إسلامُ ثقيف

د.عثمان قدري مكانسي

[email protected]

 في شوال سنة ثمان للهجرة أراد الرسول ـ صلى الله عليه وسلم ـ المسير إلى الطائف ـ معقل بني ثقيف ـ فبعث الطفيل بن عمرو إلى ذي الكفّين ـ وهو صنم قريب من الطائف ـ يهدمه ، وأمره أن يستمدَّ قومَهُ ، ويوافيه بالطائف ، فخرج الطفيل سريعاً إلى قومه ، فهدم ذا الكفّين ، وجعل يَحُشُّ النار في وجهه ، ويحرِّقه ويقول :

يا ذا الكفَّين لستُ من عُبّادكا      ميلادنا أقدم من ميلادكا

إني حَشَشْتُ النارَ في فؤادكا

 وانحدر معه مِنْ قومه أربع مئةٍ سراعاً ، فوافـَوْا النبي ـ صلى الله عليه وسلم ـ بالطائف ، بعد مَقـَدَمه بأربعة أيام ، وقدِم بدبابتين ومنجنيق (1) ، وكان على مقدمة جيش رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ خالد بن الوليد . وَرَمَّ ثقيفُ حصنهم ، وأدخلوا فيه ما يصلح لهم لسنة ، فلما انهزموا إلى داخل حصنهم أغلقوه عليهم ، وتهيّأوا للقتال ، وسار رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فنزل قريباً من حصن الطائف ، وعسكر هناك فرمى المشركون المسلمين بالنبل رمياً شديداً ، كأنَّه رجل جراد ، حتى أصيب ناس من المسلمين بجراحة ، وقُتِل منهم اثنا عشر رجلاً ، فارتفع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ إلى موضع مسجد الطائف اليوم ، وكان معه من نسائه أم سلمة وزينب ، فضَرَب لهما قُبَّتين ، وكان يصلي بين القبتين مدّة حصار الطائف ، فحاصرهم ثمانية عشر يوماً ، ورماهم بالمنجنيق ، وهو أول ما رمي به في الإسلام .

 وحصلت شدخة عند جدار الطائف ، فدخل نفر من أصحاب رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ تحت دبابة ، ثم دخلوا بها إلى جدار الطائف ليحرقوه ، فأرسلت عليهم ثقيف سِكك الحديد محمّاة بالنار ، فخرجوا من تحتها فرمتهم ثقيف بالنبل ، فقتلوا منهم رجالاً ، فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقطع أعناب ثقيف ، فوقع الناس يقطعون فيها .

 كان قطع الأعناب حرباً نفسيّة فتّ في عضد ثقيف ، فها هي زروعهم وثمارهم تقتلع أمام أعينهم ، ولا يستطيعون لها صَوناً .

 ولكنهم لن يعدموا وسيلة ، فهم يعرفون رسول الله ، تقواه وورعَه ونـُبلَ أصله فسألوه أن يدعها لله والرحم ، يا الله ! إنّه بعث للدعوة إلى الله وصلة الرحم ، وهم يسألونه بهما أن يحفظ عليهم أموالهم ، فأجابهم سريعاً ، ونادى مناديه أن كفـّوا عن ذلك فامتثل المسلمون لذلك .

 ثم نادى منادي رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ مخاطباً أهل الحصن من العبيد يريد أن يوهن جمع أسيادهم ويغيظهم :

 أيما عبد نزل من الحصن وخرج إلينا فهو حرٌّ ، فخرج منهم بضعة عشر رجلاً ، فأعتقهم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ ، ودفع كل رجلٍ منهم إلى رجل من المسلمين يمُونُه ويُمِدُّه ، فشق ذلك على أهل الطائف مشقة شديدة ، فهؤلاء عبيدهم يصبحون أحراراً رغماً عنهم ، وينتقلون إلى صف المسلمين .

 علم رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أنه لم يؤذن له في فتح الطائف ، فقد رأى فيما يرى النائم أنّه أهدي له قَدَحٌ مملوءة زبدة فنقرها ديك فهراق ما فيها ، فذكر ذلك لوزيره الأول أبي بكر رضي الله عنه ، فقال الصديق : ما أظنُّ أن تدرك منهم يومك هذا ما تريده ، فقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : وأنا لا أرى ذلك ، ولم يكتفِ سيدنا الرسول أن يستشير واحداً فاستشار نوفل بن معاوية الدِّيلي فقال : ما ترى يا معاوية ؟ قال : يا رسول الله إنَّ مثلهم بين المسلمين كمثل ثعلب في جحر ، إن صبرتَ عليه أخذته ، وإن تركته لم يضرّك .

 فأمر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، فأذّن في الناس بالرحيل ، فضجَّ الناس من ذلك وقالوا : نرحل عن الطائف ولم تُفتح علينا وقد فتح الله علينا مكة وهي أكبر وأعظم ؟!!

 فأراد رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أن يعلِّم المسلمين طاعة القائد ، فقال : (( فاغدُوا على القتال )) فغـَدَوا ، فأصابت المسلمين جراحات فتألموا وتمنّوا الرحيل ، فقال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنا قافلون غداً إن شاء الله )) ، فسرّوا بذلك وأذعنوا ، وبدأوا يرحلون ، ورسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ يضحك . . . فلما ارتحلوا واستقلوا ، قال : (( قولوا : آيبون ، تائبون ، عابدون ، لربنا حامدون )) فرددوها .

 وقيل : يا رسول الله ؛ ادعُ على ثقيف .

