المنظمة الصهيونية في الميدان الدولي

محمد فاروق الإمام

دروس من التاريخ

المنظمة الصهيونية في الميدان الدولي

محمد فاروق الإمام

[email protected]

بين 21-31 آب عام 1897م عقد في بال المؤتمر الصهيوني الأول الذي أقام المنظمة الصهيونية العالمية وصاغ البرنامج الصهيوني على الوجه الآتي:

تسعى الصهيونية إلى بناء وطن للشعب اليهودي في فلسطين يضمنه القانون العام الدولي

ويرتئي المؤتمر استخدام الأساليب الآتية لتحقيق ذلك:

1- تنمية استعمار فلسطين بالعمال الزراعيين والصناعيين.

2- تنظيم وتلاحم اليهودية كلها (الطوائف اليهودية) بالمؤسسات الملائمة على الصعيدين المحلي والدولي حسب قوانين كل قطر.

3- تقوية وتنمية الوعي ومشاعر القومية اليهودية.

4- اتخاذ إجراءات تمهيدية للحصول على الموافقة (الدولية) حيث هي ضرورية لتحقيق أهداف الصهيونية.

ويتضح من هذا أن التأكيد كان على أمرين: تنفيذ إقامة الوطن القومي أو الدولة اليهودية على نسق الاستيطان الاستعماري. والحصول على الموافقة الدولية حيث هي ضرورية لتحقيق أهداف الصهيونية.

ويقيناً أن السنوات القليلة التي قضاها هرتسل بعد المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897م إلى وفاته في 3 تموز عام 1904م كانت سلسلة من المحاولات للحصول على موافقة الدول الإمبريالية على مساعدة الصهيونية على تحقيق أهدافها، مقابل إسهام المنظمة الصهيونية في تدعيم إستراتيجيتها الإمبريالية.

والملاحظة البارزة في هذا الشأن اتصال الصهيونية بكافة الدول الإمبريالية ابتداءً من الدولة العثمانية المتداعية والإمبراطورية الألمانية الفتية الناهضة حتى الإمبريالية البريطانية العريقة والدولة الإيطالية الحديثة التي بدأت تتطلع إلى الفوز بحصة من المستعمرات.

وإذا كانت اتصالات هرتسل على الصعيد الدولي قد بدأت باجتماعه بالوزير العثماني في 21 حزيران عام 1896م لبحث الاستيطان الاستعماري في فلسطين ، فقد كانت إحدى مقابلاته الأخيرة في 23 كانون الثاني عام 1904م مع ملك إيطاليا الذي أبدى تعاطفاً مع مشروع الصهيونية استيطان طرابلس الغرب تحت الحماية الإيطالية. (احتلت إيطاليا طرابلس الغرب واستعمرتها استعماراً استيطانياً في عام 1912م وما بعد).

والحقيقة أن القيادة الصهيونية، في نشاطها على الصعيد الدولي، كانت ترى مشروعاتها جزءاً من النشاطات الإمبريالية وأعربت عن أهدافها بهذه الروح.

ولا حاجة بنا إلى المغالاة في تقدير أهمية توجه هرتسل إلى المستشار الألماني الإمبراطوري بسمارك ليستشيره في مشروعه ويطالب في أن يقرر في مدى فائدته للإمبريالية الألمانية المناهضة، إنما نريد أن نثبت أن هرتسل كان دائماً يؤكد فائدة مخططه الصهيوني لأوروبا الإمبريالية.

لقد كانت مقابلة هرتسل الأولى لبحث مخططه- قبل انعقاد المؤتمر الصهيوني الأول- مع الدوق الكبير بادن في كارلسرو، وكتب يصفها في يومياته فذكر أنه تكلم حول الفائدة العظمى التي تجنيها أوروبا من إقامة الدولة اليهودية. وأضاف مستعرضاً أقواله أمام الدوق: (وسنبني خطوط السكك الحديدية في آسيا لتكون طريق الشعوب المثقفة. ولن تكون هذه الطريق في حوزة أي من الدول الكبرى).

وقال الدوق- وفي هذا أكثر من مدلول: (وستحل المشكلة المصرية. فبريطانيا تتمسك بمصر لأن عليها أن تدافع عن طريقها إلى الهند).

 ومع هذا ركز هرتسل جهوداً كبيرة لكسب تأييد الإمبريالية الألمانية. وفي مقابلاته الثلاث مع قيصر ألمانيا غليوم الثاني- الأولى في استنبول في 18/10/1898م والثانية في فلسطين 29/10/1898م والثالثة في القدس في 2/11/1898م أكد على الفوائد التي ستجنيها ألمانيا الإمبريالية من تبنيها المشروع الصهيوني وحمايته، فالاستعمار الصهيوني في فلسطين برعاية ألمانيا وحمايتها سيفتح الطريق البري لآسيا من البحر المتوسط إلى الخليج الفارسي (العربي)، وبذلك يدشن عهداً جديداً ويفتح آفاقاً رحبة.

لقد أضاء وجه القيصر- حسب تعبير هرتسل- حين تكشفت أمامه الرؤيا التي رسمها هرتسل بمخططه.

