ركائز المشروع الإسلامي وأهدافه

ركائز المشروع الإسلامي وأهدافه

عبد العزيز كحيل

[email protected]

في تحليله للواقع العربي وتأصيله لمشروعه المستقبلي كثيراً ما يربط د.محمد عابد الجابري ذلك بثلاثة نزوعات وأهداف يجب أن تحرك التجربة من الداخل وهي: التوحيد والتمصير والعقلنة، وبما أن التسارع  التاريخي قد تجاوز الدعوة القوميّة من جهة ونظراً لنزوع العالم إلى العالمية العقدية أو الإيديولوجية من جهة ثانية فإنّ هذه الأهداف الثلاث _ بطبيعتها وبشهادة الرصيد التاريخي والواقعي _ هي أليق بالمشروع الإسلامي ، ذلك المشروع الّذي تعرف تجربته خطواتها الحقيقية الأولى ليس عبر التأصيل النظري فحسب ولكن عبر تجارب مؤسساتية تمتدّ إلى أقطار متعدّدة ومجالات متنوعة سياسية ومالية واجتماعية وثقافية يحرّكها مقصد استئناف الحياة الإسلامية وبعث ما يسمّيه د.أبو القاسم محمد حاج حمد  رحمه الله "الإسلامية العالمية الثانية"، ولعلّ إطلالة سريعة على النزوعات الثلاثة تؤكّد أصالتها والتصاقها بمشروعنا البديل أكثر من المشروع القومي المحدود.

1.التوحيد: يعتبر التوحيد الهدف الأوّل بالنسبة للمشروع الإسلامي وذلك بمعنييه العقدي والعام، فعقديا قامت الحضارة الإسلامية على التوحيد الخالص لله في مقابل أصناف الشرك فحقّقت التناغم بين الإنسان والكون وحصّنت النفس الإنسانية من الانفصام وجسدت الحريّة تجسيداً حقيقيّاً بإلغائها للمرجعيات الزائفة وربطها الفرد والمجتمع بالله تعالى كخالق رزاق مدبّر جدير وحده بالعبادة والألوهية، وهذا الهدف الّذي تغفله المشاريع الحضارية الأخرى هو سبب فشلها ولو بعد حين لأن غيابه يترك المعترك للآلهة المزيّفة الّتي كانت تتمثّل قديماً في الأصنام وتأخذ الآن صور العلم والتقنية والاقتصاد ونحوها فتتعدّد بذلك المراجع الكبرى ويسود الهوى وتطغى الشهوات فتطمس معالم السعادة في متاهات التخبّط الإنساني على مستوى التصوّر والسلوك، أمّا بمعناه العام فإن التوحيد يعني العمل على تجميع الطاقات الإسلامية العاملة في نسق متآلف يسوده التنوّع المثري والتعاون على المتّفق عليه باعتبار ذلك غاية ممكنة بديلة عن دعوى التوحيد التنظيمي للحركات والطاقات الإسلاميّة على اختلافها في الرؤى والأساليب وقد انتبهت الفعاليات الإسلامية إلى أهميّة عنصر التوحيد بمعنييه العقدي والعام فانبرت لتأكيده في مواجهة الشرك الحديث الّذي يطمس إنسانية البشر وينخر في المجتمع الإنساني الّذي انخدع بألوهية العلم والتقنية والاقتصاد.

