في مفهوم الطائفية
في مفهوم الطائفية
د. عبد الله السوري
من المصطلحات التي زاد تكرارها واستعمالها في مواقع الانترنت السورية، مصطلح الطائفية، وانصب استعمال هذا المصطلح من بعض الكتاب الذين يرون أنهم علمانيون، أو ليبراليون، وكثر نقدهم لي بأني طائفي، وطائفي بامتياز، لأنهم يقرأون لي مواضيع أدافع فيها عن فكر الإخوان المسلمين ومواقفهم ومنهجهم . كما يكررون ليل نهار أن الاخوان المسلمين طائفيون، واتضح لي أننا لسنا متفقين على تعريف الطائفية، و خاصة بعض الكتاب السوريين الحاليين الذين يملأون مواقع الانترنت، بمفردات سـوقية دون أن يكلفوا أنفسهم عناء البحث في معاني المفردات، ومجمل الأفكار، ومناهج الآخرين، واتضح لي أن كتابنا يفهمون مصطلح الطائفية حسب أهوائهم، ودون أن يضعوا لذلك ضابطاً أو معياراً يتفقون بـه مع الآخرين ، وهذا الغموض وعدم الاتفاق على مصطلح خطير وهام في واقع الشعب السوري، دفعني إلى الكتابة فيـه، سائلاً المولى العون والسداد ...
الطائفية والديموقراطية في اللغة :
جاء في المعجم الوسيط : الطائفة : الجماعة والفرقة، وفي التنـزيل { وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا فأصلحوا بينهما } . والطائفة : جماعة من الناس يجمعهم مذهب أو رأي يمتازون بـه . والطائفة : الجزء والقطعة . والطائفي : نسبة إلى الطائف ( مدينة في الحجاز ) أو نسبة إلى الطائفة، والطائفية : التعصب لطائفة معينة ( محدثـة ) ... هكذا يقول المعجـم الوسـيط أن لفظ (الطائفية) بمعنى التعصب لطائفة معينة محدث وليس قديماً في اللغة العربية .. وكان في الجاهلية التعصب للقبيلة كما هو معلوم، وكان أكثر قبحاً من الطائفية المحدثة ...
وعندما نقف عند قوله : الطائفة : الجزء أو القطعة، نفهم منها أن الطائفة ليست الكل، والكل لايسمى طائفة في نظري، لأن الكل ليس جزءاً وليس قطعة ...
وصار معنى الطائفية : هي التعصب لطائفة معينة ( لجزء معين من الكل )، ومعنى التعصب هو محاباة هذا الجزء على حساب الكل، ومن هنا يكمن خطرها، فلوكانت الطائفية تعصباً للكل لاتسمى عندئذ طائفية، بل تسمى انتماء وطني، وقد يكون التعصب للكل محموداً في بعض الأحيان، كما في نشوء الانتماء الوطني أو القومي، والاعتزاز الوطني والقومي، ولانلمس فيه خطراً لأنه تعصب للكل وليس للجزء .
أما الديموقراطية فهي حكم الشعب كما هو معروف لدى القاصي والداني، ومعناه أن يحكم الشعب نفسـه، والمقصود أن يسهم الشعب (كله ) في حكم نفسه ( بجميع طوائفه وفئاته دون استقصاء أحد)، طبعاً عن طريق صناديق الاقتراع حيث يقدم الشعب نوابـاً عنه يمثلونه في الحكم . وفي الديموقراطية يحصل كل جزء على حقـه، ولايتعصب ضـد أي جزء مهما كان حجمـه صغيراً، وتضمن الحقوق للجميع، كما أن الواجبات توزع على الجميع، ولايتحكم ( أي جزء ) في بقية ( الأجزاء ) ...
ومن الواضح أن الطائفية والديموقراطية ضـدان، (وبضدها تعرف الأشياء)، فالطائفية تخدم فئـة واحدة(جزءاًفقط) على حســاب الفئــات الأخرى ( الأجزاء الباقية من الكل )، أما الديموقراطية فإنها تخدم ( الكل ) الجميع , وإذا فرضنا جدلاً تناقض مصلحة الجزء مع الكل، فإن الديموقراطية تحاول جاهدة التوفيق، وعندما تعجز فإنها تحقق مصلحة الأكثرية دون إلحاق الضرر بالأقلية، و( الكل ) مقدم على ( الجزء ) في الديموقراطية، بعكس الطائفية ؛ حيث يقدم (الجزء ) على الكل .