وحين لم تثمر المساعي في إقناع القيصر الألماني لوضع الاستعمار الصهيوني تحت حمايته لاعتبارات دولية أهمها العلاقات الألمانية- العثمانية وعدم رغبة القيصر الألماني في تعكيرها، وبعد أن أحجم السلطان عبد الحميد عندما قابله هرتسل في 19 أيار عام 1901م عن منح (الفرمان) بالاستعمار الصهيوني في فلسطين ركز هرتسل جهوده على كسب تأييد بريطانيا التي بادرت كما أسلفنا إلى عرض استعمار أوغندا على الصهيونيين في عام 1903م.

وإزاء هذا لم يكن غريباً أن يطرق هرتسل أيضاً باب القيصرية الروسية التي اقترفت مذابح اليهود في بعض مدنها محاولة منها إشغال الرأي العام وإبعاد الثورة عن بلادها.

وفي هذا الإطار اجتمع هرتسل بوزير الداخلية القيصري بلهفه الذي عرف بمعاداته اليهود وكان مسؤولاً عن مذبحتهم في كيشينوف، في 10/8/1903م. وفي هذه المقابلة، والمقابلة التي أعقبتها في 14 آب عام 1903م، توصل الاثنان إلى قدر كبير من التفاهم، فهرتسل تعهد بأن تسلخ الصهيونية اليهود عن صفوف الاشتراكيين، وتعهد بلهفة بتمكين المنظمة الصهيونية بالعمل (وكما قال سمح لليهود بالتنظم، الأمر الذي حرمه على المسيحيين)، كما وعد بالتدخل مع السلطان لتسهيل الاستيطان الاستعماري الصهيوني في فلسطين.

وأصبحت مقاومة الحركات الاشتراكية الثورية التي تبناها هرتسل آنذاك تقليداً عميق الجذور في القيادة الصهيونية ولا تزال السياسة الصهيونية في هذا الميدان على حالها.

الخلاف بين الصهيونية العملية والصهيونية السياسية:

ومع نمو التنظيم الصهيوني على الصعيد القطري تبلورت ولاءات المنظمات القطرية كل للدولة القومية التي تنتسب إليها.

وهكذا كان ولاء المنظمة الصهيونية في ألمانيا للإمبريالية الألمانية كما كان ولاء المنظمة الصهيونية البريطانية للإمبريالية البريطانية.

وتجسم هذا الأمر في مجريات المؤتمر الصهيوني السابع الذي عقد في بال بين 27 تموز و 2 آب 1905م، وكان المؤتمر الأول بعد وفاة هرتسل. فلقد تقرر في هذا المؤتمر التخلي عن فكرة استعمار الصهيونية أوغندا والعودة إلى البرنامج الأصيل الذي حدد فلسطين هدفاً للاستيطان الاستعماري الصهيوني.. وعلى الأثر انشق عنه فريق من كبار الصهيونيين البريطانيين بقيادة إسرائيل زانغويل والفوا (الاتحاد الإقليمي اليهودي) وهدفه تنمية استيطان اليهود في أي جزء ملائم من العالم.

وكان هذا الانقسام انعكاساً للصراع بين الدول الإمبريالية في المنظمة الصهيونية.

ورفض المؤتمر العرض البريطاني لاستعمار أوغندا، وتأكيده على العمل العملي في فلسطين، واختياره المصرفي الألماني دافيد ولفسون رئيساً له رجح كفة القوى الصهيونية الموالية للإمبريالية الألمانية مما دفع زانغويل وعدداً من الصهيونيين البريطانيين إلى الانسحاب وإقامة منظمة عرفت بالمنظمة الإقليمية وهدفها التفتيش عن أقاليم لاستعمارها تحت العلم البريطاني!

ولذلك كان طبيعياً فيما بعد أن يحم إسرائيل زانغويل منظمته حين وعدت بريطانيا وعدها المعروف باسم "وعد بلفور"، وبذلك دمجت المخطط الصهيوني بإستراتيجيتها وألغت الفروق بين الصهيونيين البريطانيين والصهيونيين عامة على اعتبار أن الدول الإمبريالية الأخرى لم تكن في الميدان آنذاك.

وقد كانت القوى الصهيونية الألمانية، الحاسمة في المنظمة الصهيونية العالمية حتى بداية الحرب العالمية الأولى حين بدأت مرحلة الحسم بين المجموعتين الإمبرياليتين الكبيرتين في العالم.

آنذاك انعكس الصراع بين القوى الصهيونية الموالية للإمبريالية الألمانية والقوى الصهيونية الموالية للإمبريالية البريطانية في أكثر من ميدان، ويصور حاييم وايزمن هذا الأمر بدون أن يعترف بظاهرة انعكاس الصراع الإمبريالي في المنظمة الصهيونية حين يصف في كتابه (التجربة والخطأ) معركة اللغة التي دارت في عشية الحرب العالمية الأولى في فلسطين، فيكتب عن وجود شبكات تعليم ثلاث في فلسطين الأولى بإشراف (اليانس ازرائيلي يونفرسال) ومقرها باريس ولغة التعليم فيها الفرنسية، والثانية (هلفسفيرين در دويتشن يودين) ومقرها برلين ولغة التعليم في مدارسها الألمانية، والثانية مدرسة (افيلينا دي روتشيلد) في القدس ولغة التعليم فيها الإنجليزية.

