القراءة والنص المفخّخ
القراءة والنص المفخّخ :
مات المؤلف / عاش القارئ !
حسن ولد ال
[email protected]
ضمن النظريات الكثيرة التي ما زالت على رغم أنف غبار الأرفف وعاديات الزمان تجد لها أنصاراً في صفوف المشتغلين بالشأن الأدبي، والنقدي تحديداً، في ساحتنا الثقافية العربية، تبرز نظرية التلقي أو "استجابة القارئ"، التي تسعى إلى إعلاء شأن "القارئ" إجمالاً، باعتباره، منتجاً للنص وباثــًّا للمعنى في الأثر الأدبي، بدلاً من "المبدع"، قاصاً كان أم شاعراً، مفكراً أم "حرفياً ثقافياً" عاملا في أي مجال آخر من مجالات التوسع في معاني الكلام الكثيرة.
والملاحظات الآتية تسعى للتنبيه إلى المسار المفهومي الذي تم بموجبه إحلال استجابة القارئ وسلطة النص محل سطوة/ سلطة المؤلف، مع ضرب أمثلة سريعة على ذلك.
* جينيالوجيا "موضة" نظرية الاستقبال:
عندما عنون ميشيل فوكو إحدى دراساته عن التحولات التي عرفتها مكانة المؤلف، المبدع، منتج المعنى بهذا السؤال: "ما هو المؤلف؟" وليس بالسؤال "من هو المؤلف؟" فإنه كان يقصد بوضوح نزع صفات العقل والوعي والسلطة والسطوة، عن هذا الكائن الذي طالما اعتبر حجر الزاوية في العملية الإبداعية، وصاحب الصوت، والسوط أيضاً، المهيمنان على القارئ المتلقي، والذي وصلت الأمور في العصر الرومانسي إلى اعتباره كائناً مقدساً هوائياً، إلى حد دفع الكثير من النقاد الرومنطيقيين إلى التركيز عليه، وتجاهل دور القارئ أو النص أو اللغة نفسها في إنتاج المعنى، أو إضفاء الدلالة، ونسج البنية السياقية للعمل الأدبي، بشكل عام، من حيث هو حضور إنساني في اللغة.
ومع ترسخ الاتجاهات البنيوية وما بعد البنيوية والتقويضية واتجاهات "النقد الثقافي" وقع الإعلان عن "موت المؤلف" وبدأت احتفالية/ موضة صاخبة بدور القارئ تمجد قدرته على إنتاج المعنى وتنظـِّر لاستجابته الخلاقة، ناسية في الوقت نفسه أنها تستبدل وصياً على النص بوصي جديد، وأن كل ما نزعته عن المؤلف من الشارات والهالات الوهمية أو الحقيقية، إذا تم إضفاؤه على القارئ يصبح هو أيضاً، مؤلفاً، وصياً على اللغة وصوتا مهيمناً على ما سواه. هذا إلى جانب كون الدعوة إلى (موت المؤلف) تزامنت أصلاً مع الدعوة إلى (موت الإنسان) نفسه بظهور البنيوية "فلسفة موت الإنسان" بعبارة روجيه جارودي.
لقد أولت الحقبة الرومنطيقية بالذات من تاريخ الأدب الحديث والمعاصر المؤلف عناية زائدة أصبح بموجبها الاهتمام بملابسات حياته وسيرته الذاتية يشغل حيزاً كبيراً من الجهد النقدي. وكان أليوت في مقدمة من دعوا لتجاوز هذه المسألة حين رفع شعار "ليس للشاعر شخصية" وهو شعار يكاد يتطابق ــ كما لاحظ الناقد العربي د. سعد البازعي ــ مع مقولة رولان بارت "إن اللغة هي التي تتكلم وليس المؤلف.