ولذلك أحببت أن أوضح فهمي للطائفية، وأوضح ذلك المفهوم عندما أربطها أو أقارنها بالديموقراطية .
ولا أريد الاهتمام كثيراً بالعودة إلى قاموس اللغة العربية، وأريد أن أقلد الانجليز في هذا الأمر، فمفهوم الكلمة هو مايستعمله الناس اليوم، ومصطلح الطائفية يعني اليوم : ظلم يقع على طائفة من قبل طائفة أخرى من مواطنيهم، بسبب انتمائهم الديني، أو العرقي، أو السياسي، وإن كان سبب الانتماء الديني هو الأكثر شيوعاً .
وهي ظلم تلحقه طائفة ( جزء ) بالكل من أجل تحقيق مصالح خاصة لهذا الجزء، وهذا هو المعنى المتسق مع التعريف .
وينصرف ذهن بعض كتابنا في سوريا إلى أن تُظلم الطوائف القليلة العدد من قبل الطائفة الكبيرة العدد، كأن تـَظلـِم الطائفة السنية وهي (69 % ) من الشعب السوري، تظلم الطائفة العلوية مثلاً وهي (12 % ) من الشعب السوري، أو تظلم الطائفة الإسماعيلية وهي (5ر1 % ) أو تظلم الطائفة الدرزية وهم (3 % ) من الشعب السوري :
يقول ( فان دام ) في كتابه ( الصراع على السلطة في سوريا ) وهو رسالة للدكتوراة محققة وموثقة، ومع الأسف لا أجد غيرها، يقول : ص (16) من الطبعة الثانية :
( 7ر68 % ) من الشعب السـوري مسلمـون ســنيون، والعلـويون ( 5ر11 % )، والدروز (3 % ) والإسماعيليون (5ر1 % ) ...) .
وأعتقد لايوجد عاقل في سـوريا يقول أن شيئاً من الظلم يقع الآن في نصف القرن الذي عشناه ( وهو النصف الثاني من القرن العشرين المنصرم )، لايوجد عاقل يقول أن ظلماً وقع من الطائفة السنية على غيرهم من المواطنين السوريين، وهذا في العموم، أما أن توجد حالات خاصة وقع فيها ظلم، فلا أنكر ذلك، ولايستطيع عاقل أن ينكره ... أما أن يقول المواطنون العلويون لقد ظلمنا العثمانيون، ويحملون السنة السوريين أخطاء العثمانيين، فهذا ظلم لايجوز .. والعثمانيون لهم حالتهم ولامانع من مناقشة الموضوع في مرة أخرى، وأعترف سلفاً بأن ظلماً وقع من قبل العثمانيين ـ في آخر عهدهم ـ على السوريين عامة، على الطائفة السنية، وعلى الطوائف الأخرى، وخاصة على أهل الريف، وربما لحق العلويين أكثر من غيرهم ... كما وقع ظلم من الإقطاعيين على الفلاحين عامة، جميع الفلاحين ( سنيين وعلويين وغيرهم ) ... ومعظم الاقطاعيين كانوا من أهل السنة ( لأن الإقطاعيين هم بقايا الضباط العثمانيين ) ... ويوجد إقطاعيون علويون أيضاً، وأسماء الأسـر الإقطاعية العلوية مشهورة، ولايستطيع أحد إنكارها ...
الطائفيـة تمييز عنصري :
أي عندما يحرم مواطن من حقه في العمل مع أنه يملك مقومات العمل من شهادة وخبرة ولياقة بدنية .. إلخ، ثم يحرم من فرصة العمل لأنه من الطائفة الفلانية ... وتعطى هذه الفرصة لمواطن غيره أقل منه في الشهادة والخبرة واللياقة البدنية لأنه من الطائفة ( السوبر ممتاز ) ؛ فهذه هي الطائفية ... كما عشناها وفهمناها من الواقع وليس من القواميس ..
ووصل الأمر إلى أن يقتل مواطن أو عشرات أو مئات لسبب وحيد وهو أنهم من الطائفة الفلانية ..
هذا هو مفهوم الطائفية السائد اليوم، والذي نجاهد سياسياً وإعلامياً وتربوياً من أجل التخلص من هذا المرض في سوريا المستقبل، سوريا الحرة الديموقراطية، التي لاتقصي أحداًً من أبنائها .
