تجربة في تعريب الفلسفة

تجربة في تعريب الفلسفة

خليل أحمد خليل

نشرت مجلة "الحداثة" هذا النص القيّم للدكتور خليل أحمد خليل حول تجربته في تعريب الفلسفة، وننشره لقيمته وتعميماً للفائدة:

- I - كيف لي كلام على تجربة لا تكتمل لأحد، لأنها هي ذاتها غير قابلة لاكتمال او انختام؟ وُلدت كاتباً، بين أب مختار فكّ حرفه بنفسه وأخ متعلّم لكنه بكّر في زواجه ومغادرة المنزل. هكذا وجدتني بين مختار شبه أميّ ومُختارة أميّة تكبرني بستة عشرة سنة، فرضا عليّ الكتابة، بل النسخ او الاستنساخ قبل بلوغي العاشرة، عندما انتُخب أحمد مختاراً لمدينة صور (حي البساتين)، وصار من واجبي نسخ لوائح الشطب، ليحتفظ الوالد بها لدورات تالية. بقي أحمد مختاراً حتى 1991 وما زلت كاتباً. فالكتابة مهنة صمت، كالحب، لا تتناهى، ومن مواليدها الترجمة.

بكلام آخر، أقول: الترجمة كتابة، معرفة سابقة للعقل، كاللغة. واللغة عندي أكثر من عقل؛ هي معرفة عقلية ولا عقلية في آن واحد. لكن لا يكفي أن تكون كاتباً لكي تغدو مترجماً.

الى الكتابة تضاف ألسنة الآخرين. فهاجرت عام 1962 من لساني العربي الى لساني الفرنسي، أي من معرفتي الاصلية (القومية) الى معرفتي الفرنسية (الانسانية)، معرفة الذات من خلال الآخر. وحملت معي لغتي الغنائية المموسقة حيث الألفباء المعروفة عالمياً تزدان بأبجدية – أي بأب وجد – لا مثيل لها على ما أعلم في لغات الأمم الاخرى؛ كما حملت 500ل.ل. هي كل ما كان بحوزة الوالد، آنذاك، ونسخة عثمانية من مصحفي الشريف.هاجرت اذن من لسان أبي وجدي، المشحون بكلمات، كاليونانية والفرنسية والانكليزية، والمتميز من سواه بلغة ولهجة ولغيّة (Jargon)، الى لسان فرنسي، شاءت المصادفة أن يكون لسان معرفتي وانسانيتي الثاني، بعدما بدأت دراستي بالانكليزية عام 1946 في مدرسة الانكليز (صور)، المعروفة باسم المدرسة الانجيلية. وكنت لتاريخه (1962) أعاني صعوبة التفريق بين استعمال فعلي المساعدة

كما ترجما لنا: Auxiliaries-، عنيتُ فعلي الوجود (tre) والملك (Avoir)، فيما كنت مشغولاً عنهما، منذ الأجروتية، بالسعي الى الإفراق بين الألف والألف (ليشن عليه). صفوة القول إني كنت أهاجر من لغة الى أخرى، من لغة مشبّهة معرفياً بالفلسفة الى لغة فلسفية: لغة مشغولة بأصلها من الأب والجد، وبشكلها من الهمزة الفوقية والهمزة التحتية، والهمزة الواقفة في عراء، والهمزة القاعدة على كرسي او عرش؛ ولغة اخرى اساسها تمييز الوجود من الملك، تغصّ بالحركات الصامتة او الساكنة، وباللواصق (البادئات، اللاصقات، اللاحقات) وشكلها متواصل ومتفاصل.

لغتي العربية صدمتني في فرنسا مرتين. الاولى، عندما قرأت "الايام" لطه حسين بالفرنسية، وفهمت أن ذلك (الليشن عليه) كان يعني (ألفاً بلا همزة، غير مهموز)، وتساءلت أكان يلزمني كل ذلك الوقت والهجرة الدراسية الى ليون، لكي أفهم ما لم يفهمه أبي وجدّي؟ الثانية، عندما اشتريت ترجمة القرآن لبلاشير، مع مقدمته المذهلة، واكتشفت سوء قراءتي لقرآني، عندما لاحظت خطأي في لفظ (الجَنّة)، بدلاً من (الجِنَّة)، وأنا أقارن سورة (الناس) بالعربية والفرنسية. لم تكن المسألة بنظري مسألة قراءة (حركة من فوق أو من تحت)، بل كانت مسألة معرفة، وفهمت أن القراءة السليمة تنتج المعرفة الصحيحة، وتُساهم في الكتابة الدقيقة.