أن تكتب هو أن تصل إلى تلك النقطة حيث اللغة هي التي تفعل وتؤدي وليس الأنا (ضمير المتكلم)". كما أن المدرسة الشكلانية الروسية أساساً، قد أسهمت أيضاً في الدعوة إلى عدم الاهتمام بشخصية المؤلف قدر الاهتمام بالرمز، إلا أن ظهور المدرسة البنيوية وما بعدها كان بداية الإعلان الفعلي و"الحازم" عن (موت المؤلف)، وإن كان ذلك تم بطرق مختلفة شديدة التباين، ففي حين ركز فوكو وبارت على التبشير بنهاية دور المؤلف، لم يذهب جاك دريدا هذا المذهب على نحو قاطع وإن كان سعى لإحلال مفهوم النص/ الكتابة، بديلاً جديداً، هذا في حين واصل ما بعد البنيويون مثل بودريار وجماعة (تيل كيل) وأيضاً غلاة نظرية التأويل مثل بول ريكور وأتباعه، وإلى حد ما رموز الرؤية النصية الجديدة مثل إمبرتو إيكو، ودعاة (النقد الثقافي) باعتباره نعياً للنقد الأدبي، أو لنقل للنص الأدبي نفسه - على نحو ما حاول جوناثان كولر البرهنة على ذلك-، واصل كل هؤلاء عملية نزع أية سلطة نصية مقدسة عن المؤلف ودوره في إنتاج المعنى إذ لم يعد منشئاً له "لا هو مبدع، ولا هو عبقري، وإنما هو مستخدم للغة لم يبتدعها، بل هو ورثها كما ورثها غيره"، وبالتالي فلابد له أن يتنازل للنص وللقارئ الذي يؤوِّل هذا النص، ويستهلك اللغة، عن كل قداسة. بل إن النص الأدبي من حيث هو فضاء لغوي (إنما هو مخزون هائل من الاقتطافات والإشارات التي تنبع من الثقافة وتؤسس بدورها هذه الثقافة فالنص الذي هذا مصدره هو نص متعدد الأصوات بما أنه بني من كتابات مختلفة توجد بينها علاقة ما وليس وحدة عضوية مصدرها المؤلف أو صوته. فالنص مجرد معجم متجانس، تصطف كلماته في تتابعية من العلامات أو الإشارات حسب أعراف مقننة، لا يمكن لمؤلف أن يتجاوزها).إن السؤال المطروح بالنسبة لهؤلاء هو: من يتكلم... بالضبط في هذا لهايد بارك المسمى "نصاً"؟ هل هو المبدع، الشخص، المؤلف (الذات)؟ أم هو اللغة؟إن اللغة هي من يتحدث على نحو ما أكد فوكو بمقولته المشهورة "يعتقد الناس أن لغتهم هي خادمة لهم في حين أنهم هم من يخدمونها، من يقعون في أسرها". إن اللغة بهذا المعنى هي الفاعل الأول والأخير في إنتاج المعنى وفي الإمساك بخيوط لعبة النص. إنها تتحدث على ألسنتنا، تفكر فينا. ولقد قال عالم الأنثروبولوجيا البنيوية كلود ليفي شتراوس، ذات مرة، عن الأسطورة قولاً مشابهاً (نحن لا ندعي..
كيف تختلق البشرية أساطيرها، بل بالأحرى كيف تختلق الأساطير نفسها في البشر دون علمهم بها).إن رفض اتجاهات (النقد الجديد) و(النقد الثقافي) لسلطة المؤلف وإحلال سلطة النص، أو القارئ أو الثقافة بديلاً عنه جاء كرد فعل عنيف وصاخب ضد مقومات النص الكلاسيكي وأسسه النقدية القائمة على نظرية المحاكاة (التي تفترض أن النص يعبر عن غاية سامية مصدرها المؤلف ويحمل رسالة جادة تهم خلاص البشرية) وعلى العكس من ذلك أرادت هذه الاتجاهات ما بعد الحداثية أن تنظـِّر لنص بديل هو عملية إنتاج وليس موضوع استهلاك وهو (مؤلف من مقتطفات ومرجعيات وإحالات وصدى أصوات مختلفة ومن لغات ثقافية متباينة).. وهكذا (يكتسب النص تعددية المعنى التي لا تقبل الاختزال، وهو بذلك لا يسعى إلى إبراز الحقيقة وإنما يسعى إلى نشر المعنى وتفجيره). وطبيعي أن ينحسر دور المؤلف كفكرة وكمقولة في مثل هذا النص الجديد وأن توكل صلاحياته التأويلية التقليدية إما إلى بنية النص نفسه، وإما إلى القارئ الذي غدا منتجا لا مستهلكاً في عملية انتقام من المؤلف واضحة المعالم.