أمثلة عملية واقعية توضح المفهوم :
1 ـ عندما نقول في سوريا : دين الدولة الإسلام، أو دين رئيس الجمهورية الإسلام، وجميعنا يعرف أن نسبة المسلمين في سوريا ( سنة وعلويين ودروز واسماعيليين ) تقترب من ( 90 % ) من الشعب السوري، فهل هذا سلوك طائفي أم ديموقراطي !!!؟ هل هذا المطلب يحقق رغبة فئة قليلة أم يحقق رغبة أغلبية الشعب، ومتى يكون طائفياً، ومتى يكون ديموقراطياً !!!؟
بمعنى آخر لو طرحنا هذا المطلب :
دين الدولة الإسلام أو دين رئيس الجمهورية الإسلام
لو طرحنا هذا المطلب على استفتاء حـر ونـزيـه، بدون تزوير، وبدون (99ر99)، هل يحصل هذا المطلب على أكثر من خمسين في المائة من الناخبين !!!؟ وعندما يحصل على ذلك هل هو طائفي أم ديموقراطي !!!؟ إذا كان هذا مطلب الأكثرية، هل هو طائفي أم ديموقراطي !!!!؟
2ـ ولنذهب أبعد من ذلك، لو طرحنا المطلب التالي : دين رئيس الجمهورية الإسلام ومن المذهب السني، هل هذه طائفية أم ديموقراطية !!!؟
وأيضاً لو طرح هذا المطلب في استفتاء شعبي حـر ونـزيـه، لاتأتي فيه صناديق من إيران كما حصل في الانتخابات العراقية، بل يتم الانتخاب تحت رقابة قضاة شرفاء، كبعض القضاة المصريين الذين أشرفوا على الانتخابات التشريعية المصرية، هل يحصل هذا المطلب على أكثر من خمسين بالمائة، وكلنا يعلم أن أهل السنة والجماعة في سوريا يصلون إلى (70 % ) على الأقل من مجموع الشعب السوري ... وعندما يحصل هذا المطلب على أكثر من خمسين في المائة، هل نقول عنه طائفي أم ديموقراطي !!!؟
3 ـ لو أسس المسلمون السوريون حزباً سياسياً بمسمى إسلامي، هل هذا سلوك طائفي أم ديموقراطي !!!!؟ والمسلمون في سوريا قريب من (90 % ) من المواطنين، فلماذا يتهمون بالطائفية إذا فكروا بحزب سياسي إسلامي ... ألاتوجد في أوربا العلمانية أحزاب مسيحية ديموقراطية !!!؟ هل اعترض الآخرون ومنعوا قيام مثل ذلك الحزب المسيحي الديموقراطي !!!؟
ألا توجد في أوربا منظمات طلابية أو ثقافية إسلامية !!!؟ لماذا لم يقولوا هذه طائفية، وغير جائزة، مع أن المسلمين في أوربا أقليات وليسوا أكثرية كحال المسلمين في سوريا
4- مجـزرة المدفعيـة (1979) :
وتقدم لنا هذه الحادثة المؤلمة نموذجاً سـافرا جداً للسلوك الطائفي، هذا المرض الخبيث الذي رزحت سوريا تحته أكثر من أربعة عقود ...
يشكل المواطنون العلويون (5 ر11 %) من الشعب السوري، فكم كانت ومازالت نسبة العلويين في الجيش العربي السوري !!!؟
من حادثة مدرسة المدفعية المؤلمـة تبين أن ( 90 % ) من طلاب الضباط في مدرسة المدفعية كانوا من العلويين، حيث كان عدد طلاب المدرسة قرابة (300) طالب، أخرج منهم النقيب إبراهيم اليوسف (30) طالباً من أهل السنة ... وحاول أن يقتل الباقين، وهذا العمل الذي قام به إبراهيم اليوسف عمل طائفي لاشك، لأنه أراد أن يقتل طلاب الضباط في مدرسة المدفعية لسبب واحد فقط وهو أنهم علويون، وهذا تفسير واضح ومحدد للسلوك الطائفي ... وقد استنكر الإخوان المسلمون هذه المجزرة في حينها، وأصدروا بياناً نشرته مجلة المجتمع الكويتية ، في شعبان 1399 هـ، أعلنوا فيه استنكارهم لهذه العملية ...
ومما لاشك فيه أن الإسلام يحرم هذه الأعمال أي قتل الإنسان بسبب دينه أو مذهبه، وقد أفاض العلماء بعد عمليات (11 سبتمبر عام 2000) ، وصرحوا أنه لايجوز قتل الكافر لأنه كافر، إذ { لا إكراه في الدين } ... ومن باب أولى لايجوز قتل الإنسان لأنه مخالف لنا في المذهب ...