- II - أما مشكلاتي اللغوية المزدوجة، فقد عُولجت على مرحلتين: الاولى في فرنسا، حيث جعلتني الدروس المخصصة للطلبة الاجانب، أتجاوز عقدة الوجود والملك؛ فضلاً عن دراستي الجامعية في ليون (اجازة ودكتوراه اولى)، وخصوصاً في مركز الدراسات العربية والاسلامية، حيث تعلمت الترجمة في الاتجاهين من العربية الى الفرنسية ومن الفرنسية الى العربية. وقلت لنفسي: التعريب هو النقل من أي لسان آخر الى عربيتي، والترجمة هي النقل من لساني العربي الى أي لسان آخر.

وعليه، عندما رجعت الى موطني صور (1968) مارست التعريب، وها أنذا اليوم أمارس (الترجمة) بنقل بعض نصوصي من العربية الى الفرنسية (2000-2004). اذاً، بدأ تحوّلي من كاتب (نشر لي أدونيس مجموعتي الشعرية الاولى، الصوت الآخر، عام 1936) الى مترجم ومعرّب في فرنسا؛ وبدأت ممارستي للتعريب في وطني، لبنان، وخصوصاً في عاصمته بيروت (1968) حيث علّمت سنة واحدة في جامعة بيروت العربية، وكان عليّ أن أنقل نصوصاً من الفرنسية الى العربية لطلابي الذين كانوا يدرسون الفلسفة وعلم الاجتماع بالعربية، لكنها في الحقيقة، كانت ترجمة اقتباسية، استشهادية، لا منهجية ولا مبرمجة لكتابة كاملة ونشر مكتمل. بإزاء ذلك، مارست ايضاً ما أسمّيه:

التعريب في الكتابة، او الترجمة في الاتجاهين عندما وضعت أطروحتي الاولى (التعليم الديني في لبنان)، وحرّرت أطروحتي الثانية في الفلسفة (كمال جنبلاط: خطاب العقل التوحيدي، باريس 1984). ولا بد لي، في هذه المرحلة، من استذكار استاذي روجيه أرنالدوز، المتخصص في الفلسفة والحضارة الاسلامية، الذي علّمني مع آخرين في الاجازة، وأشرف على أطروحتي الاولى (بينما أشرف على الثانية الفيلسوف الفرنسي الكبير، فرنسوا شاتليه، 1925-1985). ذات يوم من صيف 1966، بعد إنهائي إجازتي في الآداب والعلوم الانسانية، قصدتُ آرنالدوز في مكتبه الجامعي، وطلبتُ منه الاشراف على أطروحتي. فتبسّم لي، ومالحني بعربية أندلسية: "مسيو خليل، صرت تعرف الفرنسية، لكن العربية؟"، ولم يكمل. ناولني مقدمة ابن خلدون، وطلب مني أن أقرأ صفحة ما منها. ففعلت. ولما انتهيت، قال لي: "عربيّتك مقبولة، لكنها تحتاج الى إتقان". وفهمت منه أنه كان يثق بفرنسيتي أكثر من عربيتي. وهذا ما حداني لاحقاً، بعد إنهائي أطروحتي الاولى بتقدير جيد، الى تجويد لساني العربي برعاية شيخي الكبير، جاري وصديقي، المرحوم عبدالله العلايلي. وفي كل حال، تعلمت كيف أحب باحترام لغة القراءة والكتابة، وهذا يعني احترامي للغة القوم وللقوم ذاتهم. وفوق ذلك استفدت كثيراً من فلسفة العلايلي: "مَن ينقد عليك هو كمن يؤلف معك!" و"اللغة يحييها ويُميتها الاستعمال" الخ.

- III - منذ 1962 حتى اليوم، صار لي بلدان، أحدهما أحمل جنسيته، وثانيهما أحمل ثقافته ومودته. وبالعودة دائماً الى فرنسا التي صادقت لسانها وأحببت انسانها، أذكر تجربتي الاولى مع الفلسفة الغربية، حين كان البروفسور ليون هيستون، ذلك المتفلسف البرغسوني يدرّسنا علم الاجتماع (او الفيزياء الاجتماعية، كما حدّدها أوغيست كومت بإزاء الفيزياء الطبيعية، في عصر داروين، ثم أينشتاين، الخ)، وهو يعلن: "الفلسفة هي لالاند...". وما أدراني ما لالاند؟ هرعت الى المكتبة لشراء معجم لالاند الشهير، لكن الفرنكات لم تكن كافية، اذ لم أكن ممنوحاً كسواي، ولا ابن ثري، يُنفق على النساء والقمار خمسة أضعاف ما أتلقى من أحمد شهرياً.

