّل على أعداء الخارج وفضح أعداء الداخل وقضى على تأثيرهم ، وهذا الذي سيحدث على أيدي المؤمنين المستمسكين بحقّهم ومشروعهم الواثقين في وعد ربّهم.
* سادسا : مرجعية وربانية : يقيم الاسلام التوازن الايجابي بين الربانية والإنسانية لإقامة مشروع حضاري يمتزج فيه الدنيوي بالأخروي والمادي بالروحي والسياسي بالأخلاقي ، لذلك اختتمت السورة بلفت الانتباه إلى مرجعية القرآن الكريم ، دستور الدنيا والآخرة والمادة والروح والسياسة والأخلاق ، هو موجِّه الانسان والأمة لكلّ خير عاجل وآجل ، ومنزله سبحانه وتعالى هو المتفرّد بصفات الجمال والجلال والكمال التي حوى منها آخر السورة ما لم يجتمع في غيرها ، أسماءٌ حسنى وصفاتٌ عليا تصحب الانسان في محراب الصلاة وساحات النشاط الانساني للدعوة إلى الله وإقامة العدل في أرضه وتسيير شؤون خلقه بموازين القسط ، والقرآن مرجع شامل متكامل للحياة بجميع شُعبها ومجالاتها تنتفع منه كلُّ مقاربة واعية تُحسن التفكير والتنزيل المبصر ، والله تعالى له الخلق والأمر في البدء والنهاية ، يُجري مشيئته وفق سنن ثابتة ونواميس ماضية ، يكون حملة المشروع الاسلامي أقرب إلى التوفيق والإنجاز كلّما وعوها وفقهوها في خضمّ المعترك السياسي والمجتمعي والحضاري واحتكموا إليها بمزيج من العواطف الايمانية الدافقة والنظر العقلي الصارم ، بها ينتصرون لا محالة على كلّ معتدٍ أثيم وتكون لهم الغلبة ويتمّ لهم التمكين.