سادية المؤلف صحيح أن المؤلف، أي كاتب النص= أباه الميكانيكي- الطبيعي، يشغل حيزا مهماً في التقاليد الكلاسيكية، فقد كان شخصية مبجَّلة، واستراتيجية سماوية محاطة بهالة
من التقديس، تعبر عنها بشكل ماكر كلمة: "مبدع". إنه منشئ العمل الأدبي، باثـّـه، مبدعه، من يمسك في النهاية بأطراف الخيوط السرية التي تنتسج بموجبها لعبة المعنى، وبمقتضاها يصبح للنص حقل دلالي. وفي المجمل فالمؤلف هو من يحدد لكل شيء في الأثر معناه، ومكانه (إما بما هو مخرج، وإما بما هو عارض للعرائس، وإما بما هو ـ كما يقول جيمس جويس ـ كائن علوي محايد ينظف أظافره بصمت).ويبدو هذا المؤلف واضحاً، نموذجياً في بعض الأعمال الأدبية، والروائية خاصة، فيسعى إلى تشكيل قراءة "قرائه"، وتوجيهها، والتدخل فيها، بل و"تفخيخها" مسبقاً بما يثير هو من أحكام، وما ينصب من فخاخ نصية، وهنا يمكن أن نتذكر مع الأديب والناقد الإيطالي إمبرتو إيكو نموذجاً مثالياً (للمؤلف النموذجي، الذي يتكشف لقرائه بدون حياء منذ الصفحة الأولى فهو يصدر أوامره عما ينبغي أن يشعروا به حتى ولو قصرت الرواية عن التأثير فيهم)، وهذا المثال هو بداية رواية (بندقيتي سريعة) لميكي سبيلين – مع الإشارة إلى أن المصدر هنا ترجمة عربية رصينة- حيث يتوجه الخطاب رأساً إلى القارئ دون مواربة: (عندما تجلس مسترخياً على الكرسي بالقرب من المدفأة في منزلك، هل فكرت فيما يجري هناك في الخارج؟ ربما لا، إنك تأخذ كتاباً فتقرأ عن أشياء وتجني متعة من أشخاص وأحداث لم تقع.. متعة أليس كذلك؟)... وهكذا يستمر الحوار بين المؤلف الذي لم يعد ضمنياً وقارئه الذي أصبح موضوعاً لمجموعة إملاءات وأوامر وكأنه حاضر عياناً أمام المؤلف.
وفي قصة (مقتل روجير أكرويد) لآجاثا كريستي تصل الأمور إلى حد تعرية المؤلف الذي تقمص لسان السارد والقارئ معاً فهو يتحدث عن نفسه بإسهاب كاشفاً عن كل تفاصيل ذاته وعن عاداته أيضاً في الكتابة (أنا فعلاً فخور بنفسي ككاتب) إذ لا شيء يفوق دقة هذه الجملة: (أحضرت الرسائل في الساعة التاسعة إلا عشرين دقيقة وحين غادرته كانت الساعة تشير إلى التاسعة إلا عشر دقائق تماماً ولم تكن الرسالة قد قرئت بعد وتلكأت ويدي لا تزال على مقبض الباب والتفت إلى الخلف لأتأكد من أنني لم أنسَ شيئاً مما يجب عليَّ فعله.. كل هذه حقيقة كما تلاحظ ولكن ماذا لو اكتفيت بوضع نقاط بعد الجملة الأولى؟ هل سيدفع هذا أحداً إلى التفكير فيما حدث خلال ذلك الفراغ الذي دام عشر دقائق؟). ها هنا يمارس ما يمكن تسميته بـ"المؤلف النموذجي" دوره الذميم بعيداً عن كل مواربة فهو يشكل بهذه الطريقة أو تلك نوعية الاستجابة التي يريد أن تتكون لدى القارئ وهي استجابة هنا تتماشى مع أسلوب القصص البوليسية. ولنتذكر مع امبرتو إيكو ما تلا هذا التعليق (يجب أن اعترف بأنني دهشت فعلاً عندما لقيت باركر خارج الباب، فلقد سجلت هذه الحقيقة بكل حرص، وأخيراً وبعد أن اكتشفت الجثة، أرسلت باركر ليهاتف الشرطة واستخدمت كلمات حذرة لا تدينني حين كتبت "عملت الاشياء القليلة التي يتحتم عليَّ فعلها"، لقد قمت بعملين بسيطين، دست المسجل في قيبتي، وأعدت الكرسي إلى مكانه بجانب الحائط). وفي السرد القصصي خاصة إذا أراد المؤلف أن يقول كل شيء، أن يمارس الوصاية على المعنى وأن يمسك بتلابيب القارئ، فإنه يغدو بسرعة أكثر بلاهة وإضحاكا من شخوصه حتى لو ازدحمت بهم القصة بشكل كاريكاتوري لا يطاق.