والسلوك الطائفي الثاني، بل والأهم، الذي نستخلصه من حادثة مدرسة المدفعية هو وجود ( 270 ) طالباً علوياً من أصل (300) طالب مجموع عدد طلاب المدرسة، أي (90 % ) من عدد طلاب المدرسة . ولا أحد ينكر أن النظام الأسدي احتكر الكلية العسكرية للطائفة العلوية، لغاية في نفسـه، وكي يحقق أهدافه وغاياته، والكل يعلم أن عشرات الألوف من الشباب السوري ( غير العلوي ) رفض قبولهم في الكلية العسكرية لسبب طائفي ...
والخلاصة بينت لنا حادثة المدفعية السلوك الطائفي من جانبين :
1 ـ من جهة النظام الأسدي الذي احتكر الجيش للطائفة العلوية، حيث وجدنا نسبة الطلاب العلويين في مدرسة المدفعية (90 % ) .
2 ـ من جهة النقيب إبراهيم اليوسـف وهو بعثي سـني ( ضابط الأمن في مدرسة المدفعية )، الذي قتل هؤلاء الطلاب لأنهم علويون فقط .
والخلاصة أن السلوك الذي يخدم الأكثرية، دون أن يظلم الأقلية، يسمى سلوك ديموقراطي ولايسمى سلوكاً طائفياً، شريطة أن يكون متفق عليه لدى هذه الأكثرية، لأن الأكثرية يستحيل أن تتواطؤ على الظلم .
وأن السلوك الذي يخدم الأقلية على حساب الأكثرية هو السلوك الطائفي . وكذلك لو استغلت الأكثرية الأقلية وسلبتها حقها في المواطنة الحرة الكريمة، فهذا سلوك طائفي أيضاً ... ولكن الطائفية تتضح أكثر عندما تستعمر الأقلية الأكثرية، لأن المتضررين عندئذ أكثر عدداً ...
وقد استغل النظام الأسدي الطائفية ليصل إلى هدفـه، وسخر الطائفة العلوية لذلك، حتى أوصلته إلى ما أراد، ورسخ الممارسات الطائفية، كي يخرب الشعب العربي السوري، والطائفية تخريـب كلها؛ أينما ومتى كانت، وسواء كانت من الفئة القليلة للفئة الكثيرة، كما هي الحال في النظام الأسدي، أو من الفئة الكثيرة للفئة القليلة، وكي نتخلص منها ؛ لابد من الاعتراف بوجودها، فالمريض يقطع نصف الطريق نحو الشفاء عندما يتعرف على مرضه، وقبل أن يشخص الطبيب المرض، يصف له مسكنات ومهدئات وأدوية للوقاية ومقويات عامة، أما بعد تشخيص المرض، والتعرف على الجرثومة التي سببته فإن الطبيب يصف العقار اللازم الصحيح الكافي للقضاء على تلك الجرثومة ... ويؤلمني أن كثيراً من المثقفين في سوريا يتصرفون تجاه هذا المرض الخبيث كما تتصرف النعامة عندما ترى عدوها، فتدفن رأسها في الرمال، كي لا ترى عدوها، أو كما يقولون كي تغيب عن الواقع المؤلم، فلاتراه بعينها، بينما جسمها الكبير واضح أمام عدوها، الذي يتقدم نحوها ليأكلها ...
وهؤلاء المثقفون ـ أصلحهم الله ـ يحرمون عليّ التحدث عن هذا المرض، ويتهمونني بالطائفية، في حين أصف وأشخص الداء العضال، الورم الخبيث، كي نتعاون على معالجته، والشفاء منه ..
والعقار الذي يعالج هذا الداء الخبيث ( داء الطائفية ) هو الديموقراطية، الديموقراطية حيث لاتظلم فئة من قبل فئة أخرى، وحيث يسهم الجميع في خدمة الوطن، ورفع رايتـه، وحيث يسـود فهمنا الذي نطرحه ـ معشر الإسلاميين ـ وهو أن الحكم غـرم وليس غنماً، فهيا نتعاون على توزيع هذا الغـرم على الجميع ...
فلنتفق ـ أيها السوريون ـ على أن لانقصي أحداً، فسوريا تسـع الجميع، وتكفي الجميع، ونسأل الله عزوجل أن يخلص سوريا من هذا المرض الخبيث، قبل أن يستقر في سائر أنحاء البدن ... والله على كل شيء قدير ..