2. التمصير أو التمدين: من اللطائف الملفتة للانتباه تسميّة يثرب بعد الهجرة "المدينة" إيذاناً بانطلاق عهد المدنيّة والحضارة على أنقاض البداوة والقرية الصغيرة والقبيلة ولم يكفّ الإسلام منذ ذلك الوقت عن توسيع رقعة المدنيّة ونشر أخلاقها وبث ركائزها فبرزت المدن والحواضر شرقاً وغرباً وانتقلت الأمم الموحّدة من خشونة البداوة إلى رقّة الحضارة، كما يمكن ملاحظة أن التراجعات الّتي حدثت في تاريخنا جاءت مقرونةً بهجمات البدو كما حدث مع التتار وبني هلال، وإلى عهد قريب مازالت بعض الحركات الإسلامية تتّسم بالعقليّة البدويّة والروح الأعرابية المتحكّمة في الفقه والذوق، ولنذكر على سبيل المثال أن التجديد الّذي قام به الشيخ محمد بن عبد الوهاب _ رحمه الله _ كان مناسباً لبيئته لذلك تعثّر بل أفضى إلى نتائج عكسيّة وخيمة عندما أخرجته بعض الحركات من تلك البيئة وأرادت تعميمه على محيط له حظ وافر من المدنيّة والحضارة، فالمشروع البديل يتبنّى النزعة التحضريّة للإسلام المتّسقة مع طموح الجماهير إلى بناء الحضارة الرائدة والانتقال إلى خصائصها ودواليبها ومتطلّباتها في ميادين الاجتماع والسياسة والعلاقات الدوليّة وغيرها وذلك بالخروج المتدرّج الواعي من خشونة البداوة الّتي كثيراً ما تطبع سلوكنا في الميادين المذكورة بل وتبدأ على مستوى الفرد لتمتدّ إلى دوائر الذوق والحس والكلام والتعامل مع الآخر بل والتعامل مع كل من نصوص الوحي وحقائق الواقع، وهكذا يحتاج المشروع المستقبلي إلى دراسات معمقة وافية لفضاءات الحياة الريفيّة وحياة المدينة وحركة التعمير لبسط منظومة فكرية تجمع المحاسن كلّها وتتجنّب إحداث الشروخ في الحياة الفرديّة والاجتماعية ،مع العلم أن كل هذا لا يعني بحال احتقار القبيلة والريف ، ولكن المطلوب هو التركيز على المهمّة التمصيرية للمشروع الإسلامي وما تقتضيه من تجميع وتفتّح وحركة بدل التشرذم السكاني والانغلاق في الأفكار والأذواق والسكون الملازم للحياة البسيطة الّتي لا مكان لها في مطلع القرن الحادي والعشرين.

3.العقلنة: ما يزال المشروع الإسلامي كما كان في صدر الإسلام محتفيا بالعقل كأداة لفهم الوحي والواقع معاً، ومن مهام هذا المشروع اليوم تأكيد عنصر العقلنة ليس بالمفهوم العلماني ولكن باعتبارها حركة ملازمة لهذا الدين منسجمة مع الوحي ضرورية للنشاط الإنساني، ويمكن في هذا ملاحظة الأثر "العقلاني" للإسلام من خلال ما يلي:

· الدين: فقد ارتفع الإسلام به من عبادة الأصنام إلى عبادة الله فحرّر الفعل العقدي والتعبدي من الخرافة وسيطرة الطلاسم والتناقضات والتصورات الصبيانية، وقد ضرب القرآن المثل بإبراهيم _ عليه السلام _ الّذي وصل إلى الدين بعقله عندما أجاله في الكون، ولا يدعو المشروع الإسلامي  الناس الآن إلى التسليم الأعمى لأطروحاته  وإنّما إلى النظر والمناقشة والتبنّي البصير لأن الإنسان لا يكون متديّناً حقّا إلاّ بعد المرور بهذه المراحل.

·العلم: قبل الثورة الفرنسيّة وعصر التنوير بكثير فصل الإسلام العلم عن السحر والكهانة فأطلق العنان للبحث في كل شيء بدءً بالنفس الكون وأصّل للموضوعيّة وأقام حضارة هي أبعد شيء عن الثيوقراطية والكهنوت، وهذا ما يعمل المشروع الإسلامي على تثبيته نظرياً وعملياً ليأمن الباحثون والعلماء وأرباب الفكر على عقولهم ولا يخضعوا إلاّ للحق لتتأسّس حياة جديدة محكومة بالشرع لا بالأشكال الماضوية الجامدة المحسوبة على الدين.

· الحياة الاجتماعية والسياسية: ينطلق المشروع البديل من حقيقة ثابتة هي قضاء الإسلام على فكرة الحكم بالحق الإلهي وذلك بإخضاعه كل الناس لله وإخضاع العمل السياسي لاختيار الجماهير ، كما ينطلق من أن لا طبقيّة إلاّ الطبقات الإيمانية حيث لا يتفاضل الناس إلاّ بالتقوى  في القلوب والعطاء في النشاط الانساني.

 وهكذا تغيب الخرافة ويحضر العقل المنضبط بحقائق الوحي، فتستقيم الحياة الإنسانية... لا نجاح  إذن لمشروعنا إلاّ بتلازم التوحيد والتمدين والعقلنة.