وعليه، صرتُ كاتباً في مجلة الآداب، مراسلاً ثقافياً، 25ل.ل. في مقابل كل رسالة، وأحياناً 50ل.ل.، ومرة واحدة 75ل.ل. (لقاء دراسة لشعر أدونيس). وقبل ذلك، عام 1961، كنت قد ولدت كاتباً في جريدة "النهار" التي ما برحتُ أتباهى بها، وبكوني كاتباً نهارياً حتى اليوم. صفوة التجربة، أني اشتريتُ معجم لالاند، بفضل عملي في الكتابة التي كان يتخللها تعريب محدود. ورحتُ أقرأ معجم لالاند (المصطلح الفني والنقدي للفلسفة) وهو من أصعب النصوص وأجملها، حيث تتبارى اللغات الست في عناوين صفحاته، بينما تغيب عنه لغتي العربية. وقلت لنفسي (1965)، ذات يوم سأعرّب لالاند كاملاً. ولكني تهيّبت الموقف، ورحت أؤجل حلمي حتى تسعينات القرن المنصرم.

المفيد في مجال التعريب هو أني بدأت حرفتي الثانية بتعريب نصف كتاب، مع الياس فرح الذي لم ألتقه يوماً. تعريب أطروحة عن اليمن الجنوبي، نشرتها دار الطليعة، وتقاضيت عنها 500 ل.ل.، أكبر مبلغ قبضته من تعبي، بعد ذلك المبلغ الذي قبضته من الوالد، يوم سفري الاول الى فرنسا بالباخرة. لتاريخه لم أكن قد ركبت الطائرة، فقررت عامذاك أن أركبها، بعدما زهقت من البواخر التركية ورحلتها المتوسطية (بيروت – مرسيليا: خمسة أيام). وحين سألني الدكتور بشير الداعوق، بعد إنهاء تعريبي، عن المبلغ المتوجب، قلت بلا وعي: "500 ل.ل." فنقدني المبلغ المطلوب، الذي كان يعادل ثمن تذكرة السفر (بيروت – باريس، ذهاباً وإياباً).

- IV - تلازم في تجربتي الكتابية، التعريب والترجمة الابداعية؛ أي الكتابة البديعة. هنا لن أتحدث عن تجربتي كاتباً، وأحيل الى لائحة أعمالي، وسأكتفي بسرد سريع لعناوين معرّباتي: تجربة الجبهة الوطنية في بلغاريا (مع فؤاد شاهين)؛ نحو طريق ثالث في الاقتصاد (أوتو شيك)، أناندا السلام (لكمال جنبلاط، مع نهاد أبو عياش)؛ المثقفون والديموقراطية؛ فلسفة الرفض (باشلار) تاريخ الافكار السياسية (لأستاذي شاتليه، وآخرين)؛ موسوعة مناهج علم الاجتماع (لازار سفيلد، مع فؤاد شاهين)؛ الأطر الاجتماعية للمعرفة (ط. عاشرة، لغووفيتش)؛ العرب (لمكسيم رودنسون) المنطق وتاريخه (لروبير بلانشي)؛ ايديولوجيا الانسان (شاتليه)؛ تكوين العقل العلمي (باشلار) جدلية الزمن (الديمونه، لباشلار)؛ نحو ثقافة سياسية جديدة؛ مداخل الفلسفة المعاصرة (نصوص مختارة)؛ محاضرات في تاريخ الفلسفة (لهيغل)؛ سيكولوجيا التعصب؛ ابن خلدون ومكيافيلي؛ اللسانة الاجتماعية (لجولييت غارمادي)؛ جغرافيا الحضارات (لرولان برتون) الفتنة (لهشام جعيط، في الاصل الفتنة الكبرى)؛ النفس المبتورة؛ قلب الأنثى؛ 21 دولة عربية لأمة واحدة (نودينو)؛ دراسات في تاريخ العلوم وفلسفتها (لجورج كانغيلم)؛ أثر الاسلام في العقلية العربية (غارديه)؛ الله والعلم (جان غيتون مع آخرين) عالم الفيزيائيين (كيلر)؛ الاصوليات (لروجيه غارودي)؛ سكان الكواكب الاخرى (جان – بيار بتي)؛ الحبيب (لمارغريت دوراس)؛ الحضارة العربية (لجاك ريسلر)؛ الاخوان والجامع (لأحمد رواجيه)؛ النظر/ السمع/ القراءة (كلود ليفي – ستروس)، الفوضى الاقتصادية العالمية الجديدة (لجورج قرم)؛ شعلة قنديل (لباشلار)؛ المجتمع الاستهلاكي (لجان بودريار). وفي عام 1996، كان الانتهاء من تعريب موسوعة لالاند الفلسفية.

وبعد ذلك، كان عدد آخر من المعرّبات، أبرزها أعمال يوسف باسيل شلحت: بنى المقدس عند العرب، ومدخل الى علم اجتماع الاسلام؛ ويوم الدم (عاشوراء) للمرحوم الدكتور رالف رزق الله، الخ. فماذا عن تعريب لالاند؟

- V -  مستفيداً من تجربتين متوازيتين في القراءة والكتابة – ومنها التعريب قرّرتُ أخيراً تعريب لالاند كاملاً، في آخر طبعاته مع مقدماته وملاحقه، بعدما لاحظت مدى إفتراسه في بعض المعاجم الفلسفية (العربية)، المعرّبة بمعظمها بلا إعلان، مع اضافات عما كان حال المرحومين جميل صليبا، وعبد الرحمن بدوي، وسواهما. في البداية سعيت الى تعريب جماعي، فشاورت الاساتذة (علي زيعور، محمد عبد الرحمن مرحبا، جورج كتورة، عصام نور الدين)، وتعاونت مع الاستاذ أحمد عويدات ناشراً. ولأسباب لا مجال لذكرها هنا، بقيت وحدي مع لالاند، الذي جعلتني أرضه أخصب من دلالة اسمه (أرض غير ذات زرع). قضيت ستة أشهر في وضع المسارد المناسبة للمصطلحات الرئيسية في المصطلح، الذي رغب الناشر الاستاذ أحمد  عويدات في تسميته (موسوعة) خلافاً للاصل المعروف، فوافقته على فكرته، ما دام شريكاً ليس في النشر فحسب، بل في المراجعة والمناصحة والنقد على النقد. ثم أمضيت أربع سنوات طويلة، تكللت بذبحة لالاندية، قبل صدور الموسوعة! لكن بعد الفراغ من التعريب والتقديم، واضافة آخر الملاحق في الطبعة الفرنسية 18، مع الاعتماد على نسختي الفرنسية القديمة (طبعة 1965). أخذت أعرّب صفحة كل صباح، بعمل منهجي متواصل. ومع كل خبرتي السابقة، اكتشفت مدى حاجتي الى التعلم في هذا المجال، الذي أضفتُ اليه خبرات معاصري في تعريب الفلسفة. فأنا دائماً في مواجهة عقول اخرى، معرفة او فلسفة اخرى؛ وكان من الجنون – كما قال لي سعيد عقل – تعريب العقل الاوروبي العالمي. ومع ذلك لم أنل على (جنوني) هذا أية جائزة، من أي أحد، سوى قرّائي. جائزتي الدائمة هي جمهوري القارئ وطلابي وزملائي. أما الجوائز المالية فلم تكن يوماً على جدول أيامي. ولو حصل شيء من ذلك، لا سمح الله، لفعلت مجدداً ما فعله جان بول سارتر وجابر عصفور، وآخرون! هل لي، ختاماً، أن أقول جديداً في تعريب فلسفة لالاند، بعد هيغل وباشلار  الخ؟ نعم، لقد فهمت تماماً أن المعرفة، لا العقل ولا المنطق، أعني الفلسفة، هي التي تسبق كل شيء، مثلما كان الهيدروجين هو مبدعنا الاصلي. الفلسفة هي هيدروجين المعرفة، والثقافة والحضارة.

ومَن لا فلسفة له، لا ثقافة عنده ولا حضارة. لأنه يكون خارج الحضور، مكتفياً بأبه وجدّه. ومما لفتني في المعرفة الفرنسية هذه، هو أن العقل الفرنسي لم يستنبط صفة للشعر Poésie الا من الشاعر Poète فجاءت البويتيكا (الشاعرية)؛ فيما استنبط أجدادنا لأنفسهم صفة الشعري، ونادراً ما استعملوا (الشاعري؟ الشاعرية). كما لفتني استنباطهم لصفة الفني Artistintique من الفنان Artiste، وغضّوا الطرف عن الفن وصفته Art، فاقترح لالاند مصطلح Article الذي لم يشاركه أحد في استعماله، سواي إبان (او إفان) تعريبه؛ فلم أجد ما يقابله عندنا لولا استذكاري لكلمة (فننو) الشعبية، التي اشتققت منها، لهذه الغاية، صفة (فنني) بإزاء Article لعل أحداً يستفيد من استعمالها. وفوق ذلك، وجدت أنهم حين لا يجدون صفة مناسبة، كما هو حالهم مع Education يلجأون الى الصفة بالاضافة De L'éducation، وإن قال بعضهم بصفة Educationnel، قبل أن تعترف بها الاكاديمية الفرنسية، التي تحرس لغتهم وفنونهم وعلومهم، فيما لغتنا لا يحرسها هنا أحد، سوى بعض الكتبة الذاتيين، كتبة الأب والجد، الذين شاءت المصادفات أن نكون منهم.