ويلاحظ أن منظمة (الهلفسفيرين) كانت أداة الدسائس (كذا بالضبط) الألمانية في الشرق الأدنى.

 ثم ينتقل إلى معركة اللغة فيذكر نشوء (التخنيون) في حيفا تحت حماية ألمانية والمنافسة التي جرت في هيئة (الهلفسفيرين) حول لغة التعليم ويصف دعاة التعليم باللغة الألمانية بيهود القيصر ويضيف أنهم ألمان أكثر من الألمان ولكنه لا يعترف أن دعاة التعليم العبري كانوا من أنصار الإمبريالية البريطانية.

ونجح يهود القيصر الألماني، على حد تعبير وايزمن، في تفضيل اللغة الألمانية بأكثرية ساحقة، ولكن إضراب المعلمين التخنيون في حيفا وتمسكهم بالعبرية حسم الأمر ضد اللغة الألمانية.

وفي هذه الفترة ظهر الصراع بين الدولتين الإمبرياليتين الكبيرتين بريطانيا وألمانيا، في المنظمة الصهيونية، وكأنه خلاف بين الصهيونيين – السياسيين – والصهيونيين العمليين ومع هذا فلم يكن هذا الخلاف مجرد انعكاس الصراع الإمبريالي.

وهنا علينا أن نتوقف عند هذا الخلاف بين الصهيونيين السياسيين والصهيونيين العمليين.

لم يكن هذا الخلاف حول أيديولوجية الصهيونية وأهدافها بل حول أسلوب تحقيقها. ففي حين دعا الصهيونيون السياسيون وكان خطهم مسيطراً في أيام هرتسل إلى استصدار تشريع دولي بتأييد المشروع الصهيوني، دعا الصهيونيون - العمليون - بدون الانتقاص من أهمية- التشريع الدولي- إلى البدء باستيطان فلسطين استعمارياً لخلق حقائق قائمة.

وكان دعاة الصهيونية- العملية - في البداية صهيونيي روسيا القيصرية الذين حاولوا توجيه الهجرة من بلادهم وأوروبا الشرقية إلى فلسطين بدلاً من الولايات المتحدة، ولذلك لم يكن في وسعهم الانتظار حتى تصدر الدول الكبرى وعداً بإقامة الوطن القومي اليهودي أو الدولة اليهودية. وبكلمات أخرى كان الصهيونيون- العمليون- بدعوتهم إلى استيطان فلسطين يحاولون تحويل التيار الجارف من الهجرة عن الولايات المتحدة وغيرها من الأقطار الغربية التي كانت ترحب بالهجرة الأوروبية.

وفي هذا الإطار كانت الدعوة إلى الصهيونية (العملية)، دعوة إلى إنقاذ الأيديولوجية الصهيونية بذاتها وصيانة فكرة الدولة اليهودية، إذ أن الهجرة من أوروبا الشرقية إلى النصف الغربي من الكرة الأرضية أكدت، لا التماسك اليهودي القومي، بل الاندماج الإنساني العام القائم على الرغبة في الهروب من الاضطهاد والتفتيش عن الحياة الكريمة، الحياة الإنسانية.

وهكذا تبلورت الصهيونية (العملية)، في تهجير اليهود إلى فلسطين، التي ألفت آنذاك جزءاً من الدولة العثمانية بدون انتظار وعد دولي بإقامة الدولة اليهودية.

ولكن حين اشتد الصراع الإمبريالي البريطاني- الألماني أصبح في مصلحة الإمبريالية الألمانية التي تحالفت مع الدولة العثمانية أن تسخر الصهيونية لمقاصدها، فتؤيد الاستيطان الاستعماري في فلسطين، الواقعة في الدولة العثمانية، في حين كانت الإمبريالية البريطانية، كما اتضح، تريد تسخير هذه المنظمة، لمقاصد الاستيطان الاستعماري في ممتلكات الإمبراطورية في أفريقيا.

ومع هذا فمن الخطأ تقسيم الصهيونيين بهذه البساطة وبهذا الشكل الميكانيكي، فقد تداخلت الاتجاهات في المراحل المختلفة وكان الانقسام في الولاء الإمبريالي بين الدولتين واضحاً في فترة مشروع أوغندا وحتى عشية الحرب العالمية الأولى.

ونؤكد هذه الحقيقة لأن عدداً من الصهيونيين الذين كانوا من أشد الموالين للإمبريالية البريطانية -وبينهم وايزمن- انتسبوا إلى الصهيونيين (العمليين) وعارضوا مشروع أوغندا بدون أن يعني ذلك تأييداً للإمبريالية الألمانية.

وفي نهاية المطاف اندمجت الصهيونية (السياسية) بالصهيونية (العملية) بعد التخلي عن مشروع أوغندا وأصبح هذا الاندماج يخدم الدولة الإمبريالية التي استطاعت الاستفادة منه- وكانت الإمبريالية البريطانية.