 قال : اللهم اهد ثقيفاً ، وائت بهم . . .

 لقد بُعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ هادياً إلى الحقِّ داعياً ، ولم يبعث جابياً ، وهو نبي الرحمة بالإضافة إلى أنه نبي الملحمة . كيف يدعو عليهم ، وهو يحاربهم لا ليبيدهم إنما ليعطفهم إلى الحقِّ ويأطرهم عليه ؟.

 وهكذا كان ، فلم يمض على ارتحاله عنهم عشرة أشهر حتى جاءه وفد ثقيف في رمضان من السنة التالية ، ولكنْ كيف جرت الأحداث حتى اقتنعوا بالدخول في الإسلام بقضّهـِم وجمعهم ؟!!

 إن رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ لما انصرف عنهم تبعه أحد زعمائهم عروة بن مسعود حتى أدركه قبل أن يدخل المدينة ، فأسلم وسأله أن يرجع إلى قومه يرغّبهم في الإسلام ، قال له رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( إنَّ قومك أزمعوا أن يقتلوك إن عدت إليهم مسلماً ، فما يزالون ممتنعين، يكرهون أن يتركوا دينهم إلى دين الله )) .

 قال عروة : يا رسول الله ؛ أنا أحَبُّ إليهم من أبكارهم ، وكان فيهم كذلك محبّبا مطاعاً .

 قال ـ صلى الله عليه وسلم : فأخرج إذاً . . وأكـِلُ أمرك إلى الله .

 فخرج عروة يدعو قومه إلى الإسلام وهو يرجو أن لا يخالفوه لمنزلته الرفيعة فيهم ، فلما وصل الطائف ، وأشرف على عَليّة له ، وقد دعاهم إلى الإسلام ، وأظهر لهم دينه ، رموه بالنبل من كل وجه ، فأصابه سهم فقتله .

 لم يراعوا فيه منزلته ، ولا مكانته الرفيعـَة فيهم ، لقد حركتهم نخوة الجاهليَّة ، وشياطين الإنس ، ووسوساتُ الجان . وهذا ما نراه في كل زمان ومكان ، لا يرعَون في مؤمن إلاًّ ولا ذمّة .

 قال بعضهم متشفّياً : ما ترى في دمك ؟! ألم يذهب سدى ؟! قال : لا بل كرامة أكرمني الله بها ، وشهادة ساقها الله إليَّ ( يالَيْتَ قَوْمىِ يَعْلَمُونَ ) وما أنا إلا واحد من الشهداء الذين قتلوا مع رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قبل أن يترحل عنكم ، فادفنوني معهم . فدفنوه معهم .

 وقال رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ فيه : (( إنَّ مثـَله في قومه كمـَل صاحب يس في قومه )).

 لقد كان مقتل عروة حدثاً جليلاً في قومه ، جعلهم يفكرون فيما هم عليه ويأتمرون بينهم ، ورأوا أنهم لا طاقة لهم بحرب العرب من حولهم الذين أسلموا ، وبايعوا رسول الله ، فأجمعوا أن يرسلوا إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ رجلاً كما فعل عروة ، ثم أجمعوا على أن يرسلوا وفداً من القبائل كلها كان عددها ستة . وانطلق الوفد إلى المدينة ، فلما دنوا منها لقيهم المغيرة بن شعبة فاشتد ليبشر رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ بقدومهم ، فلقيه أبو بكر فقال : أقسمت عليك ، لا تسبقني إلى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ حتى أكون أنا من يحدثه ، فأجابه المغيرة بن شعبة ، فدخل الصديق على رسول الله فأخبره بقدومهم عليه .

 أما المغيرة فقد جلس إليهم وأعلمهم كيف يحيُّون رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته )) فلم يحيوه إلا بتحيَّة الجاهليّة : عم صباحاً يا محمد . . .

 فأسلموا بعد ذلك وطلبوا أموراً ، منها :

 1 ـ أن يدع الطاغية اللات ثلاث سنين لا يهدمه ، فأبى رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ قالوا فسنة ، قال : (( لا )) قالوا فشهراً قال : (( لا )) . . . لا يجتمع إيمان وشرك أبداً ، وكانت حجتهم أنهم يريدون أن يَسلموا من سفهائهم ، ويكرهون أن يروعوا أهلهم بهدمها حتى يدخلَهم الإسلامُ دخولاً على مراحل دون طفرة !! فبعث رسول الله ـ صلى الله عليه وسلم ـ أبا سفيان والمغيرة فهدماه .

 2 ـ أن يعفيهم من الصلاة . . قال ـ صلى الله عليه وسلم ـ : (( لا دين لمن لا صلاة له ، ولا خير في دين لا صلاة فيه ، إن بين الرجل والكفر تركَ الصلاة . وهي الركن الثاني من الإسلام )) .

 3 ـ أن لا يكسروا أوثانهم بأيديهم . . فهم قريبو عهد بالشرك ، فأجابهم إلى ذلك وأعفاهم منه ، وأمّرَ عليهم عثمان بن أبي العاص وكان أحدثهم سناً لكنّه حريص على التفقه في الإسلام وحفظ القرآن .

 فلا يكون المسلم عظيماً إلا إذا عظم الإسلامُ في نفسه وفَقـِه دين الله وكتابه وكان حريصاً على الاستزادة منه فهماً ودراية ، وعمِلَ بما عَلِمَ ...

               

(1) الدبابة : آلة حربيّة تصنع من خشب ، وتغشى بجلود ، ويدخل فيها الرجال ويدبون إلى الأسوار لينقبوها .