اغتيال الذاكرة قبل احتلال الشعوب

د. نعيم محمد عبد الغني

[email protected]

تعيش الأمة العربية على تراث ضخم من حضارات إنسانية تعاقبت على أرضها منذ القدم، وقد أسهم هذا التراث في تشكيل مفردات الشخصية العربية في جمل مفيدة للإنسانية؛ حيث نعمت حينا من الدهر تحت سلطان العروبة والإسلام؛ لتتفيأ الإنسانية كلها ظلال الرحمة والعدل والمساواة.

ولقد علم أعداء الأمة أنهم لن ينتصروا عليها إلا بطمس هويتها، وبفقدانها ذاكرتها؛ فأنفقوا من وقتهم وأموالهم لهذه الغاية؛ ليشتد أوار الحرب على أمة العروبة والإسلام على كافة المستويات.

وفي قراءة سريعة للسنوات القليلة الماضية لهذه الحرب الشرسة لاغتيال الذاكرة العربية يلاحظ أنها اتخذت لذلك وسائل شتى، كان أبرزها الإعلام الذي يؤثر تأثيرا بالغا في الإنسانية.

وفي السنوات الأخيرة نلاحظ أن الإعلام قد انفتح انفتاحا رهيبا؛ فبعد أن كان مقصورا على صناع القرار في العالم أصبح الآن متاحا ومباحا لكل الأطياف الفكرية من الذين يتحدثون باللغة العربية تاركين ملايين البشر من الذين يتحدثون الصينية مثلا ولا يوجهون هذا الخطاب الإعلامي لهم؛ مما يؤكد نظرية المؤامرة ضد العالم العربي بانفتاح إعلامي ظاهره فيه الرحمة وباطنه من قبله العذاب؛ فمن يتربص بالعرب الدوائر ينفق على الإعلام بمختلف صوره إنفاقا باهظا؛ ليصدوا الناس عن القيم التي أسست حضارة -في فترة لا تساوي في حساب الزمن شيئا- سادت الناس؛ لنرى بعد غزوا فكريا من قبل أعداء العروبة من خلال عملاء من بني جلدتنا ويتكلمون بلغتنا يشنون حربا نفسية على العرب والمسلمين؛ لطمس هويتهم، ومسخهم من هذه الحضارة بدعوى الحداثة والتجديد.

والذي يقرأ التاريخ يلحظ أن الحروب التي كانت موجهة ضد العالم العربي استهدفت العقول العربية؛ فهولاكو أغرق مكتبة بغداد، وأمريكا تركت آثار العراق وتاريخه للصوص الحضارة، وإسرائيل تحاول دوما أن تهدم آثار العروبة والإسلام في فلسطين.

وإنني لأعود إلى الوراء عند غزو نابليون مصر وأتذكر قوله بأن "كلمة واحدة تصنع ما لا يصنعه ألف مدفع" وأراه يهتم بالمطابع من أجل نشر الفكر الفرنسي على المصريين وليس من أجل خدمة الثقافة العربية؛ فأذكر أن هذه المطابع التي كانت وسيلة من وسائل الغزو الثقافي استخدمها العلماء من رواد النهضة في نشر الفكر المستنير.

كما أتذكر حملات المستشرقين لدراسة العالم العربي وتربية أذناب للاستعمار في وطننا العربي- وقد نجحوا بعض الشيء- فأذكر أن هؤلاء المستشرقين قد أسهموا بطريق غير مباشر في استنهاض همم العرب والمسلمين لخدمة تراثهم وثقافتهم، وما المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي الذي صنفه أحدهم محرفا فيه بعض أحاديث النبي –صلى الله عليه وسلم- إلا دافعا للأستاذ محمد فؤاد عبد الباقي –رحمه الله- لإعادة إصدار هذا المعجم وغيره من الأعمال الموسوعية التي أفادت المسلمين في شتى بقاع الأرض.

إننا بحاجة الآن لأن نعيد تجربة هؤلاء الكبار الذين حولوا الحرب ضدهم إلى أدوات تفيدهم في تشكيل العقل العربي الذي ازدهر في مطلع القرن العشرين وهو يرسف في قيود الاحتلال؛ ليخرج عباقرة في كافة المستويات الثقافية والسياسية، فولد جيلا ما زلنا نعيش على آثاره نقدا وتحليلا.

إن الإعلام الآن بحاجة إلى ترشيد ليفيد أمتنا، من خلال ميثاق شرف بين كل الأطراف تتفق فيه على كلمة سواء بأن تقدم للإنسانية النافع دوما على اختلاف معتقداتهم وأفكارهم، ثم يترك كل طيف ليعرض فكره بموضوعية شديدة دون تجريح في أفكار الآخرين.

وإذا كان الإعلام متنفسا الآن للشعوب؛ لتبدي من خلاله آراءها؛ فإن على مثقفي الأمة وعلمائها وساستها ورجال أعمالها من المخلصين الذين يريدون لها النهضة أن يعتصموا بحبل الله جميعا ليكونوا سدا منيعا أمام أي غزو فكري يخرب العقول قبل أن يخرب البلاد؛ فيربوا الناس على الموضوعية، والعقول على تمييز الغث من السمين؛ فتعصم أفكارها من الخلل، وأقدامها من الزلل.