لماذا الإصرار علي اللغة العربية
لماذا الإصرار علي اللغة العربية
الداعية أبو فاروق الاحوازي
اصبح هذا السئوال کلما تبسطت الشعوب في علاقاتها بمن فيها العرب و کلما اتسعت هيمنة اللغة الانکليزية في الوطن العربي کلما ازداد حدة و شدة وذلک بين اوساط مجموعة من هواة اللغة الانکليزية بينما يبدو ان طريقة طرح هذا السئوال ليس تقصياً لحقيقة اللغة العربية و ضرورتها او شيئ کهذا بل کل ما في الامر هو اثبات عدم فاعلية اللغة و کفائتها في الايام الراهنة امام کم هائل من التطورات علي شتي الاصعدة الحياتية ما تضخها الماکنة الغربية کل حين و بشکل متواصل، فاستياء الکثير ممن اجادوا اللغة الاجنبية و آنسوها في حياتهم هي الشاهد و الدليل الصارخ علي ذلک سيما الشعوب الاخري العربية القابعة تحت سلطان ثقافة اجنبية بطريقة مماثلة.
و خلافاً لمجري البحث فانا لست في موضع الاجابة علي السئوال الذي مر بداية المشوار و ذلک للابحاث التي سردها العديد من رواد العربية في مجال الذود عن حياضها و کرامتها بل الکلام يدور مدار قضية بقيت في عتمة قد يستصغرها الرائي و الناقد في اول وهلة له و هي بحد ذاتها قضية هامة و مصيرية و التي تقع في مقام الاجابة عن السئوال التالي: لماذا تخلي المواطن العربي او قل البعض منهم عن اللغة العربية و استغني بلغة لا يمکن قياسها بالعربية بنحو من الانحاء؟
لو سبرنا الاوضاع الاجتماعية و السياسية و الثقافية قديماً و حديثاً من اجل فهم علل هجر اللغة الام، لخلصنا الي امور تخول الباحث کي يسترشد بها الي مواطن الضعف التي أحالت لغتنا الحبيبة الي بعض الاهمال من قبل من شغلت فراغ عقولهم الساذجة السمفونية الغربية و کذلک ادراک تهاوي البعض منهم بدءاً من مستوي الکيان القومي الرفيع الي مستوي اللاهوية و الضياع.
مما لا غبار عليه فان اللغة العربية من حيث کونها ثقافة کنظيراتها من الثقافات فانها تتقبل التاثر نتيجة التغيرات و التبدلات التي تطرأ عليها عبر الزمن و العامل يکمن في کونها ثقافة لا اکثر الا ان مدي هذا التغير و درجته يرتبطان مباشرة بقوة الثقافة و عقلانيتها و واقعيتها اصلاً و لذلک کان للغة العربية الاثر الکبير في الثقافات الاخري و کذلک التاثر بشکل معقول في مختلف التطورات السياسية و الثقافية سيما في العهد الاموي و الاشد منه العباسي لفترة شهدت علاقات واسعة النطاق في العلوم و الفنون و التجارة و الدين و هلم جرياً. و خصوصاً امتزاج الاعاجم المسلمين بالعرب القحاح مما استدعي و استثار العربي الي ان يترک کثيراَ من الامور اللغوية التي کان يتفنن بها و التي تکسبه منزلة ريثما يستعملها في خطابه و کتابه ترکها کي يستطيع ان يقابل و يواجه الکم الهائل من العلوم و الثقافات الوافدة فکانت النتيجة الخروج من الاهتمام اللغوي الصارم الي واقع بسيط و مرن و خفيف يمکن تصديره الي الامم الاخري التي اعتنقت الاسلام باسرع وقت ممکن.
الا ان التاثر هذا لم يکن ساحقاً او جذرياً و لم يکن ما ليس بالحسبان (کما نحن عليه الآن) بل کان و کما اسلفنا تاثراً معقولا و مقبولاً و في نفس الوقت واقعياً و ذلک عبر التمهيدات التي خلقها العربي آنذاک و امور کانت و لاتزال تقوّم الشخصيةَ العربية، هذا التاثر الذي لا يعد بشيئ امام الانهيار اللغوي و الثقافي اليوم کان قد تلقاها العربي في ذهنه کصرخة مدوية مفزعة فتفرغ لها بالقلب و القالب و ضحي من اجلها بروحه و جسده.