بل إن الأليق للقاص/ السارد –لا داعي لأن يضحك أحد على ذقن أحد آخر- هو أن يكتفي بالتلميح، وأن يعترف بقدرة القارئ على إنتاج المعنى (فكل نص هو في المحصلة النهائية، آلة كسلى تطلب من القارئ أن يقوم ببعض عملها). وهذه الطريقة التي تترك فضاء أبيض للقارئ يتملاه ويملؤه بل ويناور فيه وفق سجاياه الخاصة في القراءة/ الكتابة، تبدو أقرب للتشويق خاصة في القصص. ولنتذكر مقطعا من قصص (أرتور جوردن بيم) للشاعر الأميركي الكبير "أدغار ألان بو" يقول فيه السارد (والآن اندفعنا إلى الشلال الذي تهيأ لاحتوائنا، وفي نفس اللحظة التي انفتحت فيها أمامنا هوة عميقة لتلتهمنا انتصب أمامنا مُكفـَّـن أضخم حجماً من أي إنسان آخر يعيش بين البشر، ذو جلد ناصع كبياض الثلج..)، وهنا يتوقف صوت السارد دون سابق إنذار وتسير الأحداث في اتجاه مغاير، ويترك المؤلف للقارئ أن يتخيل من يكون هذا الكائن... هل هو رجل الثلج؟ أم الغول؟ أم وحش جزيرة كريت.. يتسكع في الأزقة ويتخطـَّف النساء الجميلات، أم ماذا؟ سيبقى القارئ يفكر ويفكر في هوية هذا الكائن، ويعيد إنتاجه، في كل مرة.
على أن "أدغار بو" نفسه مارس أيضاً، وبسادية كاملة المواصفات تقريباً، حضور المؤلف في تبريره لاختياره لطائر الغراب وللازمته التي يكررها في عمله (الغراب) وهي: "بعد اليوم أبدا" كما يترجمها ناقد عربي ندين له بالاقتباس هنا، وذلك بقوله.. (سألت نفسي ما الموضوع الذي يتفق الناس جميعاً على أنه أكثر الموضوعات أسىً وغماً؟: (الموت) كانت الإجابة الواضحة، ثم قلت لنفسي: ومتى يكون هذا الأسى والغم أكثر شاعرية؟ إن في ما سبق أن أوضحته بإسهاب إجابة جميلة هو بلاشك أكثر الموضوعات شعرية في العالم، وإن الشفتين المؤهلتين أكثر من غيرهما لهذا الموضوع، هما بلاشك شفتا محب دمـَّره موت حبيبته. والآن ينبغي عليَّ أن أمزج الفكرتين معاً، محب ينعى حبيبته الميتة، وغراب يردد باستمرار جملة: بعد اليوم أبداً).وهكذا يستدرج المؤلف (أدغار بو) الغراب إلى نافذة المحب، ناعياً بلازمته. ويستدرج أيضا القارئ مقترحاً عليه تأويلا لوجود الغراب، وللازمته وللحيثيات السياقية الأخرى للنص، وفي النهاية يقف أمامه عارياً كما ولدته أمه، في لحظة ضعف "المبدع" عندما يخف من الصفر لتجهيز عدته، ولاستعراض أدواته وتجربتها تباعاً. والاستدراجان معا، تبدو فيهما سلطة المؤلف على إنتاج المعنى واضحة، ومثالية، بقدر ما هي سادية تحرم القارئ والنص من الإسهام في وضع قواعد اللعبة:
لعبة المعنى.
ـ استجابة القارئ: المؤلف مضاداً!في مقابل موت المؤلف التي رسخت بالأساس سلطة النص وصنمية اللغة، ظهرت نظرية الاستقبال كنتيجة لتعاظم دور القارئ في إنتاج المعنى، وقد اهتمت باستجابة القارئ كثيراً الاتجاهات الألمانية خاصة لوقوعها تحت تأثير الناقد الهولندي رومان إنجاردن، وبرز منها خاصة فولفجانج إيزر وهانتر ياوس. أما في النقد الأميركي فقد برز نورمان هولاند، وجيرالد برنس، ولئن كان (النقد الجديد) ركز على النص، فإن هؤلاء وسعوا مجال اهتمامهم ليشمل السياق الخارجي بأبعاده المتعددة من إنتاج واستقبال وتلقٍ، وهي التي يأتي القارئ باعتباره مستقبلا ومنتجا أيضاً، في مقدمتها سواء أكان قارئا مفترضا أم حقيقيا، مروياً له بعبارة برنس، أم قارئا مثاليا حسب تسمية ستالنيفيش وجوناثان كولر.
ومعظم هؤلاء يتفقون على إيلاء القارئ دورا كبيرا في إعطاء العمل الإبداعي الذي يقرؤه معنى بعينه، فالنص بهذا المعنى مفتوح دائما على جميع التأويلات المستمرة، والمتغيرة مع كل قراءة، ولهذا يتحول دور القارئ إلى دور إيجابي نشط بدلا من أن يكون دوراً سلبياً مستهلكاً. دور منتج وبان، يفيض فيه المعنى، حيث يشارك القارئ/ المؤلف المضاد (إن لم يتجاوز) الكاتب في إنتاج النص، الذي غدا "إنتاجية" غفل من الآباء والأمهات. إنه بعبارة أخرى يقوم بإنتاج المعنى في النص، أو من ذاته في عملية اجتياف بالغة التعقيد، وهذا ما يدفع إلى إثارة إشكالات وأسئلة كثيرة، حول الكيفية التي يمكن أن يبقى بها معنى أي نص مقروء مؤجلا إلى أفق غير منظور، لأنه في كل مرة تقع فيها قراءته يتغير معناه، إن كان لا يزال ـ بهذه الطريقة ـ له معنى موضوعي أو دلالي حقيقي.
وهذا كلام يضع تحت دائرة الضوء عملياً سؤالا آخر أدهى وآكد هو: ما الذي يقرؤه القارئ في النص؟ هل يقوم بإسقاط اهتماماته ورغباته على الأثر (نورمان هولاند)؟
أم أن النص نفسه يفرز في القارئ هذه الاهتمامات والنتائج؟ هل ما يملي القراءة والاستجابة هو السياق الاجتماعي الإيديولوجي أو التحيز السياسي أم الحالة النفسية أم الكفاءة القدرة التدريبية المكتسبة للقارئ؟وليس هذا كل شيء، بل هنالك أسئلة جديدة قديمة: هل المعنى وإنتاجه في النص نفسه باعتباره إنتاجية خاماً تستدعي الحفر فيها، أم أنه يوجد لدى القارئ أم عند المؤلف أم خارج الجميع في الفضاء الثقافي أم في اللغة كمؤسسة اجتماعية تتجاوز الجميع؟ وبهذا المعنى: كيف يمكن أن يلتقي القراء، إن قليلا وإن كثيرا، حول معنى ما مشترك، أو اصطلاحي، في نص معين؟ومفهوم أن إجابات نقاد نظرية استجابة القارئ متباينة أيضا على مثل هذه الأسئلة، فهنالك من يعود لأهمية دور النص (لا المؤلف) في تشكيل فهم القارئ، وهنالك من يرسخ مركزية القارئ نفسه ويعطيه كل صلاحيات المؤلف والنص معا، فيفتح له أفق القراءة، ويوسع صلاحيات التأويل. على أن ثمة اتجاها ثالثا يؤكد أن المعنى يتم إنتاجه من خلال تفاعل جميع هذه الأطراف وعموم السياقات. ومن هذا الاتجاه كولر وفيش وآراؤهما حول التداخل النصوصي، هذا في حين يذهب التأويليون إلى أن ما يشكل قراءة القارئ هو (أفق التوقعات) بعبارة ياوس أي (مجموعات التوقعات الأدبية والثقافية والتي يتسلح بها القارئ - عن وعي أو لاوعي- في تناوله للنص وقراءته). بل إن القراءة ـ حسب آيرز ـ من حيث هي إنتاج للمعنى واستشارة للذوق عملية جدلية تبادلية ذات اتجاهين: من القارئ إلى النص، ومن النص إلى القارئ.
وهنا نصل إلى سؤال نحسب أن القارئ ينتظره منذ وقت وهو: إلى أين... من هنا؟ إلى أين يسير النقد الأدبي بعد أن انتقل من موت المؤلف إلى سلطة النص، ومن سلطة النص إلى مركزية القارئ وسلطته واستجابته؟ إن القارئ الحقيقي وليس ذلك النموذجي أو الضمني الذي اختلقه النقاد، إنما هو الإنسان العادي، رجل الشارع، كما يقال، وهذا بدوره تشكل طريقته في القراءة والتلقي واستجابته، ثقافته العادية بكل إبعادها النفسية والاجتماعية والانثروبولوجية، وبكل سذاجتها و"براءتها" وعذريتها، وبالتالي فإن دراسة استجابته لأي نص يقرؤه، لا يمكن أن تتم عبر النقد الأدبي أساساً، وإنما من خلال (النقد الثقافي) كما نادى به كولر، وبهذه الطريقة يقع الحديث عن (موت النقد الأدبي) أيضا، لأنه أصبح جزءا من سياق أشمل وأوسع هو الفضاء الثقافي العام.وهكذا تدرجت الأمور من موت المؤلف إلى موت النص إلى موت القارئ، وأيضا موت النقد الأدبي، مع مجيء (النقد الثقافي) الذي هو بهذا المعنى نعي لكل ممارسة نقدية أدبية، وإنسانية استطراداً.. ولا عزاء للجميع..
كاتب المقال قاص موريتاني