أصح البشائر
أصح البشائر
في مبعث سيد الأوائل
محمد المجذوب
لا حاجة إلى القول بأني أحد المستمتعين بأحاديث الأخ الشيخ علي الطنطاوي ، التي يرسلها عن طريق المذياع قبيل صلاة العصر من كل يوم ، حتى لا يكاد يفوتني أحدها إلا تحت ضغط الضرورة ، فالشيخ ـ حفظه الله وبارك في حياته ـ قد أصبح منذ بدأ هذه الأحاديث أنيس الجماهير ، إذ اقتحم على الناس مساكنهم ومشاغلهم ، واجتذب اهتمامهم فألفوا صوته ، واستعذبوا أسلوبه ، الذي يمزج الجد باللعب ، والعلم بالأدب ، ويخالط مشاعرهم بما يتناول من مسائلهم ومشكلاتهم وتطلعاتهم .. بتلك اللهجة المحببة التي يطلقها على فطرتها ، فتحمل إلى المستمع ـ والرائي ـ نفحات الغوطة ومشاهد قاسيون ، وذكريات دمّر وبردى من دنيا الشام ، دنيا الصبا والشباب والأحلام ..
والله تبارك اسمه ، الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، هو الذي قدر التلاقي والافتراق في نطاق الأفكار ، فقد تتقارب حتى لتجمعها الوحدة ، وتتباين حتى لا يتصور بينها لقاء . وطبيعي أن يرتفع منسوب هذا وذاك بالنسبة إلى أحاديث تكاد تؤلف موسوعة يتعذر تحديدها من المعلومات والمفهومات والتقريرات والفكاهات .. وعلى الرغم من كثرة نقاط التلاقي بين أفكار الأخ علي الطنطاوي وأفكاري ، فهناك مواقف نختلف عليها وقد يبلغ بعضها حداً يقتضي الحوار، فأكتب به إليه أو يعقب في أحاديثه عليه .. وعلى هذا السنن أراني اليوم مدفوعاً لمناقشة واحدة من نقاط الاختلاف التي عرض لها في بعض أحاديثه أكثر من مرة . وقد كان عليّ أن أثير هذه المناقشة معه من زمان ، بيد أن ظروف العمل التي تستحوذ على معظم وقتي حالت دون ذلك من قبل ، وإنما حفزني إليها اليوم خبر اورده ابن إسحاق في تضاعيف السيرة ومرّ به ابن هشام ثم العاملون في خدمتها من المحققين والناشرين دون أن يلقوا إليه بالاً فيما أعلم ..
وبإزاء هذا الخبر وقفت أتأمل وأفكر وأقارن ، حتى انتهيت على القناعة بأن من الخير كتابة هذا البحث لا في شأنه وحده ، بل في أهم جوانب الموضوع المتصل به ، مما سبق أن أثاره في صدري حديث الأستاذ المكرر ..
أما الموضوع ففي نطاق البشائر التي تقدمت مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن مقدمه وبعثه والرسالة العظمى التي يحملها إلى الثقلين جميعاً ، فيجمع بها شمل الإنسانية التي فرقتها العصبيات ، وينشر لأول مرة في تاريخ الدنيا إعلانه العالمي عن حقوق الإنسان في الحياة والكرامة والحرية .
ومهما تكن المناسبة التي دعت الأستاذ الطنطاوي إلى التعرض لهذا الموضوع ، فهي لا تعدو سؤالاً أورده مستمعيه بغية الوقوف على جوابه بشأن ما ذكره كتّاب السيرة النبوية عن المبشرات بظهور رسول الله صلى الله عليه وسلم في مختلف الروايات التاريخية .
وقد رأيت الأستاذ أجزل الله مثوبته يميل صراحة إلى إنكار هذه الأخبار ، ليؤكد خلو ذهن المصطفى صلى الله عليه وسلم من أي علم سابق عن ترشيحه لذلك المنصب الأعلى .. وما أدري أجاء تكراره لهذه الأفكار من قبل الإذاعة التي من عادتها إعادة بعض الحلقات في مناسبات مختلفة ، أم كان جواباً مؤكداً على سؤال جديد في الموضوع نفسه ! .. وعلى أي حال فقد كان لموقفه هذا أثره في صدري كما أسلفت ، لاعتقادي أنه ينطوي على إطلاق لابد من تقييده ، حفاظاً على الحقيقة التي نحبها جميعاً ، ذلك لأن قبول كل ما ورد في السيرة من هذه البشائر ضرب من الاستسلام الضرير، الذي لا تقره الرؤية الإسلامية ، كما أن رفض كل ما يتعلق بهذا الجانب تحكم لا مسوغ له في منطق العلم والعقل ..
وإذن ففي جوابي الأستاذ حول هذه البشائر صواب لا مندوحة عن إقراره ، وفيهما خطأ لا يرضى هو بالسكوت عنه ، ولا يتفق مع منهجه العلمي .. ولننظر الآن في كل من الجانبين على حدة .
· إن المتتبع في وعي لروايات السيرة حول نشأة المصطفى صلوات الله وسلامه عليه يجد نفسه بإزاء أخبار من حقها ـ لو صحت ـ أن تهيئ ذهنه صلى الله عليه وسلم لاستقبال النبأ العظيم .. وفي مقدمة هذه الروايات خبر بحيرا ، الذي تقدمه الرواية على أنه راهب عربي ، اتخذ في طريق القوافل على حدود الشام صومعة يعبد بها ربه ، حتى إذا مرّ به ركب قريش ، وفيه أبو طالب وابن أخيه ـ الذي لم يتجاوز الثانية عشرة بعد ـ شدّت انتباهه ظاهرة غير مألوفة ما لبث أن تحرك لاستكشافها ، فدعا القوم لطعامه ، وأكد عليهم أن لا يتخلف عنه أحد منهم ومن ثم شرع في تحريه ، استقراء عن طريق العلامات المميزة ، واستنطاقاً بالأسئلة التي طرحها على الغلام المنشود ، حتى استيقن الحقيقة التي يتطلع إليها أولو العلم من أحبار يهود ورهبان النصارى .. وهنا تنتهي قصة بحيرا لدى ابن هشام وابن كثير (1) ثم يواصل الثاني حديثه عن بحيرا برواية قراد أبي نوح ، التي تقول إن بحيرا قد أعلن قناعته بكون هذا اليتيم هو المبعوث المنتظر (2).
ثم تأتي الرواية الأخرى عن رحلته صلى الله عليه وسلم بتجارة الطاهرة ـ خديجة ـ إلى الشام ، حيث أتيح لفتاها ميسرة أن يرى ويسمع من خلال محمد صلى الله عليه وسلم ما ملأ قلبه إعجاباً وتقديراً .
ولا تقف الرواية عند هذا الحد ، بل تضم إليه أيضاً بعض المشاهد الخارقة التي أحاطت بالرفيق الكريم أثناء رحلته ، من تضليل الغمام ورعاية الملكين له .. وإخبار راهب نصراني لميسرة بما يفيد أن رفيقه مرشح لمقام النبوة ... (2) حتى إذا وصل ركبهما مكة ذهب ميسرة يحدث مولاته خديجة بمرئياته ومسموعاته ، وبخاصة كلمة الراهب ، فلم تتمالك أن مضت إلى ابن عمها ورقة بن نوفل تذكر له حديث ميسرة ، فما كان من هذا إلا أن أكد لها توقعات الراهب قائلاً : لئن كان هذا حقاً يا خديجة إن محمداً لنبي هذه الأمة .. (3)
وتمضي الرواية فتعرض لنا اهتمام ورقة عقيب ذلك بخبر محمد صلى الله عليه وسلم حتى ليترجم أشواقه إلى يوم إعلانه دعوته بأبيات نثبت فيما يلي بعضها .
لججت ، وكنتن في الذكرى لجوجاً ووصـف من خديجة بعد وصف بـبـطـن الـمكتين على رجائي بـمـا خـبـرتـنا من قول قسّ بـأن مـحـمـداً سـيـسود فينا ويـظـهـر في البلاد ضياء نور فـيـالـيـتـي إذا ما كان ذاكم ولـوجـا في الذي كرهت قريش | لـهـمّ طـالـمـا بعث فـقـد طـال انتظاري يا خديجا حـديـثـك أن أرى منه خروجا مـن الـرهـبان أكره أن يعوجا ويـخـصـم من يكون له حجيجا يـقـيـم بـه الـبرية أن تموجا شـهـدت وكـنت أكثرهم ولوجا ولـو عـجـت بـمكتها عجيجا | النشيجا
ويتبع هذه الروايات أخبار أخرى عن كهنة العرب ، تشير على مبعث النبي الموعود ، مرة بالرمز إليه ، وأخرى بالتصريح عن اسمه .. وحسبنا منها جميعاً معالجة الخبرين الأولين بالممكن من التدقيق في قيمتهما العلمية ومدى صلتهما بالواقع .
ونبدأ بخبر بحيرا .. فمع اختلاف مؤرخي السيرة في شخصيته ونسبه وملته يكادون يتفقون على كونه من أحبار أهل الكتاب ، قد أقام في صومعته تلك يعبد الله في معزل عن مفاسد عصره . وحين يعرضون ليوم لقائه محمداً صلى الله عليه وسلم مع عمه أبي طالب يكادون يتفقون كذلك على تنويهه بشأنه ، بعد تحققه من صفاته التي يجدها في بعض آثار الأنبياء السابقين .. ويزيد بعضهم أنه على مرأى ومسمع من أشياخ الركب (أخذ بيد محمد صلى الله عليه وسلم فقال : هذا سيد العالمين ، وفي رواية الترمذي والبيهقي قال : هذا رسول رب العالمين بعثه الله رحمة للعالمين ..) ولما سأله هؤلاء عن مستند علمه عنه أجاب (إنكم حين أشرفتم من العقبة لم يبق شجرة ولا حجر إلا خر ساجداً ، ولا يسجدون غلا لنبي .. وإني أعرفه بخاتم النبوة أسفل من غضروف في كتفه ..) ولم يكتف بالخبر فأراهم فأراهم الشجرة وهي تفيء بظلها عليه .. ثم ما زال بعمه حتى رده إلى مكة حماية له من الروم ـ وفي رواية من يهود ـ وتختم هذه الرواية بأن أبا بكر بعث معه بلالاً وزوده الراهب بالكعك والزيت (4) .
والذي يهمنا من حديث بحيرا هو إخباره بمستقبل محمد صلى الله عليه وسلم من حيث اصطفاء الله إياه لرسالته الخاتمة ، وتوكيده ذلك بسجود الشجر والحجر له .. فها هنا يتوقف القارئ المفكر ليتساءل عن نصيب القصة من الواقع ، وبخاصة أن بحيرا لم يلق بالخبر همساً في مسمع واحد بعينه بل أعلنه صراحة على ملأ من أفراد الركب ، الذي طالبه أشياخهم بالبرهان على مدعاه ..
وأنت حين تواجه هذا الخبر لابد لك من التساؤل كيف ينسى محمد صلى الله عليه وسلم ذلك النبأ في ما بعد ، وما بال أشياخ قريش ينسونه أيضاً ، فلا يتذكرونه يوم يطلع عليهم بدعوة ربه ؟ .. بل يقابلونها بالجحود والعناد ، الذي يقطع بأن المعارضين قد فوجئوا بها ، كما فوجئ بها محمد صلى الله عليه وسلم نفسه ، الذي ناء تحت ثقله أول الأمر، ثم لم يطمئن قلبه إليها إلا بعد أن ثبته الله بلطفه ، وبما يسر له من عون الزوج العظيمة خديجة ..
ونظرة أخيرة إلى خاتمة القصة تكشف لك عن واحدة من المشكلات التي لا تجد لها حلاً .. إذ المعلوم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم وكان في الثانية عشرة ، يكبر صديقه أبا بكر بما يقارب الثلاث من السنوات ، إذ كان ما بين التاسعة والعاشرة ، ولم تذكر له السيرة أي صلة ببلال ، الذي كان في رق أمية بن خلف حتى يوم انتقاله إلى ملك الصديق في أوائل سني البعثة .. فكيف كبر الصديق حتى قام بمسؤولية الحماية لمحمد ؟.. وكيف أفلت بلال من رق أمية ودخل في سلطان ودخل في سلطان الصديق ؟.. وكيف ارتفعت سنه بغتة حتى صار قادراً على القيام بهذه المهمة ؟ ! ومن أين جاء اسم الكعك إلى القصة وهو لفظ لعله لم يتطرق إلى العربية إلا بعد الفتح الإسلامي ؟!!
وهذه الحيرة التي تراودك بإزاء القصة قد سبقتنا إليها عدد من رجال الحديث الذين لم يستطيعوا ردها تهيباً لسنده ولكنهم لم يكتموا رأيهم بأن من حملها إنما حملها لغرابتها مع التوكيد على انفراد راويها الأخير بها ، حتى أن ابن إسحاق نفسه لم يستطع عرضها إلا في صيغة " الزعم " التي تنم عن منتهى الشك (5) وكذلك فعل ابن كثير حين وجه إليها نقداً يوشك أن يكون رداً للرواية بأسرها ، ومثله صنع الزرقاني في شرحه على المواهب إذ نقل تضعيف الذهبي للخبر (6) كما فعل البيهقي بقوله نقلاً عن أحدهم (ليس في الدنيا مخلوق يحدث به غير قراد) (7) .
وننتقل الآن إلى القسم الثاني .
لقد قام رسول الله صلى الله عليه وسلم بتجارة خديجة وهو في الخامسة والعشرين من سنيه ، وكان رفيقه في هذا الرحلة ميسرة غلامها ، ولابد أنها استغرقت طويلاً من الزمن ، وبذلك أتيح لميسرة وهو العاقل الفهم ـ كما يلوح من خلال الرواية ـ أن يشهد من خلائق محمد وسمو تصرفاته أثناءها ما يدفعه إلى الحديث عنهما لكل من يتصل به وبخاصة مولاته خديجة ، التي لا بد أنها أصغت إلى روايته تلك بإعجاب الكريم الفاضل يسمع أنباء إنسان بلغ القمة في عالم الفضائل ، حتى ليدفعها ذلك الإعجاب إلى التفكير في الاقتران به . وسواء توسلت إلى هذه الأمنية الغالية بعرض أمرها عليه مباشرة ـ كرواية ابن إسحاق (10) ـ أو بوساطة المرأة الحكيمة نفيسة بنت علية (11) أو عن طريق أخت لخديجة في إحدى الروايات ، فقد أتم الله ذلك القران السعيد الذي عم ببركته لا بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم فحسب بل العالم الإسلامي بأجمعه حتى الساعة .
وإلى هنا والخبر طبيعي ومعقول ، ولكن التوقف إنما يتأتى عند بقيته ، حيث نرى خديجة رضي الله عنها مشغولة الذهن بموضوع الغمامة والملائكة وخبر النبوة ، حتى لا تتمالك أن تقصد إلى ذلك الرجل الحكيم العليم ورقة بن نوفل لتتعرف تأويل تلك الظواهر ، فتسمع منه البشرى بنبوة محمد صلى الله عليه وسلم فيكون ذلك باعثها الفعال على طلب الزواج منه .
وبقليل من التأمل في مسيرة هذا الجزء من الرواية يتضح اضطرابه هو الآخر ذلك أن خبراً كهذا تسمعه خديجة من ميسرة ثم من ورقة من حقه أن يصل إلى محمد صلى الله عليه وسلم عقب زواجه أو خلال الخمس عشرة سنة التي سبقت الوحي ، وهذا ما ترفضه الوقائع ، التي تؤكد أن محمداً وخديجة كليهما كانا سواء في خلو ذهنيهما من أمر الوحي ، إذ فاجأه على غير انتظار، وفاجأها به في جو من الروع المهيب ، فلم تجد ما تقوله له سوى التذكير بفضائله التي لا يقاربها الشيطان .. وحسبنا دليلاً حاسماً على خلو ذهنه صلى الله عليه وسلم من موضوع النبوة كلياً قول ربه له تبارك اسمه : [وكذلك أوحينا إليك روحاً من أمرنا ما كنت تدري ما الكتاب ولا الإيمان ..] (الشورى 52) . وهو توكيد جازم لما سبق من قوله الآخر سبحانه في سورة الضحى [ووجدك ضالاً فهدى] ففي كلتا الآيتين تصوير عميق الدلالة على الوضع النفسي الذي كان يلابس محمداً صلى الله عليه وسلم قبل الوحي ، فهو في حيرة لا يعرف السبيل إلى جلائها ، فلا فكرة لديه عن رسالات الله ، ولا يعرف من الإيمان سوى التوحيد الفطري الذي ينطق به كل شيء في هذا الكون ، إلى أن فاجأه الزائر العظيم في أحضان حراء ..
ومن هذا كله نجد أنفسنا تلقاء أمرين : أحدهما الشك في خبر الراهب النصراني عن الغمام والملائكة والشجرة التي (ما نزل تحتها نبي قط) (11) والثاني أن يكون اتصال خديجة بورقة لاستطلاع رأيه لم يأت عقيب عودته وميسرة من الشام ، بل الأحرى أن يكون حصوله على أثر نزول الوحي مباشرة ، يوم عاد إليها رسول الله صلى الله عليه وسلم يرجف من الروع ، فذهبت به إلى ابن عمها الذي طمأنه وبشره بالنبوة (12) .
وعلى هذا التقدير يكون ثمة تقديم وتأخير في أجزاء الحادث المتصل ببشرى ورقة .. ولعلنا لو أعدنا ترتيب هذه الأجزاء وفق منطق الحوادث لوجدنا أنفسنا تلقاء الصورة التالية أو قريباً منها :
يعود رسول الله صلى الله عليه وسلم إثر اللحظة الهائلة التي قدر له فيها لقاء جبريل عليه السلام إلى خديجة يرتجف من الروع ، فتتلقاه بأحسن ما تملك من كريم الرعاية وجميل البيان ، حتى إذا اطمأنت إلى هدوئه ، أخذت سبيلها في زورة عجلى إلى ابن عمها ورقة ، أعلم أهل مكة بأمور الدين ، فما إن يسمع حديثها عن تلك المفاجأة حتى يهزه الوجد ، ويأخذ في التسبيح : قدوس قدوس .. ثم يصرح بالبشرى : (والذي نفسي بيده لئن كنت صدقتني يا خديجة لقد جاءه الناموس الأكبر ـ جبريل ـ وإنه لنبي هذه الأمة ، فقولي له فليثبت) (13) .
وهكذا تعود خديجة رضي الله عنها إلى محمد صلى الله عليه وسلم بكلمة ورقة تشد بها عزيمته ، ولتقول له في ثقة عالية وبألفاظ ورقة نفسها : (والذي نفسي بيده إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة) (14) . وطلباً للمزيد من التثبيت ترى أن يسمع محمد تلك البشرى الشافية من فم صاحبها مباشرة ، ولذلك (انطلقت بمحمد حتى أتت ورقة فقالت له : يا ابن عم اسمع من ابن أخيك .. فأخبره صلى الله عليه وسلم ما رأى فقال له ورقة : هذا الناموس الذي كان ينزل على موسى (14) ومن هنا جعلت الأشواق تتفاعل في صدر ورقة إلى اليوم الذي يؤمر فيه النبي الخاتم بتبليغ رسالة ربه . فلا يتمالك أن يترجمها بتلك الأبيات التي أثبتناها فيما تقدم . ثم يلقى محمداً صلى الله عليه وسلم وهو يطوف بالبيت فيستعيد خبره ، ولعله يستوضحه عما جد له ، فيقص عليه ما رأى وما سمع ، فيكرر وورقة ما قاله من قبل مؤكداً بشراه بالقسم : (والذي نفسي بيده إنك لنبي هذه الأمة) (14) .
ومما يؤكد هذا الاتجاه في ترتيب أجزاء الخبر رواية ابن كثير له حيث يعرض نبأ عودته صلى الله عليه وسلم إلى خديجة وهو يقول : (زملوني زملوني ، فزملوه حتى ذهب عنه الروع ، فأخبر خديجة بأمره . وقال لقد خشيت على نفسي .. فجعلت خديجة تسري عنه بقولها : كلا .. والله لا يخزيك الله أبداً . إنك لتصل الرحم وتقري الضيف وتحمل الكل وتكسب المعدوم وتعين على نوائب الحق ..) ويعقب ابن كثير ذلك بقوله : (فانطلقت به خديجة حتى أتت ورقة ..) إلى نهاية الخبر .
فأنت ترى خلو رواية ابن كثير من هذا القول المنسوب في السيرة إلى خديجة (.. إني لأرجو أن تكون نبي هذه الأمة) وتؤكد ذلك رواية البخاري ومسلم وأحمد والترمذي والنسائي (15) .
ورب متسائل يقول : ومن أين جاء خبر تظليل الملائكة والغمام وسجود الحجر والشجر لمحمد صلى الله عليه وسلم وانهصارها عليه ؟!.. فأقرب جواب على ذلك أن يكون بعض نساخ السيرة ، وربما كان من مسلمة أهل الكتاب ، قد آسفه أن يقرأ في أسفارهم مثل تلك العجائب تواكب بعثة بعض الأنبياء ، ولا يرى مثل ذلك في سيرة محمد صلى الله عليه وسلم وهو الذي أكرمه الله بإمامتهم جميعاً ، فلم ير بأساً في إضافة مثلها إلى بعض أخباره .. بل لا أستغرب أن يكون من هذه الإضافات ذلك الخبر القائل إن يهودياً أطل من أطمه في يثرب ليصرخ في قوة يا معشر يهود .. طلع الليلة نجم أحمد الذي ولد به) (16) وذلك مضاهاة لما تقوله بعض مكتوبات النصارى من أن رجالاً من فارس قد عرفوا بميلاد المسيح عليه السلام من نجم معين فجعلوا يتتبعونه حتى انتهوا إلى مقره في بيت لحم (17) .
وأنا إذ أعرض هذه التصورات لا أنسى أن بعض هذه الأخبار مكتوب في بعض المؤلفات المقدرة عند جمهور المسلمين ، ولكن علينا أن نتذكر كذلك أن لمؤلفيها رأياً معلوماً في التفريق بين التاريخ والشريعة ، فهم إذا رووا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم تشددوا في التحقيق ، وإذا عرضوا للأخبار التاريخية مالوا على التساهل . وليتهم لم يفعلوا ذلك لأن التاريخ في ضوء الإسلام معرض العبر التي يجب على المسلم تطبيقها في حياته ، وإنما يصلح التطبيق إذا صحت الوقائع ، وكا تحريف في عرضها إنما هو مضيعة أو مفسدة للعبرة نفسها ..
ونعود الآن إلى قصيدة ورقة ذات الصلة بهذا الموضوع ، فهي من الناحية الفنية أشبه صياغة بأساليب الشعر المكي أثناء البعثة ، الذي قلما يتوافر له الألق الجذاب ، الذي نعرفه في أساليب الفحول من نجد ويثرب .. إنه أقرب ما يكون إلى نظم العلماء منه إلى غناء الشعراء .. ولذلك لا يستبعد أن تكون نسبتها إلى ورقة الحبر العالم صحيحة لما تحمله من التركيز على الجانب الفكري ، الذي يصور تطلعه إلى موعد الجهر بدعوة المصطفى صلى الله عليه وسلم ليقف بجانبه يشاطره ما سيتحمله من العناء والبلاء في سبيل الله .. ولا نرى حاجة إلى استعادتها مرة ثانية هنا ، ولكن ثمة بعض المؤشرات التي لا مندوحة من التوقف عندها قليلاً .
يقول ورقة (رح) :
لججت وكنت في الذكرى لجوجاً ووصفٍ من خديجة بعد وصف بـبـطن المكتين على رجائي | لـهـمٍ طـالـما بعث فـقـد طال انتظاري يا خديجا حـديـثك أن أرى منه خروجا | النشيجا
بما خبرتنا من قول قس
من الرهبان أكره أن يعوجاوالمراد بالقس هو ذلك الراهب الذي سبقت إشارته إلى نبوة محمد صلى الله عليه وسلم لمجرد جلوسه تحت الشجرة .. وهو بيت غريب عن السياق غرابة خبر الراهب هذا ، ويكاد ينطق بأنه مدسوس على القصيدة دساً ، سواء من حيث صياغته أو مضمونه أو بعض مفرداته ، ففي (يعوجا) محاولة لقسر اللفظ على أن يكون قافية في منظومة لا قرابة بينه وبينها البتة ، فضلاً عن ضياع موضع الربط بين (بما) ومتعلقها أهو (الهم) أم (النشيج) أم (الانتظار) أم (الخروج) ! ولكي تتضح لك غرابة هذا البيت أكثر فما عليك إلا أن تحذفه من خيالك ثم تقرأ بدله البيت الخامس مباشرة :
بأن محمداً سيسود فينا
ويخصم من يكون له حجيمافأحق مكان بتعليق المصدر المجرور أول هذا البيت (بأن ..) هو (وصف) في صدر البيت الثاني .
وهكذا تستكمل الدارة الفكرية تلاقيها ، فينسجم مضمون الأبيات في مجرى واحد لا عوج فيه ولا أمت .. فنشعر أن الباعث النفسي لصياغة القصيدة هو ما قصته خديجة على ورقة من أمر الوحي ، وما سمعه عقيب ذلك من الرسول نفسه عن ملابساته ، وكل ما قيل عن علاقتها بغير هذه المناسبة فهو ادعاء ينقصه الدليل المعقول .
* ولقد آن لنا بعد هذه الرحلة الطويلة أن نعود إلى منطق البحث ، وهو موقف الأخ الكريم الأستاذ علي الطنطاوي وآخرين مثله من موضوع البشائر عن مبعث رسول الله صلى الله عليه وسلم السابقة لظهوره .
وأما جانب الصواب في إنكار هؤلاء الأفاضل فقد أوضحناه مؤيداً بكل ما نملك من الحجج والبينات ، وقد بقي أن نقف بعض الكلام على الجانب الآخر، جانب المبشرات الثابتة بأقوى ما يهتدي به العقل والقلب من وسائل الإثبات .
وقبل التعرض لهذه الوسائل يحسن بنا أن نذكر القارئ بما لا يحسن أن يغفله من المعلومات الأولية ، وهي أن بعثة محمد صلى الله عليه وسلم كانت ولا تزال أعظم أحداث التاريخ البشري قاطبة ، لأن الإنسانية بها انتقلت من صحراء الضياع ، الذي يصوره قول الله تبارك اسمه [ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ...] الروم ـ 41 . ثم قول رسوله الكريم صلى الله عليه وسلم في وصف الوضع البشري أثناء بعثته (.. إن الله اطلع على أهل الأرض فمقتهم عربهم وعجمهم ، إلا بقايا من أهل الكتاب) (18) . إلى ساحة النور فاتضحت معالم الطريق ، وتحددت المسؤوليات ، وانكشف للأبصار ما طمسته الجاهلية من حقيقة الإنسان وتبعاته ، ليهلك من هلك عن بينة ، ويحيا من حيّ عن بينة ..
وحدث له مثل هذا الثقل في موازين الوجود لا يعقل أن يفاجئ الله به الجنس البشري دون أن يمهد له بما يهيئ لاستقباله الأذهان .. ولذلك لم يبعث الله نبياً إلا أخذ عليه العهد بالإبلاغ عن هذا المبعوث الذي يدخره سبحانه لإنقاذ سفينة الحياة من زوابع الضلال ..
يقول جل شأنه في سورة آل عمران : [وإذ أخذ الله ميثاق النبيين لما آتيتكم من كتاب وحكمة ثم جاءكم رسول مصدق لما معكم لتؤمنن به ولتنصرنه . قال أأقررتم وأخذتم على إصري ؟. قالوا أقررنا . قال فاشهدوا وأنا معكم من الشاهدين] .
وفي تفسير هذا الميثاق ينقل ابن كثير عن علي وابن عباس أن الله لم يبعث نبياً إلا أخذ عليه الميثاق لئن بعث الله محمداً وهو حي ليؤمنن به ولينصرنه ، وأن يأخذ الميثاق على أمته لئن بعث محمد وهم أحياء ليؤمنن به ولينصرنه ..
ويقول سبحانه في التعقيب على استغفار نبيه موسى عليه السلام [... ورحمتي وسعت كل شيء فسأكتبها للذين يتقون ويؤتون الزكاة والذين هم بآياتنا يؤمنون . الذين يتبعون النبي الأمي الذي يجدونه مكتوباً عندهم في التوراة والإنجيل يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر ويحل لهم الطيبات ويحرم عليهم الخبائث ويضع عنهم إصرهم والأغلال التي كانت عليهم . فالذين آمنوا به وعزروه واتبعوا النور الذي أنزل معه أولئك هم المفلحون] الأعراف ـ 156 ـ 157 .
وفي هاتين الآيتين يقول ابن كثير أيضاً : وهذه صفة محمد صلى الله عليه وسلم في كتب الأنبياء بشروا أممهم ببعثه وأمروهم بمتابعته ولم تزل صفاته موجودة في كتبهم يعرفها علماؤهم وأحبارهم ..) .
ولقد والله رأينا صفاته في التوراة لا تزال قائمة على الرغم من كل التحريفات التي لحقت بها ، ورأيناها في إنجيل يوحنا منقولة عن لسان عيسى عليه السلام يبشر فيها بمبعث محمد صلى الله عليه وسلم ويحدد صفته بالاسم ، على الرغم من تلاعبهم بتغييره في الترجمة العربية ، إذ جعلوه (المعزي) بدل (أحمد) ويأبى الله إلا أن يفضح المزورين فيكشف الحقيقة بلسان المستشرق الإيطالي الدكتور " نلينو " الذي صرح للشيخ عبد الوهاب النجار بأن اسم المفكر به باليونانية وهو (الفارقليطس) يعني بالعربية الكثير الحمد .. بل لقد كشفوا هم أنفسهم عن تزويرهم هذا بما كتبوه في ذيل الصحف التي حملت البشارة من إنجيل يوحنا المطبوع بالعربية ، حيث يقولون بالحرف الواحد تعقيباً على كلمة المعزي (أن لفظ المعزي ليس له في المتن الأصلي شيء من معنى الحمد . ومن فسره بالمعزي فإنما تحرف عليه لفظ المعزي الذي في الترجمات العربية ..) ومجرد ذكرهم هنا لفظ الحمد دليل قاطع على اختلافهم حول ترجمة اللفظ اليوناني الأصلي ، وعلى أن بينهم من ذهب إلى ربطه بمعنى (الحمد) الذي يراد استبعاده بهذه الحاشية ، فكان ذلك شهادة منهم على أنفسهم بالتزوير والتحريف .. وملاحظة أخرى وهي أن في الفقرة الأخيرة إشارة صريحة إلى وجود ترجمات سابقة بالعربية أثبت فيها اللفظ المشتق من الحمد بدل (المعزي) (19).. ولو أنهم أنصفوا عقولهم وآثروا الحق لتركوا لبشارة المسيح أن تصل إلى آذان الناس وقلوبهم ، لأنها إذ ذاك لن تكون إلا إعلاناً لحقيقة التي بلغها المسيح عليه السلام من قبل في قوله لنبي إسرائيل [ومبشراً برسول يأتي من بعدي اسمه أحمد ] الصف 6 .
ولقد بلغت تلك البشريات في التوراة والإنجيل بمبعث خاتم الرسل صلى الله عليه وسلم حداً لم يبق معه مجال للتجاهل ، حتى اصبح أولو العلم من أهل الكتاب [يعرفونه كما يعرفون أبناءهم] البقرة 146 . ولم يقف أمر هذه البشائر على ذوي العلم من خاصة أهل الكتاب وحدهم ، بل لقد انتشرت أنباؤها في سوادهم ، حتى لقد كان يهود يثرب يوعدون وثنيها من العرب بأن نبياً أطل زمانه سيتبعونه ويقاتلونهم معه فيقتلونهم قتل عاد وإرم [وكانوا من قبل يستفتحون على الذين كفروا .. فلما جاءهم ما عرفوا كفروا به .. فلعنة الله على الكافرين] البقرة 89 .
وحسبنا بهذه الشهادات الدامغة أدلة مقنعة بما أسلفناه من أن ذكر محمد صلى الله عليه وسلم كان محفوظاً في الكتب المقدسة ، وعلى السنة أهل العلم ، الذين كانوا ولا يبرحون يتوارثونه جيلاً عن جيل منذ بعث الله أول نبي وحتى تقوم الساعة .
وليست قصة سلمان رضي الله عنه وضربه في الرض بحثاً عن الحق وتلقيه خبر محمد صلى الله عليه وسلم وعلاماته من أسقف عمورية ، إلا واحداً من نقول الثقات بعضهم عن بعض لهذه المبشرات .
وحتى موروثات الهنود والفرس القديمة من علوم أسلافهم لم تخل من هذه المبشرات ، وقد عني بالحديث عنها كثيرون من مؤرخي المسلمين كابن حزم والشهرستاني وابن تيمية ورحمة الله الدهلوي ، وفي كتاب (مطلع الأنوار) لعباس محمود العقاد نماذج وفيرة لمن شاء المزيد من أخبارها . ويقول الأخ الدكتور ضياء الرحمن الأعظمي ـ الهندي ـ أنه معنى بتأليف كتاب يحمل الكثير من بشائر الكتب الهندوسية بمحمد صلى الله عليه وسلم (20) .
وسأختم هذا العرض بواحدة من هذه البشائر التي لا مجال للمراء في مدلولها ، وقد اخترتها من الكتاب المنسوب إلى أشعياء في مجموعة العهد القديم .
في الإصحاح 35 من رؤى أشعياء يعرض هذا النبي صورة رائعة الوضوح والجلال للحدث العظيم الذي أطل على الدنيا ببعث محمد صلى الله عليه وسلم فيرينا معالم الخير الذي غمر الجزيرة العربية ، والحضارة المثلى التي نشرها الإسلام ، لا في الإنسان وحده بل في كل شيء .
فلنستمع إليه يفصل مرئياته من وراء أكثر من ألف سنة قبل بعثة ذلك المنقذ العالمي الذي اصطفاه الله رحمة للعالمين :
يقول أشعياء : تفرح البرية والأرض اليابسة ، ويبتهج القفر ويزهر كالنرجس يزهر أزهاراً ويبتهج ابتهاجاً ويرنم .
يدفع إليه مجد لبنان بهاء كرمل وشارون ، هم يرون مجد الرب بهاء إلهنا .
شددوا الأيادي المسترخية والركب المرتعشة ثبتوها . قولوا لخائفي القلوب تشددوا لا تخافوا هو ذا إلهكم . الانتقام يأتي جزاء الله هو يأتي ويخلصكم .
حينئذ تتفتح عيون العمي ، وآذان الصم تتفتح ، حينئذ يقفز الأعرج كالأيل ، ويترنم لسان الأخرس ، لأنه قد انفجرت في البرية مياه وأنهار في القفر ويصير السراب أجماً ، والمعطشة ينابيع ماء .
في مسكن الذئاب ، في مربضها دار للقصب والبردي .
وتكون هناك سكة وطريق يقال لها الطريق المقدسة ، لا يعبر فيها نجنس ، بل هي لهم . من سلك في الطريق حتى الجهال لا يضل .
لا يكون هناك أسد ، وحش مفترس لا يصعد إليها ، بل يسلك المفديون فيها ، ومفديو الرب يرجعون ويأتون إلى صهيون بترنم وفرح ، فرح أبدي على رؤوسهم .. ابتهاج وفرح يدر كانهم ، ويهرب الحزن والتنهد (21) .
إن أشعياء يصوغ مرئياته السعيدة هذه في أسلوب شعري يترقرق بالفرح والبهجة ، فلا يتمالك أن يسكب من مشاعره على الأرض اليابسة فإذا هي تموج بمثل فرحه وبهجته .. حتى ليرى كل شيء فيها يضحك ويزهر ويغني ..
لأن انقلاباً خارقاً قد غير مسيرة الحياة فاستبدلت بكآبة الشقاء والضياع هداية السماء التي ملأت الأرض بنور الله ..
ولذلك يهب بالمظلومين : أن افتحوا قلوبكم للأمل فقد جاءكم الخلاص على قدر، فلا عدوان بعد اليوم ولا بغي ولا طغيان ..
إنه انقلاب شامل يطلق المواهب كلها في جزيرة العرب ، فتنشط العقول ، وتتفجر منابع الحكمة على كل لسان .. وتستحيل الأرض ، التي كانت حتى الأمس مرتعاً للموت ، جنات ترف بالأمن الذي ينعم به كل شيء من إنسان وحيوان .
يا لها معجزة أحالت مرابض الذئاب دوراً للعلم فلا يكاد يرى فيها إلا القارئون والكاتبون والمعلمون ..!
ثم ماذا ؟..
ثم الحرم المقدس الذي طهره الله من نجس الكفر، فلا يرتاده إلا القائمون والعاكفون والركع السجود ..
إليه يزحف الملبون لنداء السماء من كل حدب وصوب ، ومن جوار المسجد الأقصى يفدون لتمجيد الله ، الذي وهب لهم كل هذه النعم ، حتى إذا قضوا حجهم ، وأدوا مناسكهم ، عادوا إلى ربوعهم فرحين بما نالوا من تجلي مولاهم الحق وقد غمرتهم السعادة بما استشعروه من مغفرته ورضوانه ..
لقد قربوا الذبائح في طاعته ، وأكثروا من صدقات الفداء عن كل مساءة يتوهمون أنهم أتوها ، ومن أجل ذلك استحقوا أن يسميهم أشعياء (مَفدِيّي الرب) ..
ويا لها بشارة من حقها أن تذكر أهل الكتاب بالعهد الذي أخذه الله عليهم أن يكونوا أول المؤمنين بالصادق الأمين ، إمام المرسلين ، وسيد الأولين والآخرين ...
عليه صلوات الله وسلامه إلى يوم الدين ..
تذييل
بعد الفراغ من كتابة هذا البحث شاء الله أن أقع على خبر بحيرا في (فقه السيرة) للأستاذ محمد الغزالي وأن أقف هناك على مناقشة المحدث الفاضل الشيخ ناصر الدين الألباني لقول المؤلف (سواء صحت قصة بحيرا أو بطلت) ثم لقوله الآخر في شأنها (والمحققون على أن هذه الرواية موضوعة مضاهاة لمزاعم الإنجيليين في شأن المسيح) حيث يقفي الشيخ ناصر على الفقرة الأولى بقوله (بل هي صحيحة ..) ويحتج لرأيه بأن الترمذي قد أخرج الخبر من طريق أبي موسى الأشعري وعرفه بأنه (حديث حسن) ثم نقل قول الجزري بأن (ذكر أبي بكر وبلال في غير محفوظ) وأردف ذلك برواية البزار عن هذه الفقرة أن الذي عاد بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى مكة رجل آخر أرسله معه عمه. ومن ثم عمد إلى نفي الوضع عن الخبر في الفقرة الثانية محتجاً لصحته بما أورده الإنجيليون من أخبار موسى عليه السلام مطابقة لمضمون القرآن .
وقد دافع الأستاذ الغزالي عن وجهته في الصفحة نفسها محتجاً بتقرير أئمة من أهل الحديث ، كالذهبي الذي يقول ـ في ميزان الاعتدال ـ " مما يدل على بطلان هذا الحديث قوله (وبعث معه أبو بكر بلالاً) وكالحافظ ابن حجر الذي ينقل قوله في (المواهب اللدنية) أن رجاله الثقات
الهوامش :
(1) انظر سيرة ابن هشام ص 183 / ج1 / ط الحلبي / 1375 والبداية والنهاية ص 283 ـ 284 ج 2 / ط المعارف بيروت 1977 .
(2) ابن كثير ج 2 / ص 284 ـ 285 .
(3) ابن هشام ج 1 / ط الحلبي / ص 177 ـ 191 وابن كثير ج 2 / ص 293 ـ 296 .
(4) انظر البداية والنهاية 284 و285 ج 5 وسنن الترمذي ج 5 250 ـ 151 ط السلفية والدلائل للبيهقي 1 / 307 .
(5) و(6) ابن كثير ج 2 / 285 وابن هشام ج 1 / 180 ـ 183 ط الحلبي .
(7) انظر هامش ص 82 من كتاب (الفصول في اختصار سيرة الرسول) ط دار القلم ببيروت .
(8) راجع الدلائل ص 309 ط السلفية .
(9) ابن هشام ط الحلبي ص 189 ج 1 .
(10) ابن هشام ط دار الفكر ج 1 / 205 ـ في الهامش ـ وفي (المنتخب من السنة) تذكر باسم نفيسة .
(11) ابن هشام ط الحلبي ج 1 ص 188 / وعبارة ابن كثير خالية من الظرف " قط " ج 2 ص 294 ويفسر السهيلي عبارة الراهب بقصده إلى محمد صلى الله عليه وسلم وهو بعيد ، وذكر الظرف المستغرق للماضي عند ابن هشام يفيد أنه لم يجلس تحت هذه الشجرة قبل محمد صلى الله عليه وسلم إلا النبيون .
(12) و (13) و (14) ابن هشام ط الحلبي ص 338 ج 1 وانظر ابن كثير ج 3 ص 3 والمنتخب من السنة ج 1 / 73 / 74 .
(15) (المنتخب من السنة) ص 72 ـ 74 ج 1 .
(16) ابن هشام ج 1 / 159 ط الحلبي ، وقريب من ذلك رواية الحاكم في المستدرك عن يهودي فعل بعض هذا في مكة أيضاً ج 2 / 601 ـ 602 .
(17) راجع الفصل الثاني من إنجيل متى .
(18) من حديث طويل أخرجه مسلم .
(19) انظر الفصل 16 من إنجيل يوحنا وحاشيته في الطبعة اليسوعية . ويلاحظ في الفقرة الأخيرة من الحاشية أن ثمة زلقة قلم وضعت كلمة (المعزي) مكان (الحمد) يقول المحشي (ومن فسره بالمعزي) يريد (ومن فسره بالحمد) حسب مفهوم السياق .
(20) الدكتور ضياء الرحمن من خريجي الجامعة الإسلامية وهو اليوم من مدرسيها ، وقد كان هندوسياً فهداه الله إلى الإسلام .
(21) انظر أشعياء صفحة 35 .