العلاقات التي حدثت في الايام الخوالي التي طالت جميع المستويات کان من المتوقع ان تقضي علي قسم کبير من الحضارة و بالتالي اللغة ، لکن ماذا حدث هنالک من تطورات حصنت الحضارة العربية بکل ثقلها عن الاندثار و الانصهار ضمن الثقافات الاخري ، فالواقع هو ان العرب القدامي شعروا جيداً بالخطر الداهم و جندوا جل طاقاتهم العلمية و التراثية و الثقافية وجهاً لوجه التيارات القادمة عبر تمهيدات و ارضيات مدروسة و بشکل متقن ما مؤداها التراث الذي نحصد ثماره اليوم بفخر و اعتزاز والذي لو شأنا اليوم باحدث الوسائل ان ناتي باليسير من مثله قد لا نستطيع اليه سبيلا.
اما التمهيدات التي وضعها دون ضياع اللغة العربية اهمها هي تدوين القرآن الکريم ريثما ما شعر الصحابة رضوان الله عليهم بتقلص عدد حفظة المصحف الشريف و حملته اثر الغزوات و الحروب ابان نشر الدعوة الاسلامية. و الاصعب من ذلک تدوين و تبويب اللغة العربية الذي استغرق الکثير من الوقت و الطاقة حيث هجر الکثير من العلماء بيوتهم و اسرهم تجاه تحقيق الامنية المنشودة و هي الحصول علي معجم جامع لالفاظ و مفردات اللغة مهما کلف ذلک من ثمن.
الدوافع الثقافية و النفسية و الدينية العامل و الباعث الوحيد في حفظ اللغة
عاش العربي طيلة مجده الاثيل رافعاً جبينه بين الامم بدوافع يفتقر اليها اليوم و ما نبحث عنها نحن اثناء هذا البحث و هي حسب الترتيب التالي:
الدافع الثقافي و النفسي ثم الديني
يعتقد البعض انه لا يمکن الفصل بين الثقافة و الدين اذ ان الدين جزء الثقافة او الثقافة جزء الدين کما ياخذ العنان آخر و يقول ان السياسة هي الدين بعينه و الدين هو السياسة بعينها و کل يخلط الدين بما اشتهي حتي اصبح الامر من مصاديق المثل المعروف اختلط الحابل بالنابل و کيفما اتفق فثمة فروق و حدود بين الدين و الثقافة بامتياز ليصبح الدين کدين و الثقافة ثقافة فلولا تلک الفروق لضاع حق الانسان في تحديد مصيره و لکان مثله کمثل الببغاء يردد ما يطرق سمعه دون ان يکون له اي تاثير و هذا مخالف اصلاً لقصد الخالق من خلقه الانسان فانه سبحانه خلق للانسان قبل بعثه الانبياء عقلاً مدبراً و ضميراً واعياً ليميز الصحيح من غيره فمن الخطأ الفادح تجاهل العنصر الانساني في التطورات الثقافية و حتي الدينية علي مر العصور و کأن النبي عيسي مثلا حينما دعي الناس الي العبودية الالهية کان الناس لا يفقهون من امر حياتهم و سلوکهم الاجتماعي و الفردي و ما يکون عليه المسيحيون اليوم هو تماماً من تعاليم المسيح بل علي العکس من ذلک فان الجميع يعلم ان العلوم الفکرية و المعرفية هي مدينة کل الدين لامم خلت قبل مولد المسيح بالاف من السنين و لم ياتي النبي الا لاضفاء نکهة الايمان و التقرب الي الله تعالي الي سلوک الانسان في شتي مناحي حياته. فاسمي الامثلة علي ذلک هو مدي سهم الانسان العربي في عصور النهضة الاسلامية من العطاء الذي شغل العالمين بسعته.
هل يمکن ان تکون الثقافة الاسلامية بمختلف شئونها هي من وحي السماء و ان العربي لا حصة له من ذلک؟ ام ماذا؟
لو لمحنا الفترة التي عاشها العربي قبل الاسلام لسلمنا الي ان الدين الاسلامي الحنيف لم يات للناس باکثر من ثقافة العرب بل جاء ليکمل الثغرات الاخلاقية و العقيدية و السياسية حيث ان اموراً کالسماحة و السخاء و النبل و العزة و العفة و الانصاف الي غير ذلک من صفات و خلالٍ حميدةٍ هي کان مما يمتدح العربي بها نفسه و يفخر الي ان جاء النبي محمد(ص) ليکمل المشوار الثقافي تحت ضوء و اشراقة الدين الاسلامي منبعثاً بلغة و ثقافة خاصة بالعرب وذلک ما شهد بها هو و بعظمة لسانه نفسه صلي الله عليه وسلم حيث قال انما بعثت لاتمم مکارم الاخلاق.
اذن کان العربي يتمتع برصيد ثقافي هائل يرفع مستوي ثقته بنفسه بشکل جيد مما جعل منه رجلاً صعباً بدلاً من أن ينقاد الي زاوية ثقافة اخري إذ يري لثقافات الغير حظاً ضئيلاً من الوعي و الاصالة لايمکن الاعتماد عليها و کان يتحرق جوي إثر مشاهدته الشعوب العجمية الهمجية الطائشة التي لا ترقي الي مستوي ثقافته الصاعدة فاصبحت الثقافة إذن الدافع الرئيسي في عدم تنازله عن ثقافته سيما اهم مصادر الثقافة و هي اللغة و لم يکتفي بهذا القدر و انما شاء ان يدخل غيره تحت مظلة ثقافته و يعني من ذلک نجاتهم من مآسيهم الاخلاقية و الاعتقادية، و لاشئ في ذلک من السيطرة او الاستغلال او ما شابهه فکان يري نفسه المنجي و المنجد للعالم من اسار اوهامه و خرافاته في نفس الوقت الذي يشعر بالفخر و الثقة النفسية تجاه ما يحمل من ثقافة وفکر. و علي غرار ذلک ياتي المعزز التالي و هو العنصر النفسي و من ثم الدين الذي نظم الحياة و عبأ القوي کي يصبح هذا الانسان يتحمل کل اعباء الرسالة و يضحي باغلي ما عنده من اجل نشر ثقافته و معنوياتها السامية.
بناءاعلي هذا الأساس يمکن الحصول علي الجواب الواضح خلال مقايستنا المواضيع التي مر ذکرها مع ما يجري اليوم من احداث في الوسط العربي و مقايسة الفرد العربي آنذاک مع الانسان اليومي و ايضاً لماذا اصبحنا نري البعض من بني جلدتنا يتنازلون عن هذه اللغة المعطاءة ، فالجواب هو کلمتان او اکثر بقليل، اعني للاسف تبخر المعنويات و انعدام الاعتزاز بالنفس و الثقة القومية لدي المجتمع العربي العصري اليوم و الحصيلة هي التوجه الي ثقافة بديلة دون اي ترديد.
ان تدهور الثقة بالنفس و الانبهار بالثقافة الاجنبية علي الصعيد الدولي بالتحديد لم يترکا اي شک في التفاتة الشاب العربي الي غير العربية لذلک لم يکن من المنصف اصلا القاء اللوم علي المواطن العربي اذا ما حبذ التکلم باللغة الانکليزية و الانجراف اللاشعوري في بوتقة الثقافة الاجنبية اذ ان الجهات المعنية بالثقافة و الاعلام العربي بکل صنوفه و اشکاله هي المسئولة الوحيدة تجاه ضياع اللغة الحبيبة لحد الآن.
وهنالک امر طارئ علي البحث يجب ايضاحه و هو الاعتراف بالثقافة الغربية الانسانية البحتة : لم يکن الغرب في کثير من الامور الثقافية العنصر المدمر و المهدد لاي ثقافة في العالم انما اصبح رائداً في العديد من المجالات التي تخص الحياة البشرية دون اي التفاتة الي العرق او الدين او اللون و هکذا.. الا ان هناک فوارق شاسعة بين الثقافتين اهمها اللغة فيجب الاحتفاظ بها و عدم التهاون تجاهها لما تتضمن الکثير من المسائل الثقافية و الدينية و السياسية بين البلدان العربية. اذن لم يقصد المقال البت في جميع الحالات الا التي تمثل الصميم و اللب للثقافة العربية کما يعتقد في نفس الوقت عدم الانغلاق الثقافي علي النفس و انه العامل المهدد الاساسي تجاه الحضارة کان و